د. إبراهيم الهدهد رئيس جامعة الأزهر الأسبق:الصوم يرقى بالمسلم إلى مقامات روحية عالية

فعل الخير اغتنام للحسنات ليفوز المسلم بخير الدنيا ويتقى شرها

د. إبراهيم الهدهد رئيس جامعة الأزهر
د. إبراهيم الهدهد رئيس جامعة الأزهر

«يرقى الصوم بالمسلم إلى مقامات عالية فى علاقة القلوب بربها بدءا من التقوى ومرورا بالشكر وانتهاء بالرشد هذا ما يوضحه الدكتور إبراهيم الهدهد رئيس جامعة الأزهر السابق  مطالبا باغتنام ما تبقى من ساعات رمضان المباركة».

المجتمع المسلم يصلح بعضه بعضا


يقول  د.إبراهيم الهدهد : «ها هو شهر رمضان يولّي، وقد فاز فيه من فاز، واهتدى فيه من اهتدى، وخاب فيه -والعياذ بالله- من خاب»، والمتأمل لآيات الصيام يرى فيها أن الصوم يرقى بالمسلم إلى مقامات راقية فى علاقة القلوب بربها، بدءا من التقوى، ومرورا بالشكر وانتهاء بالرشد، وكلها خطابات لقلوب المؤمنين، فيكون الصيام هو السُلّم للدرجات العلى، كالشكر والرشد، وذلك كما فى قوله تعالى «لعلكم تشكرون» .


ويضيف الله تعالى يرشدنا فى كتابه الكريم إلى فعل الخير لاغتنام الحسنات فى الدنيا والآخرة، حتى يفوز المسلم بخير الدنيا ويتقى شرها، لينعم بالجنة ودار الخلد فى الآخرة، وأن لطف ولذة النداء فى قوله تعالى «يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام»، تخفف مشقة الطاعة، وهى قاعدة عظيمة نتعلمها من القرآن الكريم، لنطبقها فى حياتنا مع أولادنا وزوجاتنا وكل من نتعامل معه.
ويبين أن الصائم المؤمن يمارس عبادة الرجاء لله وتعلق حصول المطلوب بعد الأخذ بالأسباب، فلا يجوز توقع الخير من الله دون السعى والعمل، موضحا أن الله تعالى حين أنزل القرآن جعل له طريقين، طريق إمتاع يهدى إلى الخير فى الحياة ويهدى النفوس لتشعر باللذة ، وطريق إقناع بالآيات البينات والحجج الواضحة، قال تعالى : «هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان»، ويضيف أن من فضل الله تعالى على الأمة الإسلامية أن خصها بشهر رمضان والقرآن الكريم والتيسير، قال تعالى  : «يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر».
 ويوضح أنه فى قوله تعالى : «لعلكم تشكرون»، أى قوموا بشكر هذه النعم، والتى هى شهر رمضان والقرآن والهداية والبينات وجميع النعم، راجين من الله تعالى أن تصلوا لدرجة الشاكرين، موضحا أن مقام الشاكرين أرقى من مقام المتقين، لأن مقام الشكر يعلم المسلم فى الحياة أن يشكر الله على المنع أكثر من أن يشكره على العطاء، لافتا إلى أن المنع فى حد ذاته عطاء عند المؤمنين، حيث يكون حافظا لهم من الظلم والبغي، فيشكرون الله لأنهم يثقون أنه تعالى ادخر لهم أكثر من ذلك، ويثقون أن الله منع عنهم شرا لا يطيقون تحمله، قال تعالى «ولو بسط الله لعباده الرزق لبغوا فى الأرض».
ويشير إلى أن المقام الثالث من رجاءات الصائمين من رب العالمين، بعد التقوى والشكر، هو مقام الرشد، وهو مقام رفيع، يستقيم به صاحبه على طريق الحق، والعمل به، والثبات عليه،  فعندما يكون المسلم من الراشدين سيكون صالحا مصلحا، وسيهديه الله دائما إلى طريق الخير والإصلاح، فيعيش فى الدنيا لنفسه ولغيره، مؤكدا أن المجتمع المسلم كذلك يصلح بعضه بعضا.
ويوضح أن الله - سبحانه وتعالى - وضع القرآن الكريم ليكون دستورا يبنى مجتمعا نقيا، وبيّن ذلك فى كتابه العزيز، ففى بداية سورة الحجرات،والتى اشتملت على الكثير من الآداب، فبدأت بالأدب مع الله ورسوله-  -، فقال  -تعالى-» يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ».فالأدب مع الله ورسوله  - -  إنما هو تحديد لنمط العلاقة بين العبد وبين ربه.
ثم تحدثت السورة عن العلاقة بين العبد وبين النبى المصطفى -  -  ، فقال  -تعالى-«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا  لاَ  تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (1) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا  لاَ  تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلاَ تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ  لاَ  تَشْعُرُونَ (2) إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (3) إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَاءِ الحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ  لاَ  يَعْقِلُونَ (4) وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (5)»
ثم تناولت السورة علاقة المسلم بالمجتمع الذى يعيش فيه، فحرم الله  -سبحانه وتعالى - السخرية، والهمز ، واللمز، والتنابز بالألقاب، والغيبة والنميمة، وسوء الظن بين المسلمين قال  -تعالى- « يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا  لاَ  يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْراً مِّنْهُمْ وَلاَ نِسَاءٌ مِّن نِّسَاءٍ عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْراً مِّنْهُنَّ وَلاَ تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلاَ تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاسْمُ الفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (11) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلاَ تَجَسَّسُوا وَلاَ يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ (12)»
ويضيف  الهدهد أن الله - سبحانه وتعالى - بيّن أن التفاضل بين البشر لايكون سوى بتقواه - سبحانه وتعالى -، فقال «إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ»، ونظرا لخطورة الهمز واللمز، والذى يكثر فى مجتمع كثر فيه المال، أفرد الحق - تبارك وتعالى - سورة كاملة هى سورة الهمزة قال تعالى- « ووَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (1) الَّذِى جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ (2) يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ (3)».
 ويشير إلى أن مثل هذه الأمراض التى تصيب المجتمع من الهمز واللمز والتنابز بالألقاب، سماها الحق  - تبارك وتعالى- بالفسوق والخروج عن دائرة الإيمان عياذا بالله . ومن أجمل آداب السورة الكريمة أيضا هى ماتعرضت له من علاقة الإنسان بأخيه الإنسان بغض النظر عن دينٍ، أو جنسٍ فقال - تعالى - «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا».فقد تنقل القرآن الكريم بين العلاقات حتى يؤسس مجتمعا نقيا طاهرا بريئا من الغل والحقد والتنابز وسيئ الآثام.
كما بينت السنة النبوية فضيلة احترام الإنسان لأخيه الإنسان، فقال -  -«بحسب امرئٍ من الشر أن يحقر أخاه المسلم»، وقال أيضا-  -«كل المسلم على المسلم حرام دمه وعرضه وماله»،هكذا يريد الإسلام أن يكون مجتمعه نقيا وخالصا من شوائب الإيمان، والتى قد تفسده، وتنشر بين أفراده الحقد والبغضاء.