اسمها باللاتينية «الوردة الجميلة»: مدينة رشيد تكشف أسرار الحضارة المصرية

مدينة رشيد
مدينة رشيد

كتب سامي أبو بدر

قليلة هى المدن التى منحتها الجغرافيا مزايا استثنائية، ومنحها التاريخ إرثًا يفاخر به أبناؤها، ومن تلك المدن رشيد، المدينة المصرية الهادئة التى ينتهى إليها النيل العظيم بعد رحلة طويلة عبر خلالها إحدى عشرة دولة إفريقية، هناك فى أقصى الشمال المصرى، جنوبى ساحل البحر المتوسط، تقف رشيد آخر المدن المصرية على الضفة الغربية للفرع الغربى النيل، فرع رشيد؛ مُزدانةً ببحرها ونيلها ونخيلها، وتاريخها العريق، ومُمسكةً بأطراف الجمال والهيبة والعراقة، لتشكل بتراثها الثقافى والإنسانى، ومحيطها الطبيعى، المائى والزراعى، لوحة فنية غاية فى الإبهار، ما يجعلها وجهة للسياحة الثقافية والترفيهية للكثير من المصريين والأجانب.

تعود نشأة رشيد لِما قبل توحيد مصر على يد الملك مِينا سنة 3200 ق.م، فقد ذكرت بعض الروايات أن الملك مينا زارها خلال حملته لتوحيد البلاد، وكانت آنذاك قرية صغيرة تسمى (رِخِيت)، نسبة لأهلها الذين كانوا يسمون بـ(رِخِيتو) أى العامة/ عامة الناس، وكانت تقع جنوبى رشيد الحالية مكانَ يما يعرف بمنطقة تل أبى مندور، ولا تزال آثارٌ منها باقية إلى اليوم، ثم أَطلق عليها اليونانيون اسم (بُولِبتِين)، وذكرت به فى كتب عدد من المؤرخين والجغرافيين، منهم المؤرخ اليونانى ديودور الصقلى (توفى 30ق.م)، والمؤرخ اليونانى سترابو (توفى 23م) الذى أسهب فى الحديث عنها، فقال فى موسوعته الجغرافية: «كانت مدينة بولبتين سوقا رائجة، بها معبد كبير يسمى (معبد بولبتينوم)»، وذكر أنها كانت ميناء يقع على الفرع البولبتينى للنيل، نسبة إليها، وأن الملك مرنبتاح (توفى 1203ق.م) أقام فيها استحكامات عسكرية لصد هجمات الليبيين وشعوب البحر المتوسط، وأن الملك بسماتيك الأول (توفى 610ق.م) أقام فيها معسكرا لنفس الغرض، وبذلك يؤكد سترابو ما أشار إليه مَن سبقوه بأن رشيد مدينة قديمة، وأن وجودها سابقٌ على وجود مدينة الإسكندرية التى أُسست سنة 331ق.م، وأصبحت لاحقا عاصمة البلاد، مما أثر سلبا على مكانة رشيد.

اقرأ أيضًا| من بغداد إلى القاهرة مدن وخلفاء

فى العصر القبطى أُطلق عليها اسم (رشيت) مشتقًّا من الاسم القديم رخيت، وذكَرَها بـ(رشيت) المؤرخ الفرنسى إميل كليمنت أميلينو (توفى 1915م) فى كتابه (جغرافية مصر فى العصر القبطى)، ولما دخل العرب مصر سنة 641م نطقوه (رشيد)، ثم ذكره الموسوعى العربى ياقوت الحموى (ت 1229م) فى معجمه قائلا: «رشيد بفتح أوله وكسر ثانيه...، بُليدة على ساحل البحر والنيل قرب الإسكندرية»، وسبقه فى وصفها الرحالة ابن حوقل (توفى 988م) فقال: «مدينة على النيل قريبة من البحر المالح... وهى المدخل من البحر، وبها أسواق صالحة، وحمَّامات، ونخل كثير وارتفاع (إيراد) واسع»، كما وصفها الجغرافى أبوعبدالله الإدريسى (توفى 1165م) قائلا: «مدينة متحضرة بها سوق وتجار...، ولها مزارع وغلات وحنطة وشعير، وبها بقول حسنة كثيرة، وبها نخيل كثير، وأنواع من الفواكه الرطبة، وبها من الحيتان وضروب السمك من البحر المالح والسمك النيلى كثير».



مما سبق يتضح لنا أن المدينة صاحبة تاريخ يمتد لآلاف السنين، وأنها كانت مركزا للتجارة والزراعة والصيد، تخدم سكانها وسكان المدن والقرى المجاورة، ما أَهَّلَها فى فترات سابقة من تاريخها لأن تكون أحد أهم موانئ وثغور مصر عل النيل والبحر المتوسط، لذا أدرك الحكام على مر التاريخ أهمية تحصينها، منذ عصور الأسرات، كما أشرنا، وحتى العصر الإسلامى، ولعل قلعة قايتباى التى شيدها السلطان المملوكى الأشرف قايتباى سنة 1482م شمالى المدينة؛ لصد الغارات الصليبية من جهة، والتهديدات العثمانية من جهة أخرى، تقف كواحد من أهم الشواهد التاريخية على الأهمية الاستراتيجية للمدينة.

مع بداية الحكم العثمانى لمصر زار السلطان سليم الأول رشيد، ثم تخير لها ولاة اهتموا بها؛ فشيدوا المنازل والوكالات التجارية والفنادق، وأنشأوا بها ميناء تجاريا، ما أعاد لرشيد جانبا كبيرا من أهميتها التاريخية والتجارية، وبلغ هذا الاهتمام وتلك المكانة أوجها فى عام 1798 حين صدر قرار عثمانى بإعلان مدينة رشيد محافظة تتبعها مدن وقرى مجاورة، لتصبح مقرا للعديد من قنصليات الدول الأجنبية، ومسرحًا لكثير من الأحداث المهمة، إلا أنه سرعان ما بدأت مكانتها فى التراجع تدريجيا لصالح الإسكندرية مرة أخرى بعد تولى محمد على باشا حكم مصر سنة 1805م، بسبب إعادته حفر ترعة (قناة) المحمودية؛ لاختصار طريق التجارة بين القاهرة ومدن الدلتا من جهة، والإسكندرية من جهة أخرى، ثم بلغ هذا التراجع أقصاه سنة 1895م، حين أُلغى القرار الذى حولها إلى محافظة، وبعد عام منه تم ضمُّها كمدينةٍ ومركزٍ إدارى إلى مُديرية البُحيرة.
فى عام 1798م احتل الفرنسيون بقيادة نابليون بونابرت مصر، وفى العام التالى دخل الفرنسيون رشيد، ولأن حملة بونابرت كانت لها أهداف علمية واستكشافية؛ فقد عمدت إلى ترميم قلعة قايتباى التى أطلقوا عليها حصن جوليان نسبة لأحد مساعدى نابليون، وأثناء الترميم، وفى يوم الجمعة 19 يوليو 1799م عثر ضابط مهندس فرنسى يدعى بيير فرانسوا بوشار على حجر بازلتى أسود منقوشة عليه رموز وحروف تمثل نصا بثلاث خطوط قديمة، مختلفة، مرتبة رأسيا، فاستشعر الضابط أهمية ذلك الحجر، فحمله إلى قادته الذين انتابهم الشعور ذاته، فنقلوه إلى القاهرة ليظل بحوزة الفرنسيين حتى استولى عليه الإنجليز ضمن اتفاقية بينهما، ونقلوه إلى لندن بعد أن تمكن الفرنسيون من استنساخ ما كتب عليه، وظلت تلك الرموز ألغازا حتى تمكن عالم اللغويات الفرنسى جان فرانسوا شامبليون فى عام 1822م، من تفسيرها، ليكتشف من خلال مقارنة الخطوط أن اثنين منها خطان لِلُّغة المصرية القديمة هما الخط الهيروغليفى والخط الديموطيقى، وثالثهما ترجمة لهما باللغة اليونانية القديمة التى كان لشامبليون عِلمٌ بقراءتها وترجمتها، ووجد أنها جميعا لنص واحد عبارة عن مرسوم ملكى أصدره الكهنة سنة 196ق.م فى مدينة منف (قرية ميت رهينة بالجيزة حاليا) لتمجيد الملك بطليموس الخامس (توفى 180ق.م)، وذِكر بعض مناقبه وإنجازاته، وشُكرِه على إلغاء بعض الالتزامات الضريبية، وبترجمة شامبليون لرموز اللغة المصرية القديمة فتح الباب على مصراعيه لاكتشاف أسرار وتاريخ الحضارة المصرية التى ظلت غامضة لقرون طويلة، وعرف الحجر باسم (حجر رشيد)، وهو إلى اليوم أحد أهم كنوز المتحف البريطانى فى لندن.

لا يمكن لمن يكتب عن رشيد أن يتجاوز واحدة من أهم المعارك التى دارت فى شوارعها، حين عزم الجيش الإنجليزى على احتلالها، عقب احتلال الإسكندرية خلال ما عرف بحملة فريزر على مصر، فزحف إليها القائد ويكوب مع جنوده فى 21 مارس عام 1807م، آملين أن يسلمها لهم محافظها على بك السَّلانْكَلِى على غرار ما فعل محافظ الإسكندرية أمين أغا، لكن السلانكلى أعد خطة للدفاع عن المدينة وعدم تسليمها تمثلَّت فى إيهام العدو أن السكان قد هجروها، مُسلِّمين إياها للاحتلال، فأغلقوا بيوتهم ومحلاتهم، ولم يكد يُسمَع فيها صوت لبشر، وما أن دخل الغزاة المدينة مطمئنين لاستسلام أهلها، حتى علت صيحات (الله أكبر) من مئذنة مسجد زغلول، أحد أهم المساجد بالمدينة، وعلى إثرها انهال الأهالى على المعتدين بكل ما يملكون من أدوات القتال والترهيب، حتى أن النساء شاركن بصب الزيت والماء المغلِيَّيْنِ على جنود الاحتلال من شرفات المنازل، فأحدثوا فيهم فزعا، حتى فروا هاربين خارج المدينة إلى الصحراء، مخلفين وراءهم مئات القتلى والجرحى والأسرى، وكان لتلك الهزيمة أثر مباشر على جلاء الإنجليز عن الإسكندرية بعد ستة أشهر فقط من احتلالها.

فى عام 1959م حولت السلطات المصرية منزلا أثريا مشهورا كان يملكه حسين بك عَرَب كِلى، أحد محافظى رشيد السابقين، إلى متحف وطنى يعرض نموذجا لحجر رشيد، ومقتنيات حربية وتراثية ووثائق ومجسمات، تعكس تاريخ رشيد الحربى والثقافى والتراثى، ويعتبر منزل عَرب كِلى واحدا من بين اثنين وعشرين منزلا أثريا بُنيت على طراز معمارى فريد يعود أغلبها للعصر المملوكى، وتنتشر فى شوارع المدينة، وبخاصة شارع دَهْلِيزِ الْمُلْك، أشهر شوارعها، لكونه المدخل الرئيس للمنطقة الأثرية، ويربط غرب رشيد بشارع الكورنيش المطل على النيل شرقى المدينة، ومن بين تلك المنازل منزل كوهيه ومنزل الجمل، ومنزل محارم، ومنزل علوان الذى زاره أحمد عرابى إبان توليه وزارة الحربية، واجتمع مع صاحبه محمد بك علوان كبير تجار رشيد، وعدد من أعيان ووجهاء المدينة، ومن بينها أيضا منزل البواب الذى كان مملوكا لعبدالرحمن البواب الميزونى، جَدِّ زُبيدة الفتاة المصرية التى تزوجت من القائد الثالث للحملة الفرنسية جاك فرانسوا مينو بعد أن أشهر إسلامه، لِيُتوِّجا بزواجهما قصة حب تغنت بها الآفاق، وكُتب الأدب المصرى، ككتاب (غادة رشيد) لمؤلفه الأديب والعالم اللغوى على الجارم ابن رشيد، كما تنتشر بالمدينة مساجد أثرية، كمسجد زغلول، الذى انطلقت منه إشارة الهجوم على جنود الإنجليز، ومسجد المحلى ومسجد العباسى، ومسجد أبى مندور، كما أن بالمدينة كنيسة القديس مُرقس الأثرية التى يعود إنشاؤها إلى القرن الخامس الميلادى.
 

ومن المعالم الأثرية أيضا حمَّام عزوز، وطاحونة أبى شاهين، وبوابة أبى الريش، وغيرها من الآثار الكثير، ما يجعل من رشيد وآثارها متحفا مفتوحا، وحسبما أعلن قطاع الآثار الإسلامية والقبطية واليهودية بوزارة الآثار المصرية فى أغسطس 2018م، فإن مدينة رشيد موضوعة على القائمة التمهيدية لمنظمة اليونسكو للتراث العالمى منذ عام 2003م، وأن الوزارة تعكف على إعداد ملف خاص عن المدينة بالتوازى مع ترميم آثارها؛ لإدراجها فى القائمة الأساسية للمنظمة.

وللمدينة ظهير أخضر يمتد غربا إلى مشارف مدينة إدكو، عبارة عن مساحات كبيرة مزروعة بأشجار النخيل، ولكثرة نخيلها لُقبت بمدينة المليون نخلة، وإلى جانب النخيل تنتشر زراعات الفواكه والموالح، والأرز والقمح وغيرها فى مساحات شاسعة تمتد جنوبا موازية لنهر النيل حتى قرية إدفينا الشهيرة،ما أبهر عالم الطبيعيات الفرنسى سونينى دى مانونكور (توفى 1821م)، فأطلق عليها حديقة مصر، ثم قال فى وصفها: «إنها المدينة الأكثر بهجة فى مصر»، ولعل ذلك سبب تسميتها فى اللاتينية بـ(روزيتا) وتعنى: الوردة الجميلة.