حديث الأسبوع

دول الاتحاد الأوروبى بين مطرقة شعوبها وسندان البيت الأبيض الأمريكى

عبد الله البقالى
عبد الله البقالى

عبد الله البقالى

فجر عشرات الآلاف من المزارعين الأوروبيين فى العديد من دول الاتحاد الأوروبي، من ألمانيا إلى إسبانيا مرورا بهولندا واليونان والبرتغال وفرنسا وبولونيا ورومانيا وبلغاريا وغيرها، حقائق جديدة صادمة، كشفت عن طبيعة وحقيقة قرارات استراتيجية تتعلق بالتعامل مع تطورات عالمية كبرى، لم تكن عاكسة لمواقف شعوب دول القارة العجوز، وأنها كانت فى حقيقتها تماهيا وموالاة لموقف الولايات المتحدة الأمريكية.  


وهكذا، أكد حشود المزارعين الأوروبيين الذين انتشروا فى حركات احتجاجية بالعديد من شوارع الدول الأوروبية، وتسببوا فى تعطيل حركة السير فيها، حتى كادت عجلة الحركة التجارية تتوقف فى هذه الأقطار، أن رزمة القرارات التى اتخذتها الدول الأوروبية ، سواء بصفة فردية أحادية أو فى إطار الاتحاد الأوروبي، لم تكن تمثلهم ولا تخدم مصالح شعوبهم.


نستحضر اليوم، أنه بمجرد ما أن اندلعت الحرب الروسية الأوكرانية قبل أكثر من سنتين من اليوم تدافعت العديد من الدول الأوروبية بقيادة فعلية وحصرية من الولايات المتحدة الأمريكية لتقديم جميع أشكال وأصناف وأنواع الدعم المباشر وغير المباشر، العسكرى والمالى والإعلامى والدبلوماسى والاقتصادى لأوكرانيا، بمبرر كسر عظام الدب الروسى الذى قام بغزوها، مما يمثل تهديدا حقيقيا مباشرا لباقى الدول الأوروبية. وهكذا، وبعد أيام قليلة على بداية الحرب قررت دول الاتحاد الأوروبى فتح حدودها بالكامل أمام كثير من المنتجات الفلاحية الأوكرانية لتتمكن من دخول جميع أسواق 27 دولة فى هذا الاتحاد، تجسيدا فعليا للدعم الاقتصادى الذى ارتأته ضروريا لتقوية القدرات الأوكرانية.  وبدا بعد أسابيع قليلة من هذا القرار الذى يكاد يكون غير مسبوق أنه كان يجسد تماهيا أوروبيا حقيقيا مع الموقف الأمريكى الذى قاد، ولايزال، إسناد كييف فى حربها ضد موسكو، وإن كانت بعض  دول الاتحاد الأوروبى غير  موافقة ولا راضية على فتح الحدود أمام المنتوجات الفلاحية الأوكرانية، ولكنها لم تكن فى نفس الوقت قادرة على التغريد خارج السرب، تحسبا لعواقب سياسية مع حلفائها من داخل الاتحاد ومن خارجه، خصوصا من طرف الولايات المتحدة الأمريكية، لكن مع ارتفاع التكلفة المالية لهذا القرار فتحت أفواهها أول مرة للمطالبة بمراجعته، قبل أن تنتقل إلى مستوى اتخاذ إجراءات أحادية مختلفة للقرار بعدما صمت باقى الدول آذانها عن مطلبها الجديد. ومع مرور الوقت انتشرت بقعة زيت الأضرار المالية الناجمة عن موقف الاتحاد الأوروبى فى مساحات أوروبية جديدة، خصوصا فى إسبانيا وفرنسا وألمانيا وهولندا ورومانيا وبولونيا واليونان، لكن حكومات هذه الدول كابرت وعاندت وأصرت على الإبقاء على القرار لتأكيد سلامة وصلابة موقفها الداعم لأوكرانيا فى حربها ضد روسيا. لكن إصرارها لم يصمد أمام ارتفاع التداعيات السلبية المالية والاجتماعية على شعوبها، خصوصا بعدما خرج المزارعون الأوروبيون فى العديد من هذه الأقطار للتعبير عن غضبهم الشديد، وعن معارضتهم القوية لسياسات حكومات بلدانهم، مما أجبر مسؤولو هذه الدول على اتخاذ ما كابدوا من أجل تحاشيه، بأن قرروا قبل أيام قليلة من اليوم، بعد اجتماعات طويلة حضرها المسؤولون الأوروبيون وأعضاء من البرلمان الأوروبى ، مراجعة اتفاق يونيو (حزيران) 2022 وبالتالى فرض قيود جديدة على الواردات الأوكرانية من المنتوجات الفلاحية.


هذا التراجع الذى فرض تحت الضغط والإكراه من طرف المزارعين الأوروبيين الذين يمثلون شرائح هامة من الشعوب الأوروبية، يكشف حقيقة اجتهدت الحكومات الغربية معززة بوسائل الإعلام الغربية الخدومة للمصالح السياسية والاستراتيجية لحكوماتها ولأجندات أوساطها المالية والتجارية، فى طمسها والتستر عليها، والمتمثلة فى أن رزمة قرارات الدعم الكثيرة التى اتخذتها الحكومات الأوروبية تجاه الحليف الأوكراني، لم تكن بالضرورة تعكس مواقف شعوب هذه الدول، والأكثر من ذلك لم تكن تراعى مصالح شعوبها، وأنها كانت تتخذ قرارات فوقية، وأن شعوبها هى التى كانت تدفع فواتيرها غالية.
الحقيقة الثانية التى فجرها غضب ومعارضة المزارعين الأوروبيين، أن القرار الاقتصادى أكثر أهمية لدى شعوب القارة العجوز من القرار السياسي، وأن هذا القرار لا يكون دوما منسجما مع القرار الاقتصادي. وأن شعوب القارة الأوروبية لم تعد تصدق حكوماتها فيما يخص الادعاء بأن قرارا سياسيا استراتيجيا يهم التصدى لخطر أو تهديد أجنبى  ضرورى لحماية الأمن القومي. وأن الحقيقة تكمن فى أن القرار السياسى الأوروبى يكون مرتبطا بمصالح قوى سياسية واقتصادية خارجية.
هذا التطور المباغت يضع الموقف الأوروبى من الحرب الروسية الأوكرانية فى حرج مقلق وفى ورطة كبرى. فالدول الأوروبية لا تزال ملتزمة مع إدارة البيت الأبيض بتوفير ما يكفى من الحطب لضمان استمرار الحرب ملتهبة ومستعيرة، من دعم مالى غير مشروط ولا محدود، وقد صرحت الإدارة الأمريكية أن التحالف الغربى مع أوكرانيا خصص 50 مليار دولار (وهو مبلغ خيالى يكفى للقضاء على مظاهر المجاعة والفقر فى كثير من مناطق العالم) سيصرف خلال السنوات القليلة المقبلة. وهو دعم مالى يضاف إلى باقى مظاهر وأشكال الدعم السخى التى قدمها الغرب لكييف، وهو الدعم الذى ضمن أمرا واحدا لحد الآن يتمثل فى استمرار الحرب.


الدول الأوروبية التى تمرد مزارعوها عليها احتجاجا على فرع من فروع الدعم السخى لفائدة أوكرانيا، واضطرت تحت الضغط وارتفاع تكلفة الاحتجاج إلى التراجع عن شكل الدعم هذا، هى نفسها الدول الأوروبية التى لا تزال توقع شيكات على بياض لتقديم الدعم المالى لنفس الجهة التى احتجت فئة عريضة من الأوروبيين على دعمها، وكأنها تنتظر انتشار لهيب الاحتجاجات والتمرد على باقى القطاعات لتتراجع مجبرة ذليلة على ما تزال تصر عليه.
المصيبة أن تكون دول الاتحاد الأوروبى الديمقراطية والحداثية تتلاعب بمشاعر وقناعات شعوبها بأن تكون تستخدم ورقة دعمها السخى لأوكرانيا قضية انتخابية صرفة، وأنها تراجعت عما تراجعت عنه فيما يتعلق بفتح الحدود أمام الواردات من المنتوجات الفلاحية الأوكرانية تحسبا للانتخابات الأوروبية المتوقع تنظيمها فى التاسع من شهر يونيو المقبل، وأنها ما أن تفرغ من هذا الاستحقاق الانتخابى حتى تعود إلى بيت الطاعة خاضعة لما تفرضه القوة السيدة فى مواجهة روسيا؟