حديث الأسبوع

حينما يتحول الدين إلى لجام

عبدالله البقالى
عبدالله البقالى

عبدالله البقالى

اختار صندوق النقد الدولى أن يعيد تناول قضية المديونية العالمية من الزاوية المعتادة نفسها، فى سياقها المالى الصرف، الذى يجعل منها شكلاً من أشكال التعاملات المالية بين الدول. هذه المرة طلعت هذه المؤسسة النقدية العالمية على الرأى العام الدولى بتقرير جديد، نشرته على العموم قبل أيام قليلة اختارت له عنوان (النقص الكبير فى التمويل)، تؤكد من خلاله أن «الدين العام والتضخم بلغا مستويات لم نشهدها منذ عدة عقود»، واستدلت على ذلك بأن الدين العام فى أفريقيا جنوب الصحراء بلغ فى نهاية سنة 2022 نسبة 56 بالمائة من إجمالى الناتج المحلي، واعتبرته أعلى مستوى منذ بداية العقد الأول من القرن الحالي. وساندت مسئولة فى هذه المؤسسة فى تصريحات صحفية ما تضمنه التقرير من محاذير، بأن أكدت «أن الصعوبات فى أفريقيا قد تؤدى إلى تفاقم مشاكل الديون المرتفعة أصلاً، وتزيد من خطر انتقال المزيد من البلدان من مشكلة سيولة إلى مشكلة ملاءة». ويحصر التقرير الجديد لصندوق النقد الدولى التهم فيما يحصل، فى العواقب المترتبة عن الأزمات التى يعيشها العالم.


طبعاً من الحيف حشر قضية، بحجم المديونية العالمية فى هذه الزاوية الضيقة، لأنها قد تكون فعلا ناتجة عن تطورات فى الأوضاع العالمية، خصوصًا ما يتعلق بالأزمات التى وصلت حد خوض حرب ضروس بين أعتى القوى العالمية، وقد تكون ازدادت استفحالا بسبب التداعيات المباشرة وغير المباشرة لوباء كورونا الذى هز أركان الأوضاع العالمية، لكنها فى حقيقة الأمر وبعيدًا عن النظرة النقدية التقنية الضيقة، فهى قضية تتجاوز بكثير هذا السقف المحدود الذى تحشر فيه لخلفيات معينة وحسابات محددة.


فحينما يتحدث التقرير الجديد لصندوق النقد الدولى عن النقص الكبير فى المساعدات الدولية، فإنه لا يكشف عن الحقيقة كاملة فى هذا الصدد، لأنّ الحقيقة تثبت زيادة مهولة وغير مسبوقة فى حجم المساعدات الدولية، لكنها مساعدات سخية فى خدمة حسابات سياسية واستراتيجية وعسكرية. ذلك أن حجم وقيمة المساعدات الدولية التى تلقتها دولة أوكرانيا خلال سنة واحدة، فاقَا بمعدلات خيالية قيمة المساعدات التى قدمت لبقية دول العالم المحتاجة، والتى يتعرض بعض منها إلى الحروب والاضطرابات والأزمات السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وإلى قساوة العوامل المناخية، وهى جميعها أسباب فرضت على الملايين من الأشخاص ظروف عيش بالغة القسوة أو الهجرة. وهذا يعنى ويكشف أن المساعدات الدولية لم تنبض ولم تتراجع، بل إنّ هذه المساعدات أصبحت أكثر ارتباطا بالحسابات الاستراتيجية للدول العظمى المانحة.
وحينما يعيد صندوق النقد الدولى التحذير مما صارت إليه قضية المديونية، فإنه يتستر عما وراء القراءة التقنية لقضية ليست تقنية بالضرورة. فقد واجه العالم أزمات إنسانية وصحية خطيرة عرضت البشرية جمعاء إلى تهديدات، ترتبط بالوجود نفسه، ليس أقلها ما تسببت فيه جائحة كورونا منذ إعلان اكتشاف أول حالة إصابة بها. ومع ذلك رفضت الدول والمنظمات المانحة للقروض فتح هذا الملف، والبحث عن حلول لهذه المعضلة تحفظ للدول الدائنة مصالحها فى حدودها الدنيا. والدول والمنظمات المانحة تعلم وتدرك جيدًا أن سداد الديون بما فى ذلك خدمة هذه الديون بمعدلات فائدة جد مرتفعة، يتم على حساب الاستثمار العمومى فى الصحة والتعليم والشغل والحماية الاجتماعية، فى الدول المدينة التى تعيش عجزاً فظيعا فى بنية وخدمات هذه القطاعات، ومع ذلك لا يبدو أنها مهتمة بهذه التحديات، وتصر على مواصلة تحصيل، ليس ما حصلته من ديون فقط، ولكن أيضا وأساساً تحصيل معدلات فائدة تمثل نسباً جد مرتفعة فى الموازنات العمومية للدول المدينة.


ولا تبدو الدول والمنظمات المانحة للقروض مهتمة حتى بمجالات صرف الديون، وعلى هذا المستوى تطرح إشكالية كبرى تتعلق بما إذا كانت القروض الممنوحة تستخدم فعلا لتمويل برامج الاستثمار التى منحت على أساسها، أم أن وجهة هذه القروض تظل مجهولة؟ لأنه يتضح فعلا وبشكل جلى أنه رغم كثرة الديون المحصلة إلا أن التنمية فى كثير من الدول المستفيدة منها ظلت معطلة وزادت فيها حدة الأزمات الاجتماعية والاقتصادية.


كما لا تبدو الجهات المانحة لهذه القروض مكترثة بما يمكن أن نسميه أخلاقيات منح الديون، حيث تتعمد كثير من الجهات المانحة فرض شروطها على المدينين للحصول على القروض لسببين رئيسيين، أولهما يتمثل فى الإبقاء على حالة التبعية، بحيث يتحول الدين إلى اللجام الذى تضعه الجهة المانحة داخل فم الدولة المستفيدة لضمان الإبقاء على التحكم فى اتجاه وسرعة السير. وثانيهما لضمان استرداد ديونها بغض النظر عن التكلفة الاجتماعية لهذا الحرص والإصرار.


لذلك كله، وغيره كثير، لم يعد مهمًا ولا مفيدًا أن تنبهنا الهيئات المالية العالمية المانحة للقروض وللمساعدات إلى الخطورة البالغة التى أضحت تكتسيها إشكالية الديون فى العالم، ولا إلى المستويات الخطيرة التى وصلتها. بل الأهم من كل ذلك أن تقدم هذه الجهات الوصفات العلاجية الحقيقية لهذه المعضلة، وهى المهمة المستبعدة لحد اليوم لأنها تتعارض تمامًا مع فلسفة هذه الديون وأهدافها الحقيقية.
 نقيب الصحفيين المغاربة