ومضة

صابر سعد يكتب: «الشجرة الطيبة»

صابر سعد
صابر سعد

رأيته مهرولا بعد أن ترك سيارته في المرآب، وكأنه يصارع الزمن ليطبع تلك الابتسامة الساحرة في قلب عيون كل من يقابلهم سواء أكان يعرفهم أم لا.. هذا المشهد أثار فضولي واستغرابي في آن واحد، فلم أعهده مفشيًا للسلام مصافحًا كل من يلتقيهم، بل كان يختص أصدقائه فقط، وفي بعض الأحيان كان يدخل مقر عمله ويخرج منه كالنسمة دون أن يَنْبَسْ بِبِنْتٍ شَفَةٍ.. هذا المشهد جعلني أتسائل داخل أعماق نفسي: أحقا هو ؟! .. أأنا في حلم ؟ .. لم أستطل كثيرًا وهممت بمصافحته، ثم سألته: هل أنت بخير يا صديقي أم تعاطيت شيئًا ؟ .. فجاءتني الصاعة حينما رد قائلا: «بالفعل تعاطيت».

 

تلفت حولي وأَصْبَحَت في المكان خَآئِفًا أتَرَقَّبُ بعد أن أصابتني الريبة، وتسربت الوساوس في أوصالي وزلزلت كياني، وبدأ التوتر جليًا علي حرصًا على صديقي الذي لم يدخن سيجارة يومًا ما ولم يتعاط أية عقاقير أو مواد مخدرة.. لم أطق مرارة الانتظار كثيرًا واستللتُ لساني وانهلت عليه ورجمته بكلمات سرعان ما ندمت عليها، فقد كنت عجولا فباغته: أجننت يا صاحبي ؟! أضيعت مستقبلك وصحتك وصرت تائها في غي السم القاتل؟ هل أصبحت مدمنًا أم خمورجيًا ؟ .. ثم سألته عن نوع المخدر، فأصابتني صاعقة من رده الذي جعلني أصرخ فرحًا وصار قلبي يتراقص طربًا وبهجة بما قاله خِلي.

 

انطلق صديقي في القَصَص، كأفضل من أي حكاء سمعته أذناني طوال حياتي، رغم أنه لا يجيد هذا الفن ولا يمتلك تلك الملكة.. سكت صديقي برهةً ثم تنهد بصوت يكاد يسمعُ ٱلصُّم ومن في القبور، وكأنه يريد أن يقول لمن حوله صَه كي تسمعوا حديثا سيطرب أذانكم ويروي قلوبكم العاشقة للرحمة وينعش نفوسكم المحبة لفيض الخير، ثم استهل حديثه قائلا إنه فوجئ عند باب منزله بشيخ بلغ من العمر عتيًا وعندما نظر إليه وأقبل عليه، وجد أن الرجل قد احدودب ظهره، وابيض شعره، وتثاقلت خطاه، وخارت قواه، وسقط حاجباه على وجهه، وتناثرت أسنانه، وذبلت عيناه، وخط الزمان على وجهه حتى بدت التجاعيد لوحة ثرية رسمتها السنون وكأنها شوارع عتيقة كل منها وراءه قصة وحكاية، وقبل أن يسأله صديقي عن هويته، سارع الشيخ بتعريف نفسه لكن صديقي رد بأنه لا يعرفه، فقاطعه العجوز مستفهمًا: وكيف لجابر خواطر أن لا يعرف خاطرًا جبره ؟ .. عندما سمع صاحبي هذا الكلام تنفس الصعداء وأحس بنسمات الهواء تسري داخله كالعليل حتى شعر صديقي كأنه يتنفس لأول مرة في حياته.

 

صحيح أن صديقي تعجب من كلام ضيفه، لكن حالة الذهول التي انتابتني بدأت تتلاشى وقاربت شمس فضولي على الغروب فقد عهدت صديقي ممن يُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ، فلمن لا يعرف فهو طيب النفس يضيء أرواح كل من يلتقيهم بكلامه الطيب وأفعال الخير التي كان يسارع إليها وكأنه يرسل رسالة مفادها أن «الدنيا لا تزال بخير»، فما جاءه ملهوف إلا ونصره وما طرق بابه محتاج إلا وأعطاه ولا زاره ضيف إلا وأكرمه وأحسن إليه، فسيرته العطرة لا تزال رائحتها موجودة في كل مكان تطأه قدماه حتى لقبه كثيرون بـ«دواء القلوب» فالكلمة التي تخرج من فاه شِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ.

 

 استرسل صديقي قائلا، إنه فوجئ بيده كأنه تنتزع من جسده عندما همَ الشيخ بتقبيلها عرفانًا بصنيعٍ أهداه لفلذة كبده، وعندما طلبت من صاحبي توضيحًا قال لي إنه لمح ذات يوم صبيًا مستترا على جانب الطريق يصرخ كطفل في المهد لكني لم أحس أن صوت نحيبه كان عاديًا بل لقلب اكتوى حتى صار مفتتًا.. توقف زميلي بسيارته وذهب إليه وعندما سأله عن السبب قال له الصبي إنه تعرض للتنمر  من أقرانه في المدرسة خلال تقديمه لمسابقة للتميز، فقبل صديقي رأس ويدي الصغير، وشَدَّ أَزْرَهُ قائلا له: ثق أنت الأفضل واعلم أنك من ذوي القدرات التي تميزك عن غيرك فاستجمع قواك وستظفر بالفوز وعندها سيقف لك الجميع احترامًا ومهابًة.. لم يكتفِ صديقي بتلك الجرعة من الكلمات الحماسية التي تفجر عيون المياه من الحجر الأصم، بل زاده قوة حينما وعده بأن جائزة ستصل إليه بعد سويعات كهدية استباقية يقينا منه أن الفوز بات قاب قوسين أو أدنى من التحقيق.. وبالفعل أوفى صاحبي بوعده وحان موعد حصاد ما زرعه في نفس الصبي من طيب الكلام الذي أضاء نفس الولد من ذوي الهمم.

 

 تحقق المراد وانتزع الولد المركز الأول، وعندما أراد أن يرد الإحسان بإحسان سار على نفس درب والده الذي علمه أن من أعطاه حبًا رده أضعافًا مضاعفة، فتوافق الوالد والولد على أن يبعث الصبي والده رسولا إلى «صانع السعادة» كي يخبره بأن الثمرة التي غرسها قد أينعت ولما حان قطافها فاض الخير من جنباتها.. ولما سمع صديقي تلك القصة لمعت عيناه فرحا ثم تغَرْغَرَتْ بِالدُّمُوعِ، وانتهى هذا المشهد بسجدة من صاحبي وسُمع وهو يقول: «رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَىٰ وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ»، ثم سأل خِلي عن الصبي فارتعد جسد العجوز ودخل في نوبة من البكاء وتساقط دموعه كزخات المطر، فقد مات الابن بمرض عضال عجز الطب عن مداواته ليضاف لكتاب ناصع البياض بالصبر على إعاقة جعلته طريح الفراش بعد عامين من ميلاده وألم انقض على ما تبقى من قواه وظل ينهش في جسده حتى آخر رمق في حياته، لكنه لقي ربه مغادرا الحياة  بابتسامة ستظل تزين جبين الإنسانية، وحتما لن ينساها كل من كانوا حوله وسيعجز مهرة الرسامين عن تجسيدها في مجرد لوحة ستقف عاجزة عن وصف الصورة من كل الأبعاد.

 

أرأيت عزيزي القارئ، أن كلمات ساحرات من صاحبي أضاءت مصابيح أطفأها جاهلون بكلمات كانت أشد فتكًا من الرصاص الذي قد يصيب وقد يخطئ بعكس الكلمة التي إن لم تُصب ستخدشك وتسبب لك جرحًا لن يندمل وقلما ينجح الزمان في مداواته  فتصير نفسيتك كالثوب المهلهل، لكن الشمعة التي أضاءها صاحبي وأنار بها أعماق النفس البشرية للصبي نجحت في انتشاله من غياهب الظلمات إلى عالم يعج بالإشراقات، عندها تذكرت قول الله تعالى: «أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ»، فالنفسية قد تصعد إلى سابع سماء إذا تم تغذيتها بالكلمة الطيبة، فالنفوس كالورود لكنها تُروى بحسن الكلام كي تنمو وتترعرع وتزهر وتكسو المكان برائحتها الذكية..، أما الكلمة الخبيثة فقد حدثنا عنها القرآن الكريم: «وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ»، فكلمة واحدة في الدنيا قد تتسبب بنزيف في جدار النفس البشرية التي وصفها البعض بأنها أرق من الورق، وفي الآخرة فهي كفيلة أن تزج بك في سَقَر وتحدث عنها النبي صلى الله عليه وسلم قائلا: «إن العبد لَيَتَكَلَّمُ بالكلمة من سَخَطِ الله تعالى لا يُلْقِي لها بَالًا يَهْوِي بها في جهنم»؛ وكما قال عبد الرحمن الشرقاوي «مفتاحُ الجنّة في كلمة.. ودخولُ النار على كلمة»، وأحسن لقمان الحكيم حينما وصف الكلمة الخبيثة بتلك الكلمات:  «إن من الكلام ما هو أشد من الحجر،  وأنفذ من وخز الإبر، وأمر من الصبر، وأحر من الجمر، وإن من القلوب مزارع فازرع فيها الكلمة الطيبة فإن لم تنبت كلها ينبت بعضها».

 

عزيزي القارئ؛ في هذا الزمان أضحت «الكلمة الحلوة» نَسْيًا مَنْسِيًّا، وكأنها ذهبت لعالم ثانٍ، وصارت «رسالة حب من كوكب آخر» كما قال نزار قباني، ليس هذا فحسب بل صار البخيل في هذا الزمان ممن يكنز الكلمة الطيبة وتظل حبيسة داخل فكيه رغم أنها «لا تكلفك إلا القليل وقيمتها تساوي الكثير» بحسب جورج هيربرت.

 

 

عبر هذا المقال ومن خلال دور الصحافة التنويري، ندق ناقوس خطر لعل الجميع يفيق من غفوته، فالمعارك الكلامية صارت حامية على أشدها خارج العالم الافتراضي وداخل مواقع التواصل الاجتماعي، فالشبكة العنكبوتية صارت مرآة عاكسة للانحطاط الأخلاقي الذي وصل إليه البعض لمجرد أنك اختلفت معه في الرأي، فعندما تتفوه بحديث غير ما يحب تجده يتكالب عليك لينهش في جسدك وكأن لسان حاله يقول: «اطرحوه أرضا.. علقوا له المشانق.. حاسبوه حساب الملكين.. سبوه.. اصفعوه حتى يرجع إلى صوابه.. اطعنوه في سمعته .. مزقوا كرامته .. هشموا رأسه»، فقديما قال سقراط «تكلم حتى أراك»، وحديثا أصبح الحال «تكلم فربما قد اصفعك على قفاك» بما يتناقض ما ورد في الإنجيل «من ضربك على خدك الأيمن فأدر له الأيسر».. هكذا أصبح هذا الهجوم الضاري لسان حال كثيرين ممن يختلفون معك فثقافة الحوار باتت مَوْءُۥدَةً بعد أن وريت الثرى، ليحق على تلك الشِرْذِمة قول أمير الشعراء أحمد شوقي «وَإِذا أُصيبَ القَومُ في أَخلاقِهِم.. فَأَقِم عَلَيهِم مَأتَماً وَعَويلا».

 

«كُلُّكُمْ مَسْئُولٌ».. دعونا نطرق كل الأبواب لإنقاذ ما تبقى من الأخلاق وثقافة الاختلاف مع الآخر التي أصيبت باعوجاج، صحيح أنها مرضت لكن المؤكد أنها لم تمت، فيمكن إحياؤها بالكلمة الطيبة فلا داعٍٍ أن تشتبك مع المناهضين لك أو حتى المختلفين مع رأيك فهناك فرق واضح بين الخلاف والاختلاف فلا تجعل ضيق أفقك يسد الهواء في بيئة صحية ينعم فيها الاختلاف لا الخلاف فحكمة الله في تلك الآية الكريمة «وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَٰحِدَةً».. علينا أن نتعلم جمعيًا لين الكلام فرغم أن موسى عليه السلام كان مختلفًا وأخيه مع فرعون في الدين والفكر والثقافة وكل شيء لكنه كان يتعامل كناصح أمين كما أمرهما الله عز وجل : «فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَىٰ».. بالفعل صرنا في أمس الحاجة إلى تضافر جميع المؤسسات الرسمية وغير الرسمية، فوزارتا التربية والتعليم والتعليم العالي مطالبتان بتدريس مادة «ثقافة الحوار مع الآخر»، كما أن وزارة الثقافة بالتعاون مع وزارة الشباب مسؤولتان عن توعية الشباب بمخاطر الكلمة الخبيثة وثمار الكلمة الطيبة التي تشع نورًا يضيئ العقول وهو أشد من مفعول السحر، والأزهر ووزارة الأوقاف وكذلك الكنيسة مطالبون بإدراج هذا الموضوع الحساس في خطب الجمعة بالمساجد وعظات الأحد في الكنائس ولعلي أبعث باستغاثة إلى فضيلة الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر الشريف وقداسة البابا تواضروس الثاني بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية لتبني مبادرة لحل التشابك بين المواطنين عند الاختلاف في الرأي والقضاء على تحويل الاختلاف إلى خلاف عبر بيت العائلة المصرية المخول باستعادة القيم العليا بحسب نص الميثاق التأسيسي الذي صدر قبل ١٣ عامًا، كما أن الكثيرين يعولون على الإعلام المرئي والمقروء والمسموع في شن حملات للتوعية بخطورة الكلمة التي قد تودي بحياة الكثيرين صَرْعَى كما نتابع في أخبار الحوادث بشتى وسائل الإعلام ليسوا هم وحدهم مسؤولون فأنت عزيزي القارئ أيضًا مسؤول أيًا كان موقك سواء أكنت «بلوجر» أو رب أسرة أو أحد الرعية، ولعل نقاشا راقيا مع شخصية مستنيرة مؤمنة بالرأي والرأي الآخر، مشرق عقلها مستنير فكرها متسع أفقها صائب فكرها، هو ما ألهمني كتابة تلك السطور، فلك أن تتصور أن نقاشاً متحضراً أرسل شعاعًا إلى نفسي فأضاء جنباتها وفجر ينابيع كلماتها علها تكون دافعًا للجميع للتكاتف لدرء خطر الخلاف في الرأي الذي صار قنبلة موقوتة بحاجة إلى من ينزع فتيلها قبل فوات الأوان.

أتسائل لأقول للجميع بأعلى صوتي:  أَلَيْسَ مِنكُمْ رَجُلٌ رَّشِيدٌ ؟