القناة

حكاياتl فن مصر.. «سكت الكلام و السمسمية اتكلمت»

أغاني السمسمية
أغاني السمسمية

يحيى وجدى

حين تزور بورسعيد تشعر بأنك تسمع السمسمية من مكان بعيد في كل أرجاء المدينة.. في سيارات التاكسي وفي الكافيهات والمطاعم، ستستمتع إلى الأغنيات التي يستمع إليها المصريون في كل مكان، قديمها وحديثها، وصولا إلى المهرجانات” والراب، لكنك مع ذلك تشعر وكأن في الخلفية صوت السمسمية وأغاني الضمة الشهيرة، وكأنها شريط  صوت حي ودائم لبورسعيد، في البازار القديم والسوق الجديد، في المعدية لبور فؤاد، وفي مدخل قناة السويس، وعلى واجهات المباني التراثية في المدينة.

بورسعيد تقدر الضَمة، وأهلها على اختلاف أجيالهم صحبجية، وإذا حالفك الحظ لحضور ضمة في مقهى أو في السوق أو في مركز ثقافي في بورسعيد، فإنك ستجد أطفالا يقولون دور مع العازفين، وفي الأفراح رغم “الدي جي”، فلابد من أغاني “الضمة”، في افتتاح المحلات التجارية وغيرها، لابد من الضمة، في الاحتفالات بأعياد النصر وبأعياد الميلاد والسبوع والطهور، لابد من الضمة والسمسمية.

وعندما أقول “يحالفك الحظ” فهي ليست جملة مجازية، ليالي الضمة يسميها البورسعيدية “ليلة حظ”، والضمة من اسمها هي الجلسة التي تضم العازفين والمغنين والصحبجية، والصحبجية هم من يواظبون على حضور “ليالي الحظ”، ليس فقط كـ”سميعة”، لكن يرددون مع الريس (كبير الفرقة) والمطربين الأدوار والأغاني التي تغنى على آلة السمسمية والطنبورة وباقي الآلات مثل الدف والرق والمثلث والناي والصاجات.

 


الصحبجي يحفظ الأغنيات والأدوار القديمة، أغني السمسية والضمة التراثية، ويرقص ويلاغي المغنون، والصحبجي مقدر في المجتمع البورسعيدي بقدر ما يحفظه من أغان وأدوار، وبقدر تفاعله مع الضمة، والبورسعيدي ينهي عمله أيا ما كان، ويذهب إلى الضمة، يستمع ويغني كصحبجي أو يغني كعضو في الفرقة أو يعزف على آلته، ذلك أن أغلب أعضاء الضمة ليسوا متفرغين.. صيادون وموظفون في الحكومة وعمالا وسائقين، كل الفئات، طالما أنك تحفظ وتغني فأنت ابن الضمة وابن الحظ و”الحظ بظروفه” كما يقولون.

التغيرات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية التي شهدتها مدينة بورسعيد ومدن القنال عموما، أثرت بشكل كبير على الضمة، لكن مع بداية منتصف الثمانينيات وبداية التسعينيات، استيقظت رغبة قوية مخلصة في الحفاظ على تراث السمسمية والضمة، والعودة بها إلى حيث أصلها، كنشاط اجتماعي وفني جماعي لأهل بورسعيد، واحدة من أهم وأقدم هذه المبادرات للحفاظ على تراث الضمة كانت للريس زكريا إبراهيم مؤسس فرقة “الطنبورة”، ومن بعدها مركز “المصطبة” للحفاظ على التراث الغنائي الشعبي المصري، وله الفضل في أن يتعرف جمهور القاهرة والمدن المختلفة على الطنبورة وأغنياتها من خلال الحفلات العديدة التي ينظمها، بل ويتعرف العالم على هذا التراث بفضل الحفلات الخارجية لفرقة “الطنبورة” التي جابت العالم كله تقريبا لتقدم هذا الفن البورسعيدي التراثي.

 

يمكن التأريخ لميلاد “الطنبورة”، منذ عام 1895 حينما وصل إلى بورسعيد عشرات من أهالي دمياط مع ديليسبس لبدء حفر قناة السويس، ثم تبعهم المئات من أهالي محافظات الدلتا ومحافظات الصعيد، لتتكون كتلة سكانية جديدة ومتنوعة، كل بثقافته، في مدينة بورسعيد.


أما السمسية فهي آلة وترية، تقول دراسات مختلفة إن أصلها فرعوني يتمثل في آلة “الكنارة”، وهي آلة أصغر من الهارب، وهناك جداريات عديدة في معابد الصعيد ومقابرها تجسد فتيات يعزفن عليها، الطنبورة كذلك آلة وترية لكنها تختلف في عدد الأوتار ومن ثم إيقاعها.

مع الكتلة السكانية الجديدة التي تكونت في بورسعيد لحفر القناة، كانت كل مجموعة من بلد مختلفة تتواصل عبر فنها التراثي.. المواويل، والإنشاد الصوفي، والكَف، أغنيات الصيادين وأغنيات الفلاحين، ومع بداية القرن العشرين وظهور أسطوانات “الجرامفون” المسجل عليها أغنيات وأدوار وطقاطيق الرواد، حدث تداخل وانصهار بين ما يسميه البورسعيدية “أغاني العشق”، وتضافرت المواويل والإنشاد الصوفي وأغاني الطوائف لتبدأ الضمة، حيث تغنى الأدوار الخليط من كل هذه الفنون على إيقاعات السمسمية أو الطنبورة، وبجوارهما المثلث والدفوف والناي، ويتصدر هذه الأدوار التراثية رقصة البمبوطية.

 

 

وسط الصحبجية يشدو الفنانين في الضمة بالأدوار في ليالي الحظ، أغنيات تراثية قديمة، وتحايا للصحبجية وبلادهم الأصلية صعايدة وفلاحين وسواحلية، وبعض الأدوار عبارة عن اسكتشات كوميدية تسخر من كل شيء، مع العدوان الثلاثي تحولت الضمة وأغنياتها إلى أناشيد حماسية تحث على المقاومة ودحر العدو وقد كان، لكن في عام 1967 وبعد العدوان الإسرائيلي، يبدأ تهجير أهالي مدن القنال، ويجد البورسعيدية أنفسهم في أماكن مختلفة وبعيدة عن بلادهم، في مدن كبرى مثل القاهرة والإسكندرية وطنطا والمنصورة، أو في أعمال الأرياف في الدلتا وشمال الصعيد، ومرة أخرى تصبح الضمة وسيلة التواصل بين بعضهم البعض، فمنهم من قام بتصنيع سمسمية من المواد المتوفرة وعلب الصفيح، ومنهم من تذكر الأغاني والأدوار القديمة مع أقرانه، وهكذا عادت ليالي الحظ والطنبورة في أماكن مختلفة ليس من بينها بورسعيد.

مع انتصار 1973 وعودة المهجرين إلى بورسعيد، عادت ليالي الحظ والضمة إلى المدينة الباسلة، لكن الأمر تغير والثقافة كذلك، كما يرصد الريس زكريا إبراهيم مؤسس فرقة “الطنبورة”، مع سياسات الانفتاح الاقتصادي وإنشاء المنطقة الحرة وظهور طبقة ثرية من التجار، تحول الأمر إلى حفلات مدفوعة بأسماء هؤلاء التجار، أو حفلات يتبارى فيها التجار بمنح “النقوط” لترديد أسماءهم والاستماع إلى أغاني محددة، وبالتالي تغيرت الضمة التي كانت أشبه بحلقة ذكر صوفية حول الانبساط الحر والمتعة، وتغير معها الإيقاع، وتراجع الصحبجية المخلصين عن حضور الضمة، وتوارى المغنون الذين يحفظون أغاني السمسمية التراثية، وكادت الضمة أن تندثر، لولا المبادرات التي انطلقت للحفاظ عليها منذ بداية التسعينيات، وتجميع المنشدين والمطربين القدامى، مثلما فعلت فرقة “الطنبورة” أو ما تفعله حاليا فرقة “صحبة سمسمية” التي تهتم بنقل تراث أغاني الضمة إلى مطربين جدد من الشباب.. و”غني يا سمسمية لرصاص البندقية”.