تساؤلات

«فسيكفيكهم»

أحمد عباس
أحمد عباس

اليوم ظهيرة دافئة الضباب يزركش السماء وشعاع الشمس يتسرب من بين السحب، الحرارة تنفذ من كل مكان وتغطى الحالة، على اليسار كاتدرائية العباسية بعدها بأمتار مئذنتى جامع النور، اللحظة لها ونس غريب أليف للروح وأذان العصر ينساب من حنجرة ناعمة، صوت المؤذن عذب جدا أليف أعتقد أنه مسجل لكنه فى كل الأحوال مايزال مريحًا، أفكر عادة فيما أستطيع الكتابة عنه لا ما أريد أن أكتبه، تستغرق الفكرة أيام لتأتى وتستنزفنى أحيانا أكثر مما يجب لكن فى كل مرة أنتشلها فجأة لما تحل على رأسى كلمة أو جملة، ضيعت من وقتى أكثر مما ينبغى فى البحث عن فكرة أو صياغة أخرى أما الصياغة فهذه هى اللحظة المغرية فى المسألة ذلك أننى أحب اللغة جدا حتى لو أننى لست أمهر من يتكلم باسمها، انا مجرد مستخدم،

أما هؤلاء الذين يملكون تسخير اللغة وطيها وتطويعها فهؤلاء بالنسبة لى اما علماء أو مجاذيب أو كلاهما، أما أنا -مرة أخرى- فمجرد مستخدم عادى جدا، من حسن حظى أننى عربى وأتكلم العربية وأفهم كل عربي، ولما كانت اللغة وكلماتها هى آداتى الوحيدة للتعبير عنى فوجدتنى أرتاح اذا كتبت عنها فى يوم عيدها حتى ولو تأخرت وأما لغتى العربية فأحب أحرفها وطريقة رسمها وأجيد وأحسن الخط بها، احب الفاظها وتعابيرها وتراكيبها ولست ماهرا بها، أحب أن أتكلمها دائما وأسمعها فى كل مكان حتى لو فى الخارج تلتقطها أذنى عن بعد، فى مرة بمطار شارل ديجول وفى وسط سيول من ألسنة متعددة كانت تفرض نفسها بتسلط سمعت أحدهم يضحك بالعربية!، والله ميزت أنه عربى من ضحكته فأنتبهت، أحب قرآنها ومقرئيه، أغيب فى أصوات المقرئين المصريين فقط والقدامى منهم بالتحديد، وأستكين لصوت الشيخ محمود على البنا، أنا أحب لغتى قدرما أحب نفسي، أنا جزء منها وهى من محاسني.
أما لهجتى المصرية فأنا أذوب فيها هذه الملعونة خفيفة تروقني، لها خفة دم طبيعية جدا تنساب مع الصوت، كأن اصواتنا مصممة على مخارج الفاظها، بعض الكلمات أحب مداعبتها فى فمى قبل أن أنطقها، كأننى أغازل الكلمة وأستطعمها، وكلمات أخرى تكسونى بحالة وسع وبراح، وأحيانًا أرى الكلمة ترتسم فى عقلى بحروفها فتكون وحيًا سماويًا جليل فأكتبها فورًا قبل أن أنساها، تعرف فى احدى المرات أيقظتنى كلمة، وفى مرة ضربت رأسى بكفى لما سمعت من أحدهم كلمة، وأطمئن لما أقرأ من الله كلمة، انظر.. «فسيكفيكهم الله» ما هذه الكلمة، معجزة أليس كذلك!


تعرف.. أحب جدا شتائمها العامية والفصحى وأحفظ كلاهما وارددها أحيانًا بوقاحة وأضحك أعتقد أننى أتلذذ لما أفعل ذلك، فى مرات كثيرة استفزتنى أشياء وأنا فى بلاد غير عربية وكنت لما أثار وأغضب ينتقل لسانى فورا الى السباب بالعربية فأهدأ فورا كأننى تناولت حباية زانكس تتأثر اللغات فى الأغلب بعوامل شبه معروفة منها تأثير حجم أصحابها والناطقين بها فى العالم، لا عددهم. ويتأثر حجم انتشارها بحجم ما قُدم بها للبشرية ونفع الناس، وماهية العلم الذى تساهم هذه اللغة فى نشره، ويبقى السؤال هل قدمت هذه اللغة شيء!


هذه لغة أنا أحبها جدا بكل ما أصابها وحّجم انتشارها وقّلص فرصها، لكنها ومع ذلك تنتشر فى اوروبا بتوسع كبير حتى لو على لسان مهاجرين عرب فى ألمانيا وفرنسا والمجر وايطاليا، تتحدث بها مناطق كاملة فى أمريكا وتايلاند والهند أحيانًا، سمعتها بنفسى لم يحك لى عن ذلك أحد، أفخر جدا اذا تكلمتها أمام شخص لا يفهم

ها ولا أخجل اننى لا اتكلم لغته، أقله انا اتحدث لغة مختلفة هو لا يتحدثها واذا وجب على احدنا الخجل.. فليخجل هو من جهله بلغتي.
فى يوم اللغة العربية أحب أن أعتذر لها عما بدر من أصحاب لسانها الذين هم نحن، وأثق أن من خلقها سيكفيها حقها يوم يبعثون.