كنوز| «الموسيقار الحزين» فى مرآة الشاعر الكبير صالح جودت

 فريد الأطرش
فريد الأطرش

لو كان الموسيقار الحزين فريد الأطرش حيا بيننا الآن لكنا قد أضأنا له 112 شمعة فى ذكرى ميلاده مع عشاق أغانيه الساكنة فى الوجدان، جاء فريد للدنيا فى 19 أكتوبر 1910 ليملأها نغما، وفى ذكراه نعيد نشر ما كتبه عنه صالح جودت بمجلة «الكواكب» عام 1952. 

عندما كان «تومى داندو» يعزف على الأرغن بالقاهرة، قدرت أن هذا الرجل يستطيع أن يؤدى للموسيقى المصرية خدمة كبيرة إذا تذوقها، لأنه يعزف على الأرغن فى كل عواصم أوروبا، وإذا استطاع أن يهضم موسيقانا سيعزفها فى هذه العواصم، وقد أحببت أن أقوم بهذه المهمة فقدمته إلى كثير من الموسيقيين المصريين، وقدمت له ألوانا من الموسيقى المصرية، التى درسها وعزفها وقال لى: «ليس عندكم موسيقى تصلح للتصدير إلى الغرب إلا موسيقى عبد الوهاب وفريد الأطرش»، ومرت الأيام وسمعته يعزف فى لندن «على الأرغن موسيقى عبد الوهاب وفريد الأطرش، والجمهور الإنجليزى الذى يزن الموسيقى بميزان الذهب، يصفق ويُطرب لها بإعجاب!».

هذه الحكاية أقولها لجمع كبيرمن أهل الفن لا يحب فريد الأطرش ولا يحب أن يعترف به كفنان مُلهم، وهناك حكاية أخرى أقولها للذين كلما سمعوه أو سمعوا موسيقاه ضحكوا هازئين، إن مقياس النجاح للفنان يتوقف على مدى استجابة الجمهور له، وفريد من أحب أهل الفن للجمهور، وجمهوره فى أغلبه من ذوات الخدود الأسيلة والعيون الجميلة، صنف مرهف الحس رقيق الشعور، كلامه أنغام، وموسيقى فريد مرهفة حساسة رقيقة شاعرية، أنغامها أنسام . 

عرفت فريد فى أشقى أيامه، وعرفته فى أسعدها، عرفت الإنسان الذى لا تذله النقمة ولا تغيره النعمة، كان يغنى فى صالة بديعة مقابل قروش، واليوم يكسب من السينما آلاف الجنيهات، فريد كان فى سنة 1932 يجاهد فى سبيل جنيه يتقاسمه مع أهله، وفى 1952 يكسب الآلاف لا ليبنى ولا ليستغنى، بل ليتقاسمه مع أهله وأصدقائه، وأصدقاؤه سنة 1932 هم نفس أصدقائه سنة 1952 . 

فى نغماته حسن وحزن، الحسن أترك تقديره لمحبيه لا لكارهيه، والحزن مصدره سلسلة من المآسى فى حياته، قطيعة من الأهل وفجيعة فى شقيقته أسمهان المُلهِمة التى رحلت فى عمر الزهور، ووجيعة فى الحب الوحيد الذى كان نور حياته ووحى أنغامه، نرى الحزن منقوشا على وجهه حتى وهو يضحك !

ونراه وهو يغنى فنلحظ وجهه وهو يتجعد وينبسط، ويتقلص وينفرد وتكثر هناته وتبرز قسماته، والواقع أن قلبه يبكى ويذوب فى حرقة هذه الدموع الكامنة، ويعيب عليه بعضهم ضعف صوته، قد يكون هذا صحيحا لكن ميكروفون الإذاعة لم يترك فارقا كبيرا بين الصوت القوى والضعيف، على أن هذا العيب لا يقلل من قدره ولا يهبط بمكانته، فالموسيقى لا يُحاسب على صوته بل على ألحانه لأن الصوت فان والألحان خالدة، «بتهوفن» لم يكن يغنى لكنه أعظم موسيقار فى التاريخ.

ولست أعنى بذلك أن فريد فى مقام بيتهوفن لكنه من القلائل الذين يؤمنون بأن الموسيقى يجب أن تتطور وتجارى العصر لتصل للعالمية، وهو ممن يؤمنون بالهارمونى والأوركسترا، وهذا هو الغطاء القوى الذى يجعل الموسيقى كبضاعة صالحة للعالمية، أما ما بين الأساس والغطاء، فأمر من أمور الناس يحكمون فيه، له أو عليه، بقدر إيمانهم بالقديم أو الجديد، وعلى قدر أذواقهم وفطنتهم. 

صالح جودت «الكواكب» -22 يوليو 1952

إقرأ أيضاً|سر عدم زواج ملك العود «فريد الأطرش» حتى وفاته