سفيان البراق يكتب: أرشيف الوجع

صورة تعبيرية
صورة تعبيرية

ذات صباحٍ بارد وشاهق بالغيم، كانت السماء تدمدمُ بصخبٍ كبير، تألّمت أمى فى مستشفى متشرذم، اسم مستشفى لا يليقُ به صراحة. تألّمت ألماً شديداً وأخرجتنى لهذا الوجود، وأنا أصرخ صراخاً هزّ كيان تلك الحفرة التى نخرتها الرطوبة.


تعالت أمى فى السماء مسرورة، ووالدى أحسّ بانتشاء مذهل، الكل فرِح بولادتى، واستقبلونى بأحضانهم الدافئة وطبعوا قُبلاً حارّة على خذى بين فينة وفينة. يوم وُلِدت، شقت السماء بماءٍ غزير، تهاطلت الأمطار بوفرة مُخلِّفة جنوناً، وفرحة هيستيرية تجتاح أهل القرية.


كنت أحبو على قارعة الطفولة، أمشى ولا أمشي، أسير ولا أسير، أتفوّه بكلماتٍ غامضة، أقف ولا أقف، أنام ولا أنام، لم أكن أسمع شيئاً سوى مناغاة أمى. نَمَت أظافرى، استطعت الوقوف، أتلعثم فى الكلام بتطوُّرٍ شبه ملحوظ نِلت عليه وافر التصفيق والتشجيع. كلّما زاد عمرى إلّا ونزعت الحياة عنّى قناع الطفل المهذّب.

لم أعد ملاكاً بسبب تصرّفاتى، التى تبيّن، وبشكلٍ جلي، الخبث والشرّ الذى بداخلى. الخطأ الذى يجبُ على الإنسان أنْ يُصحِّحهُ هو ذلك الشر الّذى بداخله. وَلجتُ المدرسة.

واستمتعتُ بتعذيب الأساتذة بتصرفاتى المزعجة، تدير الأستاذة ظهرها وهى تشرح لنا كيفية تجاوز الأخطاء الإملائية التى لم أسلم من الاكتواء بجمراتها إلّا فى السنة الأولى من ولوجى للجامعة. كلما أدارت ظهرها لنا، أضربها بالطبشور، أو بغطاء قلمٍ جاف، أو أىّ شىءٍ كان فى يدى دون الاكتراث للعواقب التى تكون فى غالب الأحيان وخيمة. وهى تستدير، لمّحتُ عينيها تضجّان بالارتباك، تنزع نظارتها، ونعتت الذى ضربها بالحيوان والمُتخلف، وأنّ أمه لم تحسِن تربيته.


لم يستطع أحد أن يخبرها من الفاعل، لأنه لو تجرأ وأخبرها فإن محفظته سأسرقها له خلسة وأرميها فى أول بئر أتصادف معه. حُرِمتُ بسبب سلوكياتى من وجبة المطعم المدرسي، وحتى أعبِّر عن غضبى الشديد رميتُ المدير بكلماتٍ فجّة، كان لسانى حينها مسدولاً يقطرُ لعاباً. الأستاذات لما سمعن تلك الكلمات البذيئة طأطأن رؤوسهنّ خجلاً من الدبّ الداشر الذى يهضم حقوقنا فى استعلاء مجحف. وفجأةً شعرتُ بأصابع تنغرس فى عضدى، التفتُّ مذعوراً، وبوجه ممتقع ومصفرّ، همس حارس المدرسة بفمٍ رائحتهُ كريهة:
 استل بطاقتك المدرسيّة.
أجبته وقلبى قد وجل:


لماذا؟
قطّب جبينه غاضباً، وأشار برأسه أن أبتعد عن الإدارة. مضى أمامى بخطوات ثابتة فى تجبّر كبير. طلب منى مرّة أخرى بطاقتى دون أن أبدى أى مقاومة، ناولته ببلاهة بطاقتى المدرسية وأنا أحدّق فى فمه اللاّمع بأسنان ذهبيّة. الإنسان بطبعه يحبّ أن يرى الجمال الفتان. تمنيت أن تكون على رأس الإدارة مديرة أنيقة، تلبسُ ما تشاء من الملابس، بلوزة ذات أكمام قصيرة، وبألوانٍ زاهية، أو تنورة مشقوقة من الجوانب. تضع ما تشاء من الماكياج الثقيل، وأحمر شفاه بلون البلوزة، وهو ما لا تستطيع فعله المُدَرِّسة التى «تُحكٍّر» على اللغة بضوابطها وقواعدها، كم من مرة انهالت على بالضرب بواسطة خرطوم مياه أصفر.

كنت أتمنّى أن تتعرض لحادثة سير، لا تموت، بل تبقى طريحة الفراش لمدة معينة أنعم فيها بالراحة، ولا أستيقظ إلّا بعد أن تدسّ الشّمس أشعتها المتسللة من النّافذة فى جسدى.


كنتُ قبيحاً، لدرجة أنّ كل سكان القرية يتذمرون جراء أفعالى الكارثية، سرقتُ بيض الدجاج، كسّرتُ المصابيح، رميت شاةً بأحجار صماء حتى أُصيبت بكسرٍ فى إحدى قدميها. توقظنى أمى فى الصباح، أستيقظ منزعجاً، لأنّنى قضيت جل أطوار الليل وأنا أرى ما لا يراه أحد. الليل يتمدد كعجوز هرم يقفُ على شفير الموت، أرى فيه أبواباً كثيرة وكأنّ أحدهم أوصدها بأقفالٍ صدئة، يصعبُ فتحها. أرى من النّافذة السماء لا تحوم فيها العقبان، وأسلاكاً كهربائيّة خالية من الغربان، كنت أرى البعوض تغرزُ خراطيمها الواهِنة فى وجهى لتقتلنى بالحمّى الشديدة، بينما أنا أرى ما لا يراه أحد. لا أرى الفئران والعقارب تقتحمُ غرفتي، لا أرى الثعابين التى تمتهنُ الصيد والبحث عن الماء، لا أرى ذلك القط الوديع الذى تسهر أختى على تربيته، وتعتنى به، أمّا أنا فأرمى له حذائى وأبصق عليه. أكره الحيوانات. أقصّ ما رأيته على أمى فتقول لى إنّها مجرد كوابيس يا بُنى. كانت الأحلام، وفى كل ليلةٍ، ثقيلة كالحجر. فتساءلتُ قائلاً:


> هل كانت تلك الأحلام مثل أسراب الحمائم، التى تمرُّ سرباً سرباً فوق رأسى قبيل يقظة الشّمس فلا أسمع سوى حفيف أجنتها المُتدافِعة؟
أرهقتنى تلك الكوابيس الثقيلة، فأصابتنى بنوبةٍ حادة، كانت تلك الليالى كاسفة كئيبة، ناء فيها قلبى بأسى دفين. وفى كل يوم، وأنا فى طريقى إلى المدرسة، أصبّ جام غضبى على كل كائنٍ أتصادفُ معه، أتبوّلُ على الحشرات الصغيرة، أرمى الدجاج بالحجارة، أسبّ امرأة خاصمتنى على فعلتي، أدقّ باباً خلسةً، وإذا تكلّم أحدهم متسائلاً:


>من الطّارق؟
أُجيبه بنبرة ساخرة:
ـ أمُّك التى لا تملكُ أسناناً.
وأفرُّ هارباً إلى وجهةٍ لا يعلمها إبليس.
الأحلامُ مرتعُ الحكىّ ونواةُ القصّ، من لا يحلم فإنّ بداخله شيئاً آخذٌ فى الاضمحلال. الأحلام هى حياتنا الأخرى التى نلجأ إليها كلّما اقتضت الضرورة، بدافعٍ قسرىٍّ أحياناً حتى ننفلت من سطوة مطبّات الحياة، وحينة أخرى بإرادتنا حتى يجتاحنا دبيب التطلُّع لمستقبلٍ مشرق ينسينا نكسات الماضى التى أبت أن تُستأصل من ذاكرتنا.

اقرأ ايضا

عبد الوهاب الشيخ يكتب.. ما أجمل أن يقتلنى العشق «مقاطع من صراط العشق وجنة الأحوال»