حكايات| المصريون في رمضان.. عادات لم تتغير منذ 200 سنة

صورة أرشيفية
صورة أرشيفية

كتب: حسن حافظ

 

التفاصيل هي التى تربط ذكرياتنا بشهر رمضان، فالطقوس الاجتماعية تجعل لشهر الصوم طعما ولونا مصريا مميزا، حتى أنك تسمع دائما أن رمضان فى مصر شيء آخر عن مختلف البلاد العربية والإسلامية، ولا تأخذك الدهشة عندما تعرف أن عادات رمضان متجذرة فى الوجدان المصرى، كما رصدها الكثير من الشهادات الأدبية فى كتب متخصصة فى رصد العادات والتقاليد، فعلى مدار قرنين من الزمان لم تتغير العادات المصرية فى رمضان، بل إنها مستمرة وتزيد رسوخا مع الوقت.

 

ظاهرة الاحتفاء برمضان فى مصر توقف عندها الجميع سواء من المصريين أو من الأجانب، فجاءت الكتابات التى ترصد وتسجل مظاهر فرادة الاحتفال المصرى بشهر الصوم، بداية من المستشرق الإنجليزى إدوارد وليام لاين، مرورا بأحمد أمين وليس انتهاء بنعمات أحمد فؤاد وغيرها من كبار الأدباء والمفكرين الذين رصدوا تفاصيل الاحتفال بشهر رمضان المعظم، فالشهر الكريم يشكل انعطافة مهمة فى حياة المصريين جميعا، بمظاهره الاحتفالية وتفاصيله المبهجة ما يجعله محل بهجة وفرحة جماعية يشارك فيها الكبار والصغار، الرجال والنساء.

 

البداية مع وليام لاين الذى زار مصر أكثر من مرة خلال فترة حكم محمد على باشا فى النصف الأول من القرن التاسع عشر، وسجل ما شاهده فى كتابه الشهير (عادات المصريين المحدثين وتقاليدهم)، وخصص جزءا من الحديث عن احتفالات المصريين للحديث عن احتفالات شهر رمضان المعظم، وهنا نرى أن الكثير من مظاهر الاحتفال بالشهر الكريم لم تتغير على مدار قرنين من الزمان، فمع بداية شهر رمضان «تتلألأ الجوامع أنوارًا كما فى الليالى المتعاقبة وتعلق المصابيح عند مداخلها وفوق المآذن».

 

ويرصد وليام لاين بعض مظاهر رمضان فى منتصف القرن التاسع عشر، وتظن أنه يحكى عن بعض مظاهر الصيام فى قاهرة القرن الحادى والعشرين، إذ يقول: «وتكتسى الشوارع نهارا منظرا كئيبا وتغلق معظم المحلات أبوابها، ويعود الازدحام إليها كالعادة فى فترة بعد الظهر وتفتح المحلات أبوابها، ويكون المسلمون طوال صيامهم نهارا نكدى المزاج، ويتحولون ليلا بعد الإفطار إلى ودودين محبين بشكل غير عادى.. ومن الشائع فى رمضان رؤية التجار فى متاجرهم يتلون آيات من القرآن أو يؤدون الصلوات أو يوزعون الخبز على الفقراء.. ويتوافد فى هذه الأوقات أبناء الطبقات الدنيا إلى المقاهي، ويفضل بعضهم كسر صيامه بفنجان قهوة».

 

اقرأ أيضًا| عودة لعصر البصمجي.. بيزنس حفر الأختام النحاسية يدويًا

 

وتقدم البيوت بعض المشروبات والمكسرات كما هو الحال اليوم فيرصد المستشرق الإنجليزى تقديم البيوت المصرية «الزبيب والتمر المجفف والتين المجفف والكحك والبندق المحمص والجوز، وبعض قلل الشربات من السكر والماء»، ثم يتحدث عن الطقوس اليومية للصائمين فيؤكد على ازدحام المساجد بالمصلين لأداء صلاة التراويح.

ويتابع: «يتناول المسلمون فطورهم عامة فى منازلهم ويمضون بعده ساعة أو ساعتين أحيانا فى منزل أحد الأصدقاء، ويرتاد بعضهم - خاصة أبناء الطبقات الدنيا - المقاهى فى المساء، فيعقدون اللقاءات الاجتماعية أو يستمعون إلى رواة القصص الشعبية (ما يشبه المسلسلات فى زمننا هذا)... ويتدفق الناس إلى الشوارع طوال جزء طويل من الليل، كما تبقى محلات بيع الشربات والمأكولات مفتوحة. وهكذا ينقلب الليل نهارًا بفضل الأغنياء خاصة الذين ينامون فى النهار».

 

وإذا تركنا القرن التاسع عشر خلفنا، فسنجد الكاتب أحمد أمين، الذى يعد من كبار المفكرين المصريين فى القرن العشرين، فصاحب (فجر الإسلام)، كتب واحدا من أمتع كتبه بعنوان (قاموس العادات والتقاليد والتعابير العامية) 1953، الذى يرصد فيه تفاصيل الحياة المصرية فى النصف الأول من القرن العشرين، وهنا يقدم لمحات توثيقية بحس أدبى رفيع عن تفاصيل احتفالات المصريين بشهر رمضان، ومن المدهش أن معظم الاحتفالات تكاد تكون واحدة مع ما نمارسه الآن من الاحتفال بالشهر الكريم، إذ يقول: «وإذا عشت رمضان فى مصر، رأيت الحياة البيتية تتأقلم برمضان، فاحتفال بالإفطار وإحسان إلى الفقراء، وسهر للسحور والمسحراتية، ومدافع الإفطار والسحور، والإمساك، وكثرة الابتهالات، وإخراج زكاة الفطر قرب العيد».

 

وتكاد مائدة المصريين تكون واحدة فى شهر رمضان على مدار القرن العشرين، فيرصد أحمد أمين أنه «فى رمضان يروج الإفطار على الفول المدمس، وتكون الحلوى كنافة وقطايف وقمر الدين مطبوخا أو منقوعا»، أما قمر الدين فـ «هو كثير الاستعمال فى رمضان، وخصوصا إذا جاء رمضان فى الصيف، وبعد نقعه أو طبخه يضاف إليه العسل الأسود أو السكر، وهو من لوازم رمضان كالكنافة، وكثير من الناس يفطرون عليه فى رمضان، ولعل تسميته بقمر الدين جاءت من أنه يهل على الناس فى رمضان وهو شهر الدين»، وهو يشدد على أن «الكنافة والفول المدمس من لوازم رمضان والعزائم»، كما يؤكد أن الإقبال على الفول فى رمضان أكثر من بقية شهور العام، وهو نفس الوضع القائم حتى الآن.

ويذكر أمين بعض عادات المصريين فى رمضان قائلا: «وقد اعتاد الأغنياء والمتوسطون أن يحضروا فى رمضان فقهاء يقرأون القرآن إلى السحور كل ليلة»، ومن عادات «بعض الناس أن يصففوا أمام بيوتهم قللا نظيفة ملأى فى رمضان ليشرب منها المارون وقت الإفطار»، وهى نفس فكرة تواجد بعض الشباب فى الطرق يوزعون المشروبات على أصحاب السيارات المارة وقت الإفطار.

 

ويضيف في موضع آخر: «المدفع يستعمل عادة عند المصريين فى مواقف خاصة، فيطلق عند الإفطار فى رمضان وعند السحور وعند الإمساك»، أما سلف الفوازير الاستعراضية فهو الأراجوز أو القراجوز وهو «شخصية محبوبة جدا فى الشارع المصرى، وأكثر ما تقام فى ليالى رمضان وفى الأعياد».

 

ونكتشف من كتاب أحمد أمين أن أغنية (وحوى وحوى) كانت معروفة فى الأحياء الشعبية قبل زمن الراديو والتلفزيون، بل الواقع يقول إنها خرجت من الواقع إلى شاشات التلفزيون لتعيش فى الذاكرة المصرية، إذ يقول: «هى أغنية فى رمضان بين الصبيان، يجتمع الأطفال بعد الفطور وبأيديهم فوانيس صغيرة بالشمع، زجاجها ملون بألوان مختلفة، من أحمر وأخضر وأزرق وأصفر.

 

وينشد منشدهم: وحوى وحوى! فيجيب الآخرون إيّاحة! ثم يستمر المنشد: بنت السلطان، لابسة قفطان، بالأحمر، بالأخضر، بالأصفر»، وينشد الأطفال وراء كلمة إياحة، ولا أدرى معناها هل هى كلمة مصرية قديمة؟ أو هل هى مشتقة من حوى يحوى، أى عمل كما يعمل الحواة، بدليل قولهم: لولا فلان ما جينا، ولا تعبنا رجلينا، ولا حوينا ولا جينا».

 

نذهب إلى شهادة أخرى بعد نحو 30 عاما من شهادة أحمد أمين، وهذه المرة نجدها عند الدكتورة نعمات أحمد فؤاد، التى قدمت فى كتابه (القاهرة فى حياتي) 1986، جزءا من سيرتها الذاتية، ومن ضمنها علاقتها بشهر رمضان، إذ خصصت له فصلا كاملا.

 

وتقول: «ورمضان يتميز فى كل شيء عن الشهور الأخرى، فى الطعام وتوقيته ونوعيته، فى السحور، فى الأذان، فى النوافل. ففى الطعام يفضل كثيرون أن يتناولوا شرابا ساخنا أو شرابا محلى بالسكر، وغالبا ما يكون قمر الدين، وفاكهة طازجة أو مجففة ثم يؤدون صلاة المغرب، وبعدها يتناولون فطور رمضان التقليدى الذى تتفنن فيه ربة الدار وتحتشد له من أول يوم».

 

وتمضي في وصفها: «ومهما تنوع وتعدد فإن الفول المدمس مرموق فى موائد رمضان فى الفطور، وهو طبق أساسى فى السحور، ومن تقليدات رمضان الكنافة والقطايف. وفى رمضان يفضل كثيرون تناول فطورهم فى بيوتهم لحاجة الإنسان إلى الراحة بعد صيام طويل، خاصة إذا جاء رمضان فى فصل الصيف».