من قال إن الجزاء يكون دوما من جنس العمل.. من قال إن الكرامة حقيقة مؤكدة وأنه حتما كما تدين تدان وأن ما تفعله من خير سيعود عليك خيرا وماترتكبه من شرور ستجنيه حتما شرا.. تبدو لى كل هذه القناعات لا معنى لها.. مجرد كلمات نحاول أن نطيب بها أرواحنا المكسورة ونهدئ خواطرنا المضطربة ونخفف قدرا من ألم نفوسنا الجريحة.
قاسية هى الحياة بأصحاب القلوب الرقيقة التى لا تعرف الغش ولا الخداع ولا المعانى المزدوجة لما تنطقه الألسنة.. غير مدربة على فك شفرات الرسائل التى تحملها العيون.. تقرأ مايبدو لها على السطح.. براءتها تحول دون كشف المزيف من المشاعر والكلمات.. وبساطتها تجعلها ترى كل مايدور من حولها كما يتراءى لها دون أن تعى أن ما فى أعماق البشر وسرائرهم ما هو أكثر خبثا وشرا ودناءة.
كان من الممكن أن يمر العمر كله دون أن تكتشف حقائق البشر وحيلهم وألاعيبهم الخبيثة لكن جاءت الصفعة قوية لتوقظها من أوهامها وتكشف لها كم كانت مخدوعة وكم كانت تنسج من الأوهام حلما خياليا يجمل واقعا قبيحا تبدى لها بشاعته فتمنت من فرط قسوته لو ظلت على خداعها الحالم دون أن تكتشفه.
لكن تفاصيله المقبضة تحاصرها تقبض على روحها فتفشل معها كل محاولة للهروب أو الفكاك .
تعود لسنوات مضت تتذكر تلك التفاصيل.. يتصدر المشهد دوما بصورته الدائمة الحضور فى قلبها وروحها وكل كيانها.. شاب يكبرها بأعوام قليلة مازال يخطو أولى خطواته العملية مثلها.. من أسرة متوسطة.. لا يملك مثل ملايين غيره تكاليف الزواج.. لكنها لم تكن مثل كثيرات فى مثل سنها يبالغن فى الطلبات المادية.. لم تكن تحفل كثيرا بالمظاهر.. وتوقن أن متعة المشاركة فى تأثيث بيت الزوجية يضفى على الزوجين مشاعر أكثر دفئا وقوة ويزيد من ترابطهما وتمسكهما باستمرار ونجاح حياتهما معا.
بهذه القناعة بدأت طريق التنازلات كما وصفته صديقاتها وشقيقاتها لكنها لم تكترث كثيرا بتلك التحذيرات.. اكتفت بدبلة ذهبية تحمل اسمه الذى تتضاءل أمامه كل كنوز الدنيا.. ساعدته فى شراء الشقة.. تحملت معه كل التكاليف التى كان عليه الالتزام بها.. اكتفت بحفل بسيط للزواج عكس رغبة أهلها.. قنعت بحياتها البسيطة بيقين أن مشوار حياتهما الصعب سيكلل فى النهاية بكل نجاح ومعه ستعيش أجمل أيام عمرها.
لم يتغير الحال بعد الزواج، ظل عطاؤها بلا حدود، ومشاركتها فى تحمل أعباء الحياة بلا حساب.. لم يقتصر على دخلها من مرتبها فقط بل كل ما كان يصل إليها من مساعدات أهلها.. لم تتوقف يوما لتتساءل أيهما ينفق أكثر من الآخر أو تدرك أن ما تساهم به من مصاريف يفوق كثيرا ما ينفقه زوجها.. لم تتردد حتى بعدما حصلت على ميراثها الشرعى بعد وفاة والديها من أن تجنب تلك الأموال لعلها تنفعها فى يوم تقسو فيه الأيام.. لم يكن للحذر مكان فى عقلها ولم تكن لقسوة الأيام معنى يمكن أن يدركه قلبها البريء الذى لم تخدشه مشاعر مكر أو خبث أو دهاء.
لكن الحياة لا ترحم المغفلين.. وأعترف أننى من أكبرهم.. للأسف لم أدرك هذه الحقيقة إلا بعد صفعة دامية.. اكتشفت خداع زوجى لى.. حملنى مسئولية مصاريف البيت مدعيا قلة الحيلة وضعف المرتب بينما نجح بعد سنوات فى إدخار مبالغ ضخمة اشترى بعدها شقة فخمة وأثثها بأفخر الأثاث ولم يكن هدفه من وراء كل ذلك أن ينقلنا لمستوى أفضل ويعوضنى جزءا مما تحملته معه من تعب.. لكنه كان يسعى لحياة جديدة وعروس صغيرة يراها الأجدر بتلك الحياة.
للأسف اكتشفت كل تلك التفاصيل بالصدفة عندما رآه شقيقى يخرج من إحدى العمارات وبدا عليه الارتباك وحاول أن يختلق القصص الملفقة يحاول بها أن يحجب حقيقة امتلاكه لشقة بتلك العمارة.. لأول مرة أتخلى عن سذاجتى وأسعى لمعرفة الحقيقة.. وتأكدت من كذبه وعرفت أنه يتردد على تلك الشقة ويضع فيها لمساته الأخيرة بصحبة زوجته المستقبلية الجديدة.
لم تكن صفعة المواجهة أقل قسوة من صفعة اكتشاف الخديعة.. خرجت كلماته متبجحة صفيقة متعالية.. مدعيا لنفسه الحق فى الحياة مع زوجة جديدة وأن الشرع كفل له هذا الحق وأنه لم يطلب منى كل ما قدمته من تضحية لأنى قدمتها عن طيب خاطر، ولم يطلب منى تحمل كل نفقات البيت لأنى من قدمت ذلك برضائى، ولم يطلب منى صرف ميراثى على احتياجات الأولاد لأنى فعلت ذلك بمحض إرادتى سعيا لتوفير الحياة التى أتمناها لأولادى فآثرت استثمار كل ما أملكه من مال لتعليمهم وليس من حقى أن ألومه عن تقصير لأنى لم أطلب منه يوما أى مساعدة .
فعلا لن ألوم إلا نفسى فليخرج من حياتى ولأتحمل بعد خروجه كل مسئولية أولادى..لم أعد فى حاجة إليه.. لم أعد أتحمل رؤية وجهه.. صارت ملامحه أقرب للشياطين إن كانت لشياطين الإنس وجوه أكثر بشاعة ونفوس أكثر قبحا.
فليذهب إلى الجحيم بطمعه وجشعه وجحوده وأنانيته.. للأسف لم تكن قناعتى وتنازلاتى هذه المرة أيضا تقل سذاجة وغباء وخيابة فى نظر أهلى وصديقاتى عن تنازلاتى الأولى.. يدفعنى الجميع للوقوف فى وجهه ومطالبته بكل مصاريف أولاده وإجباره على تحمل مسئولية تخليه عنها بإرادته وساعدته فى ذلك بسذاجتى وبراءتى.
مازلت مترددة ومازلت رغم كل ما حدث أرى أن كل أموال الدنيا لن تعوض الإحساس بمرارة الخديعة وانكسار الروح بعدما يتبدى أمام أعيننا الواقع بكل قبحه فتنطفئ فينا كل رغبة فى الحياة .
لصاحبة هذه الكلمات أقول:
نفرط أحيانا فى العطاء فندفع الآخرين فى استنزافنا واستغلالنا دون قصد أحيانا وعن قصد وسوء نية فى كثير من الأحيان.. أسرفت فى تحمل المسئولية واندفعت لإنفاق كل ماتملكه يديك لتوفير احتياجات أسرتك.. فتحت الباب على مصراعيه ليتسلل زوجك متخليا عن واجباته هذا لا يعفيه بالطبع من المسئولية فربما لو كان شخصا آخر على قدر من الوفاء والشهامة والنخوة لكان قدر كل مافعلته أفضل تقدير ولجعلك ملكة متوجة فى بيتك وحاول رد جميلك قدر ما يستطيع.. لكنها الأنانية والجحود ونكران الخير كلها أعمته عن حقيقة معدنك الطيب وزللت له الحياة بعيدا عنك مع أخرى ربما تكون على نقيضك لتستنزف فيما بعد كل ما ادخره فى غفلتك وحسن ظنك.. رغم مرارة التجربة التى عشتها إلا أن تجاوزها سيفتح لك بابا لحياة أكثر واقعية تكونى فيها أكثر قوة ونضجا فى التعامل مع زلات البشر.. وأولى خطواتك فى هذه الحياة ألا تتنازلى عن حقك وحقوق أولادك.. دعيه يتحمل نفقاتهم ويكفيه سنوات اللامبالاة والانسحاب والتخلى.. فليتحمل مسئوليته كاملة وليتحمل نتيجة اختياراته المريرة.. ويدفع أخيرا فواتير كانت مستحقة عليه دفعتها أنت طيلة سنوات طويلة لكنه للأسف لم يقدر قيمتها ولاقيمتك.