البحيرات المرة.. قصة المواجهة بين إسرائيل والمشير طنطاوي!

د. محمد عبود
د. محمد عبود

بقلم د. محمد عبود:

لا شك أن التاريخ العسكري يتوقف كثيرا أمام يوم الخامس عشر من أكتوبر 1973. في هذا اليوم الخالد، اجتمع منذ 48 سنة عددٌ لا بأس به من قادة إسرائيل وجنرالاتها في مواجهة ضابط مصري شاب، صار فيما بعد وزيرا تاريخيا للدفاع في مصر. وحرص القادة العسكريون والسياسيون الإسرائيليون على السؤال عنه، ومقابلته، إن أمكن، على هامش كل زيارة رسمية للقاهرة في عصر الرئيس الأسبق محمد حسني مبارك!

أريئيل شارون، إيهود باراك رئيسا وزراء إسرائيل، اسحق مردخاي وزير الدفاع الأسبق، إمنون شاحاك رئيس الاستخبارات الحربية الأسبق، اللواء أفراهام آدان قائد المنطقة الجنوبية، حييم بارليف صاحب فكرة خط بارليف الشهير، كل هؤلاء تحطمت أسطورتهم أمام بسالة بضعة جنود مصريين مسلحين بتسليح خفيف، ومدعومين بمجموعة من صيادي الدبابات المصريين المهرة.

صدرت الأوامر لجميع القادة الإسرائيليين سالفي الذكر في الرابع عشر من أكتوبر باحتلال محور "أبو طرطور" في الضفة الشرقية لقناة السويس تمهيدا لتطوير الهجوم الإسرائيلي، وتنفيذ هجوم عسكري لإجهاض الانتصار المصري المتصاعد منذ اندلاع الحرب. في ذلك الوقت شاءت الأقدار أن يتولى حراسة هذا المحور ضابط نوبي شاب، لم تعره إسرائيل انتباها وقتها. المقدم محمد حسين طنطاوي قائد الكتيبة 16 مشاة بالجيش المصري الذي ظل رجلا متواضعا، يعرف بحكم منصبه كيف أثرت بطولات كتيبته في مسار حرب أكتوبر، لكنه لم يسع يوما للتذكير بما حدث. حتى عندما تحدث عن المعركة في لقاء متلفز، صار ينسب البطولة بالأسماء لضباطه ومجنديه، دونا عن نفسه.

كتيبة المشير طنطاوي كانت من أوائل الكتائب التي عبرت قناة السويس في يوم السادس من أكتوبر قبل الساعة الثانية ظهرا. وكُلفت بتحرير نقطة إسرائيلية حصينة، والسيطرة عليها لمنع قوات الدعم الإسرائيلية من التقدم صوب قناة السويس.

نقطة المزرعة الصينية، عند البحيرات المرة، شرق الإسماعيلية التي حررتها كتيبة المشير طنطاوي، وتمركزت فيها صارت جُرحا أليما في نفوس الإسرائيليين حتى اليوم، عانوا فيها من ويلات الحرب والقتل والأسر. وصارت سرا عسكريا دفينا يرفض المؤرخون العسكريون الإسرائيليون نبش ملفاته حتى جاء مخرج الأفلام الوثائقية "نير طويب" الذي شارك والده في هذا القتال. وصنع فيلما وثائقيا جريئا يعري الهزيمة الإسرائيلية النكراء، ويكشف بطولات المقاتل المصري.

فيلم "المزرعة الصينية.. خواطر (المحاربين)" جمع شهادت الجنود والضباط المشاركين في المعركة التي خاضتها إسرائيل بكبار قادتها وقتها ضد طنطاوي ورجاله. يقول "يوريك فارتا": "أعتقد أنني، وزملائي أُرسلنا إلى هذه المعركة لنكون طعاما للدبابات المصرية". ويضيف "ناتان شونري" قائد كتيبة الاستطلاع الذي أدرك صعوبة المواجهة مبكرا: "قلت لجنودي في اللاسلكي، كل جندي مسئول عن مصيره"!  أما "إيلان كوهين" جندي إسعاف فيقول: "شاركت في مهام الإنقاذ، لمحت ثلاثة جنود جرحى، نزلت من السيارة المدرعة، لأخلصهم، وما أنا مشيت ثلاثين مترا حتى سمعت صوت انفجار مخيف، رفعت رأسى وصعقت من منظر آثار احتكاك صاروخ آر بي جي مضاد للدبابات بسطح سيارتي المدرعة. في الواقع لم تخرج مدرعة إسرائيلية من هذه المعركة بدون جرح غائر".

خطة الكتيبة المصرية كانت تقوم ببساطة على نصب أكمنة للمدرعات والدبابات الإسرائيلية، ومعاجلتها بصواريخ الأر بي جي لوقف تقدمها، ثم تصفية طاقمها في معارك من النقطة صفر. "شوكى واينشتين" جندى شارك في المعركة يقول: "كانت صواريخ آر بي جي الروسية مفاجأة الحرب المرعبة لسلاح المدرعات الإسرائيلي. كانت مفاجأة كريهة بكل المقاييس، لم نتدرب على مواجهتها من قبل، كما لم نتدرب على تخليص جرحى في ميدان مكشوف، سماؤه تمطر صواريخ مصرية مفترسة".

"جفرى أليعازر" مجند آخر يضيف: "رأيت الصواريخ تتطاير أمامي، وتتقدم نحوى بسرعة البرق، في البداية لم أعرف ما نوع هذه المقذوفات، وكنت أصرخ في زملائى لينبطحوا، وبعد ذلك اكتفينا بمحاولة الهرب منها بأية وسيلة".

موشيه دايان وزير الدفاع الإسرائيلي قال عقب زيارته للمزرعة الصينية برفقة اللواء شارون لاحقا: "لم استطع إخفاء مشاعري عند وصولي. مئات من العربات العسكرية المحطمة والمحترقة في كل مكان. وكلما اقتربت من دبابة، يراودني الأمل ألا أجد علامة الجيش الإسرائيلي عليها، ثم ينقبض قلبي. كان هناك كثير من الدبابات الإسرائيلية".

لا شك أن الفضل ما شهدت به الأعداء، ولا شك أن المشير طنطاوي الذي تصفه صحيفة معاريف بـ "بطل معركة البحيرات المرة"، ورجال كتيبته الباسلة يحق لهم أن تخلد بطولاتهم في حرب أكتوبر، وأن يزاح الستار عن بسالة وشجاعة الجندي المصري المقاتل في الميدان الذي يقول عنه اللواء "موشيه عِڤرى": "فاجأنا الجنود المصريون بشجاعتهم وإصرارهم. لقد تربى أبناء جيلي على قصص خرافية عن الجندي المصري الذي ما أن يرى دبابة تهجم عليه، حتى يخلع حذاءه، ويسلم ساقيه للريح. ولم يحدث هذا في المزرعة الصينية. استيقظنا على الحقيقة المرة. لم تنخلع قلوبهم لرؤية دباباتنا، كانوا يلتفون حولنا في نصف دوائر، ويوجهون صواريخ آر بى جى في إصرار منقطع النظير. ليس لدى تفسير للموقف سوى أنهم كانوا سكارى بالنصر، وفي مثل هذه الحالة ليس للدبابة أي فرصة في المعركة".