ياسين.. الفراشة الراحلة

هالة العيسوى
هالة العيسوى

كان يتحرك بيننا طائرًا كالفراشة، بنفس رقتها ووداعتها يحط أمامنا، وبنفس رشاقتها يحلق مختفيًا إلى مكتب آخر. لا تشعر بوقع أقدامه كأنما لا يلمس الأرض أصلاً. لا يؤخر طلبًا، قبل أن تنهى عبارتك تجد طلبك أمامك منفذًا بكل دقة وحرفية. متى جاء ومتى اختفى من أمامك؟.. لا تدرى. خفيض الصوت لا تسمع منه إلا همسًا، خجول حيىّ، نداعبه بالقول المشهور: يابنى انت بتتكسف من خيالك. وأمازحه قائلة: احمد ربنا إن معنديش بنات وإلا لما أفلتك من بين يديّ.
ياسين ازيك يا ولدى.. ههههههه.. ازيك يا أستاذة.
بتضحك على ايه يا حبيبى بقولك ازيك..  ههههه.. الله يسلمك الحمد لله.. بعد هذه الديباجة المعتادة فى كل اتصال ندخل فى الجد، نتحدث فى الشغل، يبهرنى بسرعة أدائه، بلماحيته فى أن يدرك ما أطلبه قبل أن أنطق به. لم أضبطه يومًا متجهمًا، أو شاكيًا، أو مستاءً.
زلزلنا رحيله المفاجئ، وعكة صحية عنيفة لم يصمد فيها أسبوعًا كاملًا. فى أيام معدودة غادرنا بنفس الخفة والوداعة التى كانت تميزه. ترى يا بنى أكنت تحمل فى شرايينك هذا السم الزعاف ولا تدرى؟ أم كنت تكتم ألمًا هائلًا حتى لا ترهق والديك بالقلق عليك؟ أم انها مباغتة القدر ورحمة ربى كى لا تتألم طويلًا؟
 جنازته كانت كزفة العريس للحور العين، ذهب اليهم راضيًا مرضيًا. . ياااا االله ما هذه الحفاوة الربانية، ما هذه النسمات السماوية التى هفت علينا فى عز الظهر عند مرقدك الأخير؟ مراسم العزاء فيه كانت مظاهرة حب استثنائية، السرادق الضخم الذى أقامته دار أخبار اليوم  يكتظ بالمعزين لا تكاد تمر دقائق حتى نطلب المزيد من المقاعد. هو مجرد شاب فى مقتبل عمره لم يتم الثلاثين، ليس مشهورًا ولا صاحب منصب أو سلطة. البعض من المعزين والمعزيات قالوا لم تتسن لنا فرصة التعرف عليه او التعامل معه لكن سيرته العطرة بين زملائه دفعتنا دفعًا للمجىء. انها محبة الخالق لأحد عباده الصالحين الذين يمشون على الأرض هونًا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلامًا.
ودعناك كما نودع نسمة عليلة مرت علينا، رحلت الفراشة ولم يتمكن أحد من التقافها والإمساك بها. ياسين مر من هنا..