محمد جادالله يكتب: الفارابي.. والمدينة الفاضلة

محمد جادالله
محمد جادالله

كان الفارابي يحلم بتنظيم العالم تنظيمًا شاملًا يجعل منه دولة مثالية على غرار جمهورية أفلاطون أو مدينة صالحة عاقلة، تكون رياسة الحكم فيها لفيلسوف صفات نفسه حتى كاد أن يكون نبيًا. لذلك نجد أن نظرية الفارابي عن "المدينة الفاضلة" تحمل طابعًا يونانيًا لاستقائه من الفلسفة الأفلاطونية، ولكنها أيضًا جاءت نتيجة لتطلعاته الفلسفية والصوفية كفيلسوف إسلامي، ومن هنا فإن آراءه في "المدينة الفاضلة" تشمل البشر الذين يعيشون على هذه الأرض جميعًا وليست هي منهجًا سياسيًا يطبق في أوضاع راهنة.

ووصل اهتمام "الفارابي" بموضوع المدينة الفاضلة، إلى أن وضع كُتبًا بالأسماء الآتية: آراء أهل المدينة الفاضلة، السياسات المدنية، الجمع بين رأي الحكيمين "أفلاطون وأرسطو"، فهذا الكتاب الذي يسخر منه الكثيرون يعتبر في نظرنا كتابًا حاسمًا في بيان بعض آراء الفارابي نفسه. والسؤال الذي يطرأ علينا الآن، ما هي غاية الفارابي من وضع كتاب "آراء أهل المدينة الفاضلة"؟

بالتأكيد عزيزي القارئ؛ لم يكن الفارابي يحاول تقليد أفلاطون بعيدًا عن الحياة والتجربة علي حد رأي الدكتور صليبا والأب يوحنا قمير، والواقع أنه كان لدي الفارابي كما جاء في بحث سليم طه التكريتي المعنون بـ"الحكم الصالح في نظر الفارابي" غاية هي أن يستخلص من وقائع الحاجة التي خبرها بنفسه ولا سيما واقع المجتمع الإسلامي سواء في بلاده التركستان أم في بغداد ودمشق ومصر وغيرها، ما خبره من أحوال الحاكمين والمحكومين في هذه الأمصار، وما لمسه في الفساد العميم المتفشي آنذاك في كل ناحية من نواحي المجتمع الإسلامي علي اختلاف أقطاره، أراد أن يستخلص من ذلك كله أولاً ومن دراساته الفلسفية ثانيا، نظامًا نموذجيًا يحقق السعادة للبشر ويوطد سبل التآخي والتعاون الحر الفعال بين أفراد المجتمع الواحد، وعلي نطاق المجتمعات المتباينة أيضًا.

ولما كانت الغاية القصوى للإنسان هي التعاون علي نيل السعادة، فخير المدن هي المدينة الفاضلة، كما أن الاجتماع الذي يتعاون فيه على نيل السعادة هو الاجتماع الفاضل، أي أن بلوغ السعادة هو الهدف الأخلاقي الذي من أجلة سعي الفارابي إلي تأسيس المدينة الفاضلة. ويري الفارابي أن الناس قد دعتهم الضرورة الطبيعية إلى الاجتماع. ولهذا نجد أن الاخلاق والسياسة في رأي الفارابي متصلان ومرتبطان.

أضف إلى ذلك عزيزي القارئ إن المدينة الفاضلة أشبه ما تكون بالبدن التام الصحيح الذي تتعاون أعضاؤه كلها. كما أن البدن به عضو واحد رئيس وهو القلب، وله أعضاء تقرب مراتبها من ذلك الرئيس، وأعضاء آخر أقل منا فأقل، ثم هكذا إلي أن تنتهي إلي اعضاء تخدم ولا ترؤس أصلا، كذلك المدينة اجزاؤها مختلفة بالفطرة متفاضله الهيئات، وفيها إنسان هو رئيس وآخرون أقل منه لكل واحد منهم هيئة وملكة يفعل بها فعلا ما هو مقصود ذلك الرئيس وكذلك تشبيه المدينة الفاضلة بالموجودات الطبيعية من حيث الاختلاف والارتباط والتدرج والترتيب، أي انه كما يقول الفارابي في (السياسة المدنية ص84) شبيهة بمراتب الموجودات الطبيعة التي تبتدئ من الأول وتنتهي إلي المادة الأولي والأسطقسات، وهكذا فنسبة الرئيس إلي المدينة كنسبة السبب الأول إلي الموجودات ونسبة القلب إلي أعضاء البدن، ونسبة القوة الناطقة إلي قوة النفس الأخرى. لذلك فإن الفارابي الذي يصف الله في "آراء أهل المدينة الفاضلة" بأنه "الأول"، فإنه أيضًا يطلق علي رئيس المدينة الفاضلة هذا الوصف. والسؤال الآن، هل يوجد خاصل أو صفات لابد ُن يُوصف بها هذا الرئيس؟

بالطبع نعم، لا يمكن لأي إنسان أن يكون رئيس "المدينة الفاضلة" إلا أن تجتمع فيه أثنتا عشرة خصلة قد فطر عليه: أن يكون تام الأعضاء. وأن يكون بالطبع جيد الفهم والتصور لكل ما يقال له. وأن يكون جيدًا الحفظ لما يفهمه ولما يراه ولما يسمعه ولما يدركه. وأن يكون جيد الفطنة، ذكيًا. وأن يكون حسن العبارة. وأن يكون محبًا للتعليم والاستفادة، منقادًا، سهل القبول، لا يؤلمه تعب التعليم. وأن يكون غير شره على المأكل والمشروب والمنكوح، متجنبًا بالطبع للعب. وأن يكون محبًا للصدق واهله، مبغضا للكذب وأهله. وأن يكون كبير النفس، محبا للكرامة، وأن يكون الدرهم والدينار وسائر أعراض الدنيا هينة عنده، أن يكون بالطبع محبًا للعدل وأهله، ومبغضًا، للجور والظلم وأهلهما، أن يكون قوي العزيمة على الشيء الذي يري أنه ينبغي أن يفعل خسورًا عليه، مقدامًا ولا ضعيف النفس خائف.

وختامًا، المدينة الفاضلة التي ينشدها الفيلسوف العربي هي نموذج لمجتمع إنساني راق يؤدي كل فرد فيه وظيفته الخاصة التي تلائم كفاياته، وأفراد المجتمع كأعضاء البدن.