حديث الاسبوع

الماء.. قضية ليست حقلاً للألغام

عبدالله البقالى
عبدالله البقالى

مفهوم السيادة الوطنية يختلف باختلاف جغرافية ومجالات هذه السيادة، إذ يكون هذا المفهوم مرتبطا بجغرافية الوطن فيما يتعلق بالحدود الترابية مثلا، بنفس القدر الذي يرتبط فيه بالانتماء إلى العالم و إلى الكون. ولعل مفهوم السيادة الوطنية على الماء يندرج في صلب تجسيد انتماء القطر إلى الكون، بحيث تكون هذه السيادة مرتبطة بالقوانين وبالاتفاقيات وبالمعاهدات التي تنظم الانتماء الجماعى إلى هذا العالم وتمثل تعاقــدات تنظيم هــذا الانتماء. وبذلك فإن التعامــل القطري مــع قضيــة الماء لا يمكن، ولا يقبل، أن يتم الاكتفاء فيه بتدبير المصالح الوطنية الضيقة. فالماء كــما الهــواء حــق مشترك بين شعــوب العالــم كافــة، ولا حــق لشعب، ولا لدولــة، ولا لحكومة، فى التصرف فيه بصفة فردية لا تراعى الحقوق المشتركة للشعوب والدول.
فالماء يعد عنصرًا أساسيًا من عناصر الحق فى الحياة بالنسبة للبشرية جمعاء، وهو شديد الارتباط بحقوق أساسية أخرى من قبيل الحق في الصحة، والحق في العيش الكريم، كما أنه مكون رئيس من مكونات الأمن الغذائى، فبدون مياه ستنهار منظومة الحياة المتكاملة والمترابطة. ولهذه الاعتبارات وغيرها كثير فإن مجال تدبير المياه في العالم أضحى من المجالات الحيوية والرئيسية التي تحظى باهتمام المجتمع الدولي، ومن الإشكاليات الكبرى السائدة حاليًا في بنية النظام العالمي الراهن. ولعل القول بأن الحروب القادمة في العالم لن تعتمد على الأسلحة التقليدية الفتاكة والمدمرة، ولكنها ستكون حروب مياه بدرجة رئيسة، بحيث تسعى القوى العظمى إلى التحكم في مسار مجاري المياه في العالم سواء بطرق مباشرة، أو عبر افتعال أزمات ثنائية وإقليمية بين الشعوب والدول لخلق مناطق احتقان ومواجهات، تلهي الدول والشعوب المعنية عن تكريس جهودها لتحقيق التطور والنمو والازدهار في المجالات العلمية والتقنية والاجتماعية التي تعود بالنفع على شعوبها.
لذلك من الصعب النظر إلى الخلاف حول سد النهضة في أثيوبيا من زاوية ضيقة تحصره في مجرد نزاع ثلاثي بين إثيوبيا من جهة وجمهورية مصر العربية وجمهورية السودان من جهة ثانية، لأن النظر إليه من هذه الزاوية سيحشره في دائرة ضيقة لا تتجاوز خلافاً ثلاثياً بين دول تسعى كل واحدة منها إلى تحقيق مصالح قطرية محدودة، بل إن الأمر يتعلق فى حقيقته بقضية تهم الملك العالمى المشترك للماء، ويهدد بنية عالمية قوية تهم موردًا رئيسيًا من موارد الحياة.
من حق أى قطر في العالم تعزيز بنيته التحتية فى مختلف المجالات والقطاعات، لكن فى قضية الماء تحديدًا، يجب أن يرتبط هذا الحق بضمان حقوق الآخرين، لأن عامل الصدفة الجغرافية الذى وضع منبع الماء فى نقطة مائية ما فى العالم، لا يمكنه أن يعطى الشرعية فى التحكم القطرى فى المسار الجهوى أو العالمى لمجرى المياه، لأن هذا التحكم سيضر بالحقوق الطبيعية للأمم والشعوب فى الماء، وبالتالى بالحق فى الصحة والغذاء والحياة.
لذلك فقضية سد النهضة لا تعنى شعبى مصر والسودان لوحدهما، بل تهم شعوب العالم بأسرها، لأن هناك من يعمل بعنف على التحكم فى مجرى نهر من أهم أنهار العالم، وهى بذلك من القضايا الرئيسية التى يجب أن تشغل اهتمام المنظمات الدولية وشعوب العالم كافة.
إننا بصدد محاولة التسبب فى اختناق خطير فى سريان الماء فى شرايين جغرافية العالم، ولسنا بصدد محاولة إضعاف دولة أو دولتين فقط، وقتل شعبين لا ذنب لهما فيما تسببت فيه هذه الجغرافية، ولكننا أمام تحدٍ خطير يهدد البشرية جمعاء.
لذلك من غير المقبول أن يترك شعبان لوحدهما فى مواجهة هذا الخطر العالمى، الذى سيتيح، إن تحقق، لدول أخرى، وجهات متعددة، التصرف إزاء قضية الماء بوازع الانتماء القطرى، كمن يتحكم فى صنبور ماء يغلقه ويفتحه حسب تقديراته الشخصية المعتمدة على الحسابات الضيقة. ومن المنطقى القول بأن قضية سد النهضة هى قضية شعوب العالم برمتها، ومن مسؤولية الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولى، معالجة هذه القضية بما يحفظ حقوق جميع الأطراف فى إطار من العدل والمساواة والإنصاف. وهى مسئولية جامعة الدول العربية، ومنظمة التعاون الإسلامى لمناصرة قطرين عربيين إسلاميين يتعرضان لمحاولة جادة لإلحاق الأذى بشعبيهما، ومن غير المقبول ولا المعقول الاقتصار على دور المتفرج، أو إطلاق العنان للتصريحات والبلاغات التى لم تعد تجدى نفعًا.
إننا بصدد القول بأن قضية سد النهضة ليست قضية مصرية ولا سودانية، ولا حتى قضية إقليمية يجب أن تعالج فى إطار ثنائي ولا إقليمي ولا حتى جهوى. إنها قضية عالمية بامتياز تهم كل شعوب العالم، وقد تكون حالة من حالات النزاع الدولي الذي يجب أن يعالج في إطار دولي بكل صرامة طبقا للقوانين الدولية التي تحفظ وصول الماء إلى كل فرد أو جماعة بالكمية التي تضمن لهم العيش الكريم وتضمن التمتع بجميع الحقوق المرتبطة به.
إن قضية تدبير الموارد المائية في العالم لا تحتمل حسابات التفوق الذاتي، ومحاولة إضعاف الآخر، ولا النيابة عن قوى الشر في الإضرار بحقوق الشعوب المجاورة، بل إنها القضية المركزية والمحورية التي تمثل الحاضن الرئيسي لتجسيد وتصريف قيم التعاون والتكامل والتآزر بين شعوب العالم برمتها، لعل قضية سد النهضة تمثل نموذجا من نماذج تجلي وإظهار هذا البعد الإنساني لقضية إنسانية صرفة .
< نقيب الصحافيين المغاربة