بالشمع الأحمر

فكر بلا ضفاف

إيهاب الحضرى
إيهاب الحضرى

عندما يحظى المبدع بجماهيرية، تُصبح الكتابة عنه أمرا بالغ الصعوبة، لأن العثور على أى جديد يظل تحديا أساسيا، فى ظل آلاف من الصفحات استنزفت غالبية ما يخصه. هنا تظهر أهمية رؤية الباحث، التى تصبح مصدرا أساسيا للتفرد، وهذا تحديدا ما اجتذبنى فى كتاب «إحسان عبد القدوس.. عشق بلا ضفاف»، للكاتبة الكبيرة آمال عثمان، فرغم العنوان الرومانسى يظل المحتوى أكثر اتساعا، بما يعرضه من جوانب مُتشعبة فى مسيرة الأديب الكبير.
خلال قراءتى للكتاب الذى أصدرته دار المعارف قبل أيام، اكتشفتُ من جديد أن التاريخ يعيد نفسه، حيث استعرضت المؤلفة فى أحد فصوله تجربة رائدة، أطلقها الأديب الكبير فى خمسينيات القرن الماضى، عندما فتح صفحات «روز اليوسف» لعلماء دين ومتخصصين، كى ينشروا رؤاهم من منظور إصلاحى، ويناقشوا أمور الدين بموضوعية وعقلانية، ويفسروا النصوص بأسلوب أكثر ملاءمة لحاجات العصر وضروراته، بعد تنقيتها من تدخلات البشر التى أساءت أحيانا إلى جوهر الإسلام، وكالعادة واجهت دعوته انتقادات حادة، وتدخلات رقابية اضطرته لوقف المبادرة. الغريب أن تبريره للتجربة جاء فى سياق آخر تماما، حيث يتضمن الكتاب نص رسالة وجهها الكاتب الكبير للرئيس عبد الناصر، دفاعا عن مجموعته القصصية «البنات والصيف»، وبعد أن برّأ فيها نفسه من تهمة الجرأة التى تستهدف زيادة التوزيع، تطرق إلى دعوته السابقة فى «روزاليوسف»، التى اعتبرها البعض ترويجا للإلحاد، فأكد أنه مؤمن ويصلى، ثم كتب: «أعتقد أن ديننا قد طغت عليه كثير من الخزعبلات والأتربة، والتفسيرات التى يقصد بها بعض رجال الدين إبقاء الناس فى ظلام عقلى حتى يسهل عليهم - أى على رجال الدين - استغلال الناس والسيطرة عليهم، فى حين أنه لو تطهر الدين من هذه الخزعبلات، ونفضنا عنه هذه الأتربة، لصح ديننا، وصحّت عقولنا ونفوسنا». وأشار إلى أنه كان يعتقد أن فتح هذا الباب يرفع مستوى الإيمان، ويلعب دورا مهما فى إثراء الفكر الدينى.
ظهر هذا الإثراء بوضوح فى موضع آخر بالكتاب، عبر حوار دار بينه وبين الشيخ محمد الغزالي، ونشره الأخير بعد رحيل الكاتب الكبير، حول فكرة العقاب الإلهى لمرتكبى الذنوب، واستبعد فيه إحسان فكرة خلود المُذنب فى جهنم، انطلاقا من ان رحمة الله واسعة. لم يتعصّب الشيخ ويتهم الكاتب بالكُفر، بل علّق بهدوء قائلا إن الخلود فى جهنم قد يعنى الزمان الطويل، تماما مثل الأشغال الشاقة المؤبدة التى تشير إلى عقوبة محددة المُدّة، وأضاف أن بعض المُذنبين سوف يبقون فى النار لفترة يتهذبون فيها ثم يخرجون، ولا يبقى إلا الملحدون، واستعرض الشيخ الغزالى رؤية - لا يعرفها غالبيتنا - وهى أن بعض كبار العلماء مثل ابن القيم ومحمود شلتوت يرون أن جهنم ستفنى يوما بمن فيها، وأن نيرانها ستخمد فى النهاية.
حوار هادئ يخلو من التشنج المُعتاد، انتهى برؤية مغايرة طرحها الشيخ الغزالى، تُعتبر مثالا للتفكير المنطقى الخارج على المألوف، ويُعد اختيارا ذكيا من مؤلفة نجحت فى إضاءة الكثير من تفاصيل الأديب الكبير، بفضل ما بذلته من جهد لمحاولة اقتناص كل جوانب عبقريته المتنوعة، فعبر تسعة فصول تناولت آمال عثمان حياة إحسان الشخصية ومعاركه السياسية والأدبية والصحفية، وريادته فى الأدب السينمائى، ودفاعه عن الحرية بكل صورها، بما يُثبت فى النهاية أن العديدين اختزلوا شخصيته المتفردة فى كتاباته الأدبية الجريئة، التى جعلتهم يعتبرونه مجرد «أديب فِراش»، لتتراجع فى المقابل حقائق أخرى لا يعرف الكثيرون عنها شيئا، ولعل أفكاره حول تجديد الخطاب الدينى تؤكد أن فكره كان بلا ضفاف، مما جعله يسبق عصره.. وعصرنا!