يوميات الاخبار

البهجة المفقودة !

إيهاب الحضرى
إيهاب الحضرى

لا أقصد أى ربْط بين بنات حواء ومواصفات الجحيم، لأن الأنثى كائنٌ نورانى حتى لو كان عشقها مصدرًا لإشعال الحرائق. اعترافى واضحٌ وصريح أغلق من خلاله بوابات التأويل ومحاولات بثّ الفتنة، كى لا أفتح على نفسى أبواب جهنم! 

الإثنين :

المسافة تمنحنى عادة وقتا مُستقطعا للتأمل، مع استرجاع قدرٍ لا بأس به من الذكريات، لكنّها اليوم لا تستوعب سوى مُكالمتين هاتفيتين عابرتين. الشوارع شبْه مهجورة، مما يختزل زمن الوصول من البيت إلى الجريدة فى دقائق معدودات. إنها إحدى مُعجزات العيد، عندما يرتبط بإجازة طويلة، وربيعٍ يلفظ أنفاسه أمام «فتْونة» صيفٍ يتمدّد، ويسلب بقية الفصول نصيبها من أيام السنة. أحبّ العمل فى هذه المناسبة الدينية، بعد أن تراجع إحساسى ببهجتها مع التقدّم فى العمر، وانقراض طقوسٍ قديمة لم يبْق منها سوى الحرص على صلاة العيد. 
الفراغ سيّد الموقف هذا العام. زوجتى تؤدى فريضة الحج، وابنى فضّل اللجوء إلى الساحل مع جده وجدّته، وأمى تمارس طقس الذبح فى بلدتنا. أدخل مكتبى ويبدأ الزملاء فى التوافد، نقوم بتنظيم إيقاع اليوم قبل أن أظلّ وحيدا لبعض الوقت. إنها فُرصةٌ معتادة لممارسة هواية الشرود واجترار الحنين، غيْر أننى أدفع ذكريات الطفولة جانبا، فقدْ انتابنى الملل من الذكريات التى ترتبط عادة بانتقاد تحوّلات الزمن. مؤخرا بدأتُ أقتنع بأن متاهة الماضى تفرض علىّ هبوطا اضطراريا فى مركزها . 

أتابع الصور والأخبار ، وأتأكد أن التحوّلات السلبية شأنٌ داخلى، وأن الرغبة فى الاحتفال خيارٌ شخصى، بدليل إقبال الملايين على الاحتفال فى الحدائق والشواطئ، بينما أكتفى أنا غالبا بالبكاء على أطلال الماضى، باعتباره مقبرة للبهجة المفقودة!

مستودعات الأسرار

الثلاثاء:

..ولأننى مُغرمٌ بالغموض، كان طبيعيا أن يجتذبنى الفضاء منذ صباى، ثم تخطفنى «ندّاهة» التاريخ فى شبابى. عالمان ساحران تجمعهما القدرة على توليد الخيالات، فكلٌ منهما مستودعٌ ضخمٌ للأسرار.

قبل أن نعيش فى مدنٍ أطفأتْ أنوارُها أضواء النجوم، تابع مليارات البشر فى أزمنة متعاقبة تلك السماء المُعتمة ليلا، التى تنتشر فيها نجوم ساهمتْ فى خلْق الأساطير. استخدمها القدماء فى تحديد المسارات، واكتفى من جاءوا بعد اختراع الخرائط بدفْقة خيال تتنامى فى عقولهم. كثيرون من أبناء جيلى انطلقوا بأنظارهم إلى الأعلى، وتخيل كل منّا نفسه فى رحلة فضائية، تمنحه فرصة العيْش فى «كوكب تانى»، لأسبابٍ عبّر عنها الفنان مدحت صالح فى أغنيته الشهيرة، لكنّ رفْض الزمان والأوان والمكان ليس المُبرّر الوحيد، فالرحلة فى أعماق الكوْن ولو عبْر أحلام اليقظة، تمنح صاحبها بطولة لا يستطيع تحقيقها على الأرض، أو تُتيح له فرصة الهرب من قصة حب منزوعة الأمل. إنه امتداد جديد لعلاقة الكواكب والنجوم بالعواطف. 

الجحيم امرأة.. وكوكب!

فى الماضى اخترعت الحضارات المختلفة ربّاتٍ للجمال والمشاعر الجياشة، مثل عشتار فى بلاد الرافدين وفينوس الرومانية. ارتبطتْ كلتاهما بكوكب الزُهرة، الذى انتخبتْه البشرية منذ طفولتها رمزا للتعبير عن الأنوثة الطاغية، باعتباره الكوكب الأكثر قُربا بصفاته من الجنة، ثم أثبتت الاكتشافات الحديثة أنه كُتلة من الجحيم، بحرارته الخانقة وأمطاره التى لا تتكوّن من الماء، فقطراتُها عبارة عن حمض الكبريتيك المُركّز! 

هنا لا بد أن أعلن بوضوح أننى أذكر حقائق علمية، ولا أقصد أى ربْط بين بنات حواء ومواصفات الجحيم، لأن الأنثى كائنٌ نورانى حتى لو كان عشقها مصدرًا لإشعال الحرائق. اعترافى واضحٌ وصريح أغلق من خلاله بوابات التأويل ومحاولات بثّ الفتنة، كى لا أفتح على نفسى أبواب جهنم! وأعترف أننى لا أزال أحتفظ بعشقى لكل «فينوس»، وأدعو الله أن يحمينى من سعير كوكبها المُلبّد بالحمم.. وأن أحتفظ بهدوئى الذى يسبق كل عاطفة!

الرجال يحتكرون التأريخ

الأربعاء:

تتراكم الكُتب حتى يئن المكتب الخشبى، ويصرخ من الحمل الثقيل. أتجاهل صرخاته لكنّ قلوبا أخرى تُشفق عليه. تحت ضغط الإلحاح المتكرّر أستسلم لنداءات أصحابها، وأوافق على تخفيف الأحمال بنقْل الكثير من المُجلدات إلى المكتبة. مشكلتها أنها تتحول بدورها إلى مخزنٍ مُكتظ، يمنع محاولات الوصول إلى كتابٍ قد أكون فى حاجةٍ مُلحّةٍ له، لهذا أسارع بجعْل موافقتى مشروطة. هناك كُتُبٌ ممنوعة من النقل، حتى أطمئن لبقائها فى محيط نظراتى. غالبيتها ترتبط بالتاريخ وحكاياته، فنحن أمةٌ مولعة بالحواديت. أتأمل ابن إياس والمقريزى والجبرتى، وأشرد محاولا حلّ لُغز ارتباطى بهم رغم انتقاداتى لبعض ما دوّنوه من أحداث. تحفيز الخيال هو العامل المشترك بين التاريخ والسرْد، وفى أزمنة لم تعرف التكنولوجيا، ظلّت الحواديت ورقة رابحة فى السيطرة على جموح الأطفال، ارتبطتْ بالجدات غير أن أبى رحمه الله هو من كان يراودنى بها عن النوم، وفى محيط أصدقائى نادرا ما سمعتُ عن أمٍ أتقنتْ حكايات قبل النوم، ورغم ذلك استمرّ ربطها بالمرأة، التى تتُقن تصنيع الحواديت أو إعادة تدويرها، ولهذا كانت الحدوتة الواحدة تحمل كلّ مرة تفاصيل جديدة. 

شهرزاد صناعة ذكورية!

لن أناقش كثيرا سبب أسطورة ارتباط الجدات بالحواديت، بل سأتعامل معها باعتبارها من المُسلّمات على سطح الكوكب، رغم أن شهرزاد وحكايات ألف ليلة وليلة، تظل من وجهة نظرى مُنتجا إبداعيا لرجالٍ مجهولين، أعرف أن ما أثيره قد يُنهى فترة هدوء نسبى أعيشها بعاصفة نسوية تتهمنى بالتمييز. سوف أتجاهل كلّ ذلك، لأطرح سؤالا خطر ببالى: إذا كانت المرأة حكاءة بطبعها..

فلماذا لم تخرج من بين النساء مؤرّخة، واحتكر الرجال هذه المهنة؟ استفسارٌ شغلنى وأنا أنظر لمجلدات المؤرخين على سطح مكتبى، وقرّرتُ أن أطرحه عليكم منذ البداية، لكنّ شهوة الثرثرة «جرجرتْنى» كالعادة إلى مسارات جانبية.

قد يرى البعض أن الإجابة بسيطة، فالرجال كانوا الأقرب للسُلطة على مرّ العصور مما جعلهم يعرفون ما يجرى فى دهاليز القصور ويُوثّقون أحداثها. تبريرٌ يعتمد على استنتاج يفتقد الدقة فى أحوال كثيرة، فمؤرخون عديدون اعتمدوا فى جانب كبير من كتاباتهم على ما تداوله عامة الناس، نتيجة بُعدهم عن الحُكام، أى أنهم انطلقوا مما سمعتْه آذانهم، دون أن ترى أعينهم أحداثا كتبوا عنها.

بعد تفكيرٍ وصلتُ إلى نتيجة مُرضية نوعا ما، ففى عصورٍ سيطر عليها الجهل، اقتنص قليلٌ من الرجال كل فرص التعليم تقريبا، وامتلكوا قدرة على القراءة والكتابة لم يحصل عليها الكثير من أقرانهم، فضلا عن الغالبية العظمى من النساء. حصيلة ما رصده المؤرخون وصلت إلينا عن طريق التدوين، مما دفع المرأة بعيدا هذا المجال نهائيا، لأن حكْيها بقىَ شفاهيا، واكتفتْ باستعمال لسانها فى نقْل ما يُعلنه المنادون فى الشوارع من قرارات أو أخبار، وبطبيعة الحال لم يكُن ممكنا توثيق التاريخ الشعبى الذى تتداوله النساء، قبل قرون من اختراع أجهزة التسجيل.

أطلب فنجان قهوة لأحتفل بمهارتى فى حلّ اللُغز، وأنظر للمقريزى وابن إياس والجبرتى فخورا بقدراتى الذكورية على التفكير الثاقب، لكنّ عبارة كتبتُها تستوقفنى: نتيجة مُرضية نوعا ما؟ بالتأكيد. فهناك ردٌ يضرب منطقيتها الخادعة، لا مجال لذكره حاليا. 

أتساءل من جديد: ولماذا لم تبرز مؤرّخات فى العصر الحديث، بعد أن امتلكت غالبية بنات حواء مهارات الكتابة؟ أشعر بالملل من تداعى الأفكار والاستفسارات، وأحكم بالنفْى على مجلدات المؤرخين، أنقلها بيديّ من المكتب إلى المكتبة، وأشغل نفسى بتصفّح «فيس بوك».

منشوراته السطحية يُمكن أن ترحم عقلى من عناء التفكير. أشعر بالضيق من اكتفاء الكثيرين بإعادة بثّ منشوراتٍ مُعلّبة، وكأنها مُنتجٌ أصيل من بنات أفكارهم، فأنصرف عن المنصة الشهيرة إلى «واتس آب»، وأكتب رسالة تهنئة جماعية بالعيد. بضغطة زرٍ أرسلها لأكبر عدد من جيرانى فى التطبيق الإلكترونى، وبعد فترة صمتٍ يسترد هاتفى المحمول أنفاسه، برنّات تُعلن عن وصول ردودٍ أكتشف أن معظمها مُعبأة فى صورٍ سابقة التجهيز !