يوميات الاخبار

سباحة ضد التيار.. قد تهدى لبر الأمان!

 علاء عبدالوهاب
علاء عبدالوهاب

هذه المرة أسبح ضد التيار بذراع، وأحمل فى الذراع الأخرى شمعة تساعد فى استبيان بر الأمان وبلوغه، ولنتذكر أن إضاءة شمعة خير من لعن الظلام ولو ألف مرة

ثلاثة عقود مضت على خوض تلك المغامرة.
أن تسبح ضد التيار ـ حينها كان عاتيًا ـ وأنت تعلم يقينًا أن ثمة مخاطر تحاصرك، لكنك على أى حال تصر على المضى قدمًا.


لحظة فاصلة فى حياة الإقليم الذى أنتمى إليه، نظام ينهار، ونظام يُفرض، والهدف نفى العروبة لمصلحة المشروع الصهيونى المعزز غربيًا، وبالتحديد أمريكيًا، تحت عنوان الشرق الأوسط الجديد، أو الواسع، أو الكبير، المهم ألا يتأتى ذكر للأمة العربية فى أى سياق!
أعاصر ـ إذاً ـ فصلًا جديدًا من الزمن الردىء الذى يعتبره البعض قدرًا، وأثمنه لحظة مخاض إذا تمسكنا بتلابيبها فإن القوة يمكن أن تنبع من الضعف، ولا يتأتى ذلك إلا برفض الاستكانة، والسعى لتجاوز حال التردى، والتمسك بخط الدفاع الأخير، ومحاولة بناء بديل قابل للتحقق، ثم لماذا لا نبدأ مشوار الألف ميل ولو بخطوة؟
الخطوة هنا لمن هم فى مثل موقعى، لا يملك سوى وعيه وفكره، ومن ثم فيض من آمال وطموحات وأحلام، إلا أن يشرع بقلمه فى تشريح الواقع، ، بل فضحه إن استلزم الأمر، ثم التقدم خطوة بالدعوة لتكثيف المساعى الرامية لتجاوز هذا الواقع.
وكان أن قررت الشروع فى تأليف كتاب «الشرق الأوسط الجديد.. سيناريو الهيمنة الإسرائيلية»، كان ذلك فى العام ١٩٩٤.
الراهن يستدعى الماضى
تداعت الذكرى مع توالى مشاهد المذابح الوحشية والمجازر الهمجية على مدى شهور فى غزة، لتؤكد أن ما ذهبت إليه فى كتابى ـ قبل ثلاثين عامًا ـ رغم فظاعته، فإن المشهد الراهن يؤكده، الكيان الصهيونى كان واضحًا فى إعلان أهدافه، ثم العمل على فرضها بكل الأساليب والأسلحة.


وإذا كان الكتاب عندما خرج من المطبعة، وحبره طريًا، إنما كان نوعًا من السباحة ضد تيار عاتٍ آنذاك، فإن هذا النوع من المغامرة ـ فى اعتقادى ـ فقط ما قد يهدى، أو يقود إلى بر الأمان.
بعد كل هذه الأعوام، كان قرارى بخوض مغامرة أخرى مع ذاتى، أن أطالع الكتاب بعين القارئ، منفصلًا عن كونى مؤلفه، وفوق كتفى كل هذا العمر، وأمام ناظرى مشاهد تترى على مر أيامه، وتتمثل مخضبة بالدماء الطاهرة خلال الشهور الأخيرة.
باختصار، رأيت أن الكتاب كان محاولة مبكرة لدق أجراس التنبيه المحذرة، وإضاءة اللمبات الحمراء المنذرة، فاللحظة التى رصدتها لم تكن مفصولة عن سياقاتها التاريخية، ثم إنها تمثل مقدمات للآتى فى المستقبل قريبه وبعيده.


السؤال الصعب
إذا لم تكن تملك سوى رؤيتك التى تبلورها عبر قلمك فى سطور يحتضنها مقال،أو كتاب، فهل تكون صادقًا بزعمك مثقفًا، قد أدى واجبه، وأرضى ضميره الوطنى والقومى، بل والإنسانى؟
بقدر صعوبة السؤال، فإن الإجابة كانت اصعب!
فى منتصف تسعينات القرن المنصرم، كان ثمة تسونامى للتطبيع، يضرب الشواطئ العربية من المحيط إلى الخليج، مهد له وصاحبه جهد دءوب لغسل عقول العرب، باختراق النخب، وتدجين الجماهير، أو هكذا تصور من صنعوا التسونامى.
وفى كتابى أفردت فصلًا لفضح الخطوات التى تمهد لتكوين عقلية جديدة مغايرة، تقبل بالكيان الصهيونى كجزء من الإقليم، وغض الطرف عن كونه استيطانيًا اقتلاعيًا، عدوانًيا بامتيار، يصر على فرض معادلة صفرية.
مرة أخرى، بعد كل هذه السنوات، وتحت حراب الصهاينة، التى تفرض حرب إبادة أعود لأسأل نفسى: هل قمت بدورى على الوجه الأكمل؟
فى نهر الوعى
بعبارة أدق أعترف: أن دور المثقف الواعى، لابد أن يتجاوز السباحة ضد التيار، إلى العمد فى تجميع إسهامات وطاقات المثقفين كروافد فى نهر الوعى، لتندفع فى موجات قوية، تلعب دورًا مؤثرًا ملموسًا فى تعبئة القوة الشاملة للأمة، دفاعًا عن وجودها وشرفها ومستقبلها. من ثم لا يكفى أن يقول المثقف لنفسه: لقد قلت كلمتى وهذا يكفى، أو أن يرفع شعار: قل كلمتك وامض.
فالكلمة لاسيما إذا كانت من النوع الذى ينتمى إلى مفهوم السباحة ضد التيار، لا تهدى أو تقود لبر الأمان، إلا إذا استمر صاحبها، وصحبه، فى السباحة دون هوادة، ربما يتطلب الأمر استراحة محارب، لكن الانسحاب أو الانسلاخ تعبًا أو يأسًا، يقود ليس فقط إلى انتكاسة وإنما من شأنه الخصم من الرصيد الوطنى والقومى، وبالمقابل دعم خطط عدو يعرف تمامًا: ماذا يريد؟ وكيف يحقق ما يريد؟
ولكن بعد كل هذا المشوار فى بحار الحياة، ودروبها، أظن أنه من السذاجة أن يتصور المثقف أن وعيه، ورؤيته فقط بوسعهما تحصين أمته، أو كبح جماح من يقف فى مواجهتها، فدور المثقف ينتمى إلى ما نطلق عليه القوة الناعمة، بينما مواجهته التهديد الوجودى المفروض علينا، يتطلب مزيجًا من كل أنواع القوة: الناعمة والخشنة أو الصلبة، بالإضافة إلى القوة الذكية.


نعم المشروطة
قبل ثلاثين عامًا، رغم إرهاصات الكثير مما اكتوينا بناره، على مدى عقود تلت، وكان ذروته فى الشهور الأخيرة، ورغم التشكيك والتحجيم بل والإلغاء فإننى ثمنت سلاح المقاطعة خطًا أخيرًا للدفاع العربى، واليوم يتكشف صواب ما ذهبت إليه، وأحسبه حقًا وواجبًا، وحين لجأنا لتفعيله كان موجعًا.


وحين طرحت سؤالًا عن: هل مازالت الفرصة سانحة للبديل القومى؟ كانت إجابتى نعم، ولكن بشروط، ومازلت أتمسك بتلك الـ«نعم» المشروطة.
وعندما تساءلت فى الخاتمة: هل مازالت الفرصة سانحة، أمام بديل عربى؟
كانت الإجابة ـ أيضًا ـ نعم، بعد وقفة مع الذات لإلقاء نظرة نقدية على الوضع العربى، أظن العديد من جوانبها مازال ساريًا، ثم أحسبنا الآن مطالبين بممارسة وقفة جديدة مع الذات فى ضوء المستجدات المصيرية التى حاقت بالجميع دون استثناء، بعد أن جرت مياه كثيرة ممزوجة بالدماء فى الأنهار وتحت الجسور!
النظرة المطلوبة لا تمثل نوعًا من الترف الفكرى، لكنها حتمية من زاوية الدفاع عن الوجود والمستقبل.
الشموع قبل لعن الظلام
ما يحدث اليوم وغدًا، لا ولن يجدى معه ـ فقط ـ أن يشرع المرء فى تأليف كتاب جديد عن «العالم بعد غزة» على أهمية مثل تلك المبادرة، إلا أن الأهم أن ينخرط كل المثقفين العرب، فى التأكيد على أهمية تفعيل بديل عربى، حتى تتجاوز أحوال ترديها، وتمتلك الحد المناسب من القدرة على مواجهة التهديدات والتحديات المحدقة بها فى اللحظة الراهنة، والمستقبل المنظور.


إنها لحظة يتبنى فيها الغرب ـ الرسمى على الأقل ـ أفكار عتاة المتطرفين الصهاينة، وفى القلب منها خريطة جديدة للمنطقة، لكن ما يحدث الآن هدفه إعادة صياغة المنطقة جذريًا، وهنا مكمن الخطر الأكبر، ومن ثم أهمية استدعاء دور المثقف والمفكر، إلى جانب السياسى والجندى كتفًا بكتف.


لنتذكر فقط رفع نتنياهو لخريطة إسرائيل من النهر إلى البحر فى الأمم المتحدة، نافيًا لفلسطين وحقوق أهلها، ولن يتوقف وعصابته إلا جبرًا.
أخيرا، أقولها مدوية، فى اللحظة التى يمتزج فيها الخطر مع الإحباط، تكون الأمة بحاجة لكل جهد مخلص واعٍ، وأى محاولة لرسم آفاق مستقبلها وصياغة مشروع قومى حضارى، تستوجب بناء وعى يتطابق مع مقتضى الحال، ثم تجاوزه إلى غد أرحب.
هذه المرة أسبح ضد التيار بذراع، وأحمل فى الذراع الأخرى شمعة تساعد فى استبيان بر الأمان، وبلوغه، ولنتذكر أن إضاءة شمعة خير من لعن الظلام ولو ألف مرة!