محمد جادالله يكتب: العقل الأفلاطوني ومنهجه المعرفي (3 – 6)

محمد جادالله
محمد جادالله

انتهينا في مقالنا السابق عند تساؤل، كيف عرفنا هذه المُثل؟ يجيب أفلاطون على هذا التساؤل في محاورة "مينون"، فيقول إن شيئاً من التأمل يدلنا على أننا نستكشفها في النفس بالتفكير. لأن النفس كما قال أفلاطون في محاورة "فايدروس"، كانت قبل اتصالها بالبدن في صحبة الآلهة ثم ارتكبت أثماً فهبطت إلى البدن فهي إذا أدركت المُثل بالحواس تذكرتها. والسؤال الآن، هل يمكننا رد نظرية المثل إلى مصادر محددة؟
    عزيزي القارئ من خلال مطالعتنا لنظرية المثل الأفلاطونية نُلاحظ انها ذات مصادر عديدة، يمكننا أن نُجمل هذه المصادر في أربعة، وهم على النحو الآتي:
أول هذه المصادر هي الآراء الفيثاغورية، حيث إن الفيثاغوريين قد انصرفوا عن البحث في "المادة" التي تتكون منها الأشياء وعنوا بتحديد النسبة الهندسية الواضحة في العقل، وانتهوا في ذلك إلى اعتبار أن العدد أو الشكل الهندسي هو حقيقة الشيء. 
أما المصدر الثاني فهو هيراقليطس الذي كان أول من نبه إلى أن العالم المحسوس إنما يتميز بالتغير والسيلان الدائم. والمصدر الثالث الذي أستند إليه أفلاطون في نظريته عن المُثل؛ كان بارمنيدس أول من ميز بين طريق الحق، وطريق الظن Doxa، وكان أول من كشف عن أنه لا توجد أي حقيقة في هذا العالم المادي المحسوس، وهنا أدرك أفلاطون أن ذلك الوجود الحق هو الوجود المعقول وانه لا يمكن أن يكون محسوسًا أو متغيراً. 
اما المصدر الرابع فهو المصدر السقراطي، الذي قال إن نظرية المُثل ليست نظرية أفلاطونية، بل انها نظرية سقراطية، ثم جاءت آراء تدلل على هذا الرأي وتبرهن على أن نظرية المثل نظرية سقراطية وليست أفلاطونية. ولكن رد نظرية المثل إلى سقراط فيه مبالغة شديدة. حتى جاء أرسطو وأعلن أن نظرية المثل اختراع أفلاطوني وليس سقراطي. هذا عن مصادر نظرية المثل، ولكي تكتمل نظرتنا اتجاه نظرية المثل، لابد لنا أيها القارئ الكريم من الحديث عن خصائص هذه النظرية. 
عزيزي القارئ يمكننا أن نُلخص خصائص نظرية المثل، في تسعة نقاط على النحو الآتي:
1- أن "المثال" هو الجوهر الثابت للشيء، وهو الوجود الكلي، فهو مصدر حقيقة الشيء.
2- إن "المُثل" كلية؛ فالمثال ليس أي شيء جزئي.
3- إن "المُثل" أفكار، ولكنها الأفكار التي تمثل حقيقة الأشياء. 
4- إن كل "مثال" وحدة قائمة بذاتها.
5- إن "المُثل" ثابته وغير فانية، فجوهر أي شيء يظل ثابتاً.
6- "المُثل" ماهيات الأشياء جميعاً.
7- كل "مثال" هو في نوعه كمال مطلق، وكماله هو عين حقيقته.
8- إن "المُثل" مفارقة أي توجد خارج المكان والزمان.
9- إن "المُثل" عقلانية أي أنه يتم معرفتها عن طريق العقل.
علاوة على ذلك فإن نظرية أفلاطون في المُثل تقوم على وجود عالم ثابت، هو العالم المعقول. فوق العالم المتغير وهو العالم الحسي، هذه الصورة الموجودة في العالم المعقول تتصف بالثبات والضرورة والكلية، تماماً كالأحكام العقلية عند الفلاسفة العقليين الذين جاءوا بعده.
وما تؤدي إليه نظرية المُثل وتريد الوصول إليه، هو أننا بحواسنا وقيود بدننا وحدد واقعنا المادي، نعيش في عالم من المظاهر بعيد كل البعد عن الحقائق المطلقة، حيث عالم المثال أو الصور – هذا العالم المشرق الذي يشبه في وضوحه ضوء الشمس. إلا أن أفلاطون لم يكتف بهذا القدر من الإيضاح لنظرية المثل، بل أخذنا إلى تفصيل أعمق ليُدخلنا إلى نظريته في "التذكر". والسؤال الآن، ماذا تعني نظرية التذكر الأفلاطونية؟ إجابتنا عن هذا التساؤل ستكون موضوع مقالنا القادم.