«خريف ألماني» ..داغرمان يكتب عن الأدب والمعاناة

ستيغ داغرمان
ستيغ داغرمان

يعتبر ستيغ داغرمان من كتاب الأربعينيات السويديين، الذين تركوا بصمة واضحة فى تاريخ الأدب السويدى، الإسكندنافى والعالمى. كان روائيا، شاعرا، مؤلفا مسرحيا، وصحفيا «من الطراز الرفيع» (فيليب بوكى). بالموازاة مع ذلك، كان مناضلا، يدافع عن حقوق العمال والمستضعفين فى السويد، وفى كل مكان.

لأجل ذلك، انضم إلى «المنظمة المركزية للعمال السويديين»- فى سن الثامنة عشر (1941)، وبدأ مسيرته المهنية كصحفى بجريدة المنظمة: «العامل» فى نفس السنة، بصفته مسؤولا عن القسم الثقافى. 

عاش «داغرمان» حياة صعبة، فى زمن الحروب والأزمات السياسية، الاجتماعية والاقتصادية التى شهدتها أوروبا فى القرن العشرين (الحرب العالمية الأولى، الثانية والحرب الباردة...). برغم أن السويد كان بلدا محايدا، إلا أنه كان «متأخرا على جميع المستويات، بما فى ذلك المستوى الثقافى؛ امتد ذلك إلى حدود 1914» (فيليب بوكى).

بعد ولادته بأيام فقط، تخلت عنه أمه هيلجا أندرسون. بينما هاجر والده إلى ستوكهولم، بحثا عن عمل. وتركاه فى يد جديه من والده. حيث عاش فى كنفهما فى ريف ألفكارليبى، إلى أن بلغ سن الحادية عشر. حيث سينتقل سنة 1932، رفقة والده، المتزوج حديثا، إلى ستوكهولم، لإتمام دراسته. وليتخذ من مطبخ زوجة أبيه مرقدا له.

تزوج داغرمان وهو لم يبلغ العشرين بعد، آن مارى كوتز، سنة 1943، ابنة لاجئين أناركو-سانديكاليين ألمان، حتى تستفيد من الجنسية السويدية. أنجبا طفلين: راينر وريلكه. شاء القدر أن ينفصلا بعد سبع سنوات، بمبادرة من آن مارى. ليلتقى بأنيطا بيورك سنة 1950، فنانة سينمائية ومسرحية سويدية، أنجبا طفلة وحيدة هى لو داغرمان، التى تقيم بالولايات المتحدة الأمريكية حاليا، وتعمل على التعريف بأعمال والدها، كتابة وترجمة.

داغرمان قاص من نوع قل نظيره. لم يكن مترجمه الفرنسى التاريخى، فيليب بوكى، الذى عرف القارئ الفرنسى عن «رامبو الشمال» هذا، إلا أن يشبهه بأيقونة الأدب السويدى أوغست ستريندبرغ. يعترف المترجم كيف أن قراءته لقصة لداغرمان، كانت بمثابة حدث ذى وقع كبير على مجرى حياته، خاصة الأدبية، وهى قصة «أن تقتل طفلا». ترجم فيليب بوكى معظم أعمال داغرمان، وكان السبب فى إعادة طبع أعماله ونشرها فى السويد وفى بلدان أخرى وبلغات أخرى كالإنجليزية، الإيطالية، العبرية، الألمانية، الكورية.

ألف داغرمان مجموعة من الأعمال الخالدة؛ أولها رواية «الأفعى»، الصادرة سنة 1945؛ بينما كان يبلغ من العمر اثنتين وعشرين سنة؛ تلتها «جزيرة المدانين» (1946)، «خريف ألمانى» (1947)، «الطفل المحترق» (1948)، ناهيك عن نص «حاجتنا إلى المواساة غير قابلة للإشباع (1952)، الذى يعتبر من أشهر نصوصه وأكثرها ترجمة وتداولا بين قراء العالم. بل ومن آخر ما كتب قبل موته التعسفى المبكر.

يعتبر «خريف ألمانى» شهادة نادرة على مأساة الألمان فى الحرب العالمية الثانية. يتكون الكتاب من سلسلة من الروبورتاجات، أعدها داغرمان بعدة مدن ألمانية سنة 1946، لصالح جريدة «إكسبرين» حيث يحكى ويصف معاناة الألمان واللاجئين جراء الجوع، الفقر، البرد، والخراب، وعن حياة مواطنين وكتَّاب وفنانين ألمان. يتفق معظم النقاد والمترجمين العالميين على القول إن «خريف ألمانى» هو أحد أنجح كتب داغرمان وأكثرها قوة، ليس فقط بالنظر إلى المناخ السياسى الذى تدور فيه كل الأحداث، لكن بالنظر إلى أسلوبه ومهارته فى الكتابة.

يسعدنا إذا أن نقدم للقارئ، أحد فصول هذا الكتاب، وهو «أدب معاناة»، الذى لم ينقل من قبل إلى العربية.

ما المسافة بين الأدب والمعاناة؟ هل مرد ذلك إلى طبيعة المعاناة، حدتها، أو إلى المسافة التى تفصل بينهما؟ هل العمل الأدبى أكثر قربا من المعاناة التى يسببها انعكاس النار، أو المعاناة التى تتولد عن النار نفسها؟ بعض الأمثلة المتقاربة، سواء على مستوى المكان أو الزمن، تظهر أنه توجد علاقات فعلية مباشرة بين الأدب والمعاناة البعيدة، المغلقة، وربما من الممكن القول بأن المعاناة مع الآخرين، هو نوع من الأدب يبحث بحماسة عن كلماته. تتميز المعاناة اللحظية، المفتوحة، عن المعاناة البعيدة بالخصوص، بكونها لا تبحث عن كلماتها، على كل حال، ليس فى اللحظة التى يتم الشعور بها. بالمقارنة مع المعاناة المغلقة، فإن المعاناة المفتوحة خجولة، منغلقة وبخيلة.

عندما أخذت الطائرة فى الارتفاع، فى مساء هذا الشتاء، عبر سحب ألمانية مطيرة وثلج ألمانى، وبينما لا يزال الصقر الألمانى فى المطار منتصبا، قبل أن يختفى فى الظلام من تحتنا، وبينما خنقت أضواء فرانكفورت تحت وطء الظلام، وبينما ترتفع الطائرة السويدية فوق المعاناة الألمانية، بسرعة ثلاث مائة كيلومتر فى الساعة، تفرض فكرة نفسها على المسافر، أكثر من أى فكرة أخرى: ماذا لو كان من الضرورى أن يظل، لو كان من المفروض أن يشعر بالجوع كل يوم، أن ينام فى قبو، أن يقمع، بكل ما أوتى من قوة وفى كل لحظة، محاولة النهب والسرقة، أن يعانى البرد فى كل دقيقة، وأن ينجو بلا توقف من أسوأ التجارب؟ يتذكر هذا المسافر الناس الذين قابلهم، والذى كان من المفروض عليهم فعل كل هاته الأشياء، والخضوع إلى كل هذه الظروف.

تذكر خصوصا بعض الكتاب، الفنانين، ليس لأنهم كانوا يعانون من الجوع أكثر من أى أحد آخر، لكن لأنهم كانوا واعين بإمكانيات المعاناة، لأنهم حاولوا قياس المسافة بينها وبين الفن.

ذات يوم، فى «حوض الرور»، حيث لم يتوقف المطر عن الهطول منذ فترة طويلة، وحيث أن الخبازين لم يوفروا الخبز منذ يومين، صادفت كاتبا ألمانيا شابا. واحد من بين هؤلاء الذين بدأوا مسيرتهم خلال الحرب، لكن، لم يخسروا هاته الأخيرة على المستوى الشخصى، بفضل مقابلاتهم الفكرية الاحتياطية. تمكَّن من اكتراء منزل أنيق، يقع وسط الغابة، تفصله عن بأس «حوض الرور»، الذى يبدو أكثر دمارا وهو تحت الخراب، بضعة كيلومترات من أشجار ذات أوراق محترقة. من الغريب، الخروج من إحدى مناجم هاته المنطقة، فمن هذا المنجم خرج قاصر فاقد للأمل، حيث أن عينيه الداميتين، تبرزان بوضوح على وجهه الأسود، يسحب حذاءه المثقوب ليظهر لى بأنه لا يتوفر على جوارب، وليجد نفسه محاصرا فى هذه المغامرة الخريفية، حيث الجوع والبرد نفسهما أصبحا بمثابة طقس مزيف دارج. إنها تجربة مدهشة، فى ألمانيا هاته، أن تتمكن من أن تدوس بقدميك تربة حديقة لم تخرب بعد، ألمانيا التى تفتقر إلى الكتب، بحيث أن أى كتاب مطبوع نادر جدا، لدرجة أننا نقترب منه بخشوع لأنه ببساطة كتاب؛ إنه شىء استثنائى أيضا أن ندخل غرفة تزخر بالأعمال الخالدة، من «جحيم» دانتى، إلى نصوص ستريندبرغ. 

على هذه الجزيرة الواقعة وسط بحر من الفظاعات، يجلس الكاتب الشاب ذو الابتسامة المتعبة، والهيئة الأرستقراطية. يدخن سجائر، حصل عليها مقابل عدد من الكتب، ويشرب شايا أكثر مرارة من هذا الخريف المجاور. هذا ما نسميه أن تعيش حياة خارجة عن المألوف. العالم الخارجى، المكون من أطفال يموتون جوعا، من منازل رمادية، ذات واجهات ممزقة، ومن إنسانية رمادية هى الأخرى، تعيش فى الأقباء، حيث تتمايل أسرَّة المخيم التى تغرق تحت الماء، عندما يهطل المطر، كما يحدث الآن. هذا العالم ليس مجهولا هنا، لكنه غير مقبول، إنه الآن، على نفس المسافة مع كل ما هو مذموم.

الكاتب نفسه لا يعير أى اهتمام إلى كل ما يقع على بعد كيلومترات من بيته؛ تشكل بالنسبة له زوجته، التى ذهبت إلى التسوق فى المدينة، وأطفاله، الذين ذهبوا المدرسة، الرابط الوحيد، رابط هادئ، مع الحياة والموت؛ هناك. لا يترك منزله المنعزل، وحديقته الغارقة تحت المطر إلا من حين إلى آخر، ليخرج إلى هذا الواقع المكروه، باشمئزاز راهب يترك صحراءه ليتوجه إلى واحة.



لكن، حتى الراهب يجب أن يعيش. إن الكتاب الألمان، التى لا تمثل كتبهم المنشورة إلا استثناءات قليلة، يعيشون أساسا من خلال قراءات عمومية أو محاضرات يلقونها هنا وهناك على حساب تنقلات طويلة، مملة وباردة، يعودون منها مرهقين، مصابين بالزكام، وغير قادرين على الكتابة. ليس هناك ما يكفى لخلق ثروة، أو إشباع نهم الجوع. إذا كانت لدينا كتب، يجب بيعها لشراء الشاى، السكر، أو السجائر.

إذا كانت لدينا آلة كاتبة، أكثر مما يلزمنا، يجب استبدالها بالورق، وإذا الكاتب أراد الأقلام لكى يكتب، يمكنه أن يحصل عليها عن طريق استبدالها بالورق الذى حصل عليها لتوه.

كان صديقى الراهب يقدم محاضرات حول موريكه وبوركهارت، كاتبيه الكلاسيكيين المفضلين. كان يقدم نفس المحاضرات بالجمعية الفرونكو-جرمانية، بفرنسا، إبان الاحتلال، من باريس إلى بوردو.

اعترف لى، وهو غارق فى تفكير طويل، كم أنه يتحسر على هذه الفترة؛ يصرح أننا كنا نسعى بشكل أفضل إلى التواصل آنذاك، وأن مناخ فرنسا المحتلة، ما بين 1940 و1944، كان تربة خصبة للمحاضرات الألمانية، على العكس من مناخ «حوض الرور» سنة 1946. 

من الطبيعى، يقول لى، إننى كنت جد واعياً بالوضعية، لكن، لماذا كان من اللازم أن تمنعنى ضرورة عسكرية من المساهمة فى تقارب الثقافتين الألمانية والفرنسية؟، يبدو هذا الأمر وقحا ما دام أنه لم يتم الترحيب بالفكرة، ومع ذلك، حتى لو كان ذلك ممكنا، ستبدو الوضعية وقحة. فى مكتبته عثرت على نصين موجهين إلى الجنود، لكن بذوق دقيق، قصائد هولدرلين» وموريكه، التى طبعت سنة 1941.

يمكننا إذن أن نتصور أنه تم الهجوم على اليونان من طرف جنود يحملون، فى جيوبهم الداخلية، قصائد لموركه، وأنه بعد أن جاؤوا على قرية روسية أيضا، تابع الجندى الألمانى قراءة قصائد هولدرلين، الشاعر الألمانى الذى قال عن الحب إنه الأكثر قوة فى الآن ذاته من الوقت والموت الفيزيائى معا. 

لكن، من الممكن الرد بشكل كاف على كل التساؤلات. يمكن أن نبرر الوحشية، عن طريق القول بأن للحرب قوانينها الخاصة بها. ليس من العيب، برغم كل شىء، أن يقول هذا الكاتب أنه يشيد بحركة المقاومة الفرنسية، وكل حركات المقاومة، باستثناء الحركة الألمانية، وذلك لأنها كانت تفتقر إلى أبسط مبرر وطنى.


وحدهم الذين لم يستطيعوا كبح ألسنتهم من حشروا فى معسكرات الاعتقال. لماذا لم يصمتوا فى انتظار أن تمر هذا السنوات الاثنتى عشر؟

كيف عرفت أن الأمر سيدوم اثنتى عشر سنة؟
بطبيعة الحال، كان من الممكن أن يدوم أكثر من ذلك. وماذا بعد؟ لماذا لا يتم اعتبار كل هذا ضمن رؤية تاريخية، لماذا لا يتم الحكم على ما حدث للتو، كأنه حدث منذ مائة سنة؟ أليس من الصحيح، حتى نكون صريحين، أن الحقيقة لا توجد ما لم يضعها المؤرخ فى سياقها الخاص؟ لقد فات الأوان إذن على عيشها، للشعور بالذنب بسببها أو البكاء عليها. يجب على الحقيقة أن تشيخ لكى تصبح حقيقية.

هذا صحيح بشكل مثالى. فى هذه الغرفة الواقعة فى بيت جميل فى حوض الرور، لا وجود للواقع. صحيح أنه بعد الظهيرة، دخلت الزوجة، بدموعها، وحكت عن مشهد وقع لتوه فى مخبز القرية.

شق رجل مسلح بعصا ضخمة طريقه بين النساء اللائى ينتظرن، وقد أصابهن الانتظار بالشلل، فأخذ، بالقوة، كل ما تبقى من الخبز، دون أن يتمكن أحد فى الصف من الحؤول دون وقوع ذلك. لكن، بالنسبة لكلاسيكى حديث العهد، ليس ثمة حادث أكثر تماسكا ، ليدخل فى حياته، رغما عنه، أحداث الواقع المكروه، التى تدور فى الحاضر.

 بقينا جالسين فى العتمة، نتحدث عن الباروك؛ تتنفس الغرفة كلها الباروك، وفوق المكاتب، وضعت كتب لأطروحات جامعية باللغة الألمانية، حول الباروك بوصفه أسلوبا معماريا. 

إنه بصدد كتابة رواية حول فترة الباروك، يراجع نسخة لم يتممها على أحسن وجه «هوفمانستال»، ولهذا السبب يقرأ كل ما يعثر عليه حول الهندسة المعمارية فى هذه الحقبة، لكى يقوى على وضع شخصيات فى قالب معقول.

لا يجب أن تكون شخصيات معاصرة متنكرة، تعانى من مشاكل الخبز وأفكار الجوع، بل أشخاص حقيقيون، عاشوا فى فترة الباروك، أشخاص من لحم ودم باروكى، يعيشون حياة باروركية. الباروك: قد يبدو هذا غير متزامن بتاتا مع الحياة فى «حوض الرور»، حيث يندلع الشغب الناجم عن الجوع.

لكن كيف لشىء أن يكون غير متزامن داخل ورشة هذا الكاتب، حيث لا يوجد الوقت أساسا؟
والمعاناة فى كل هذا؟ بدأ يتحدث عن السعادة الناجمة عن المعاناة، عن جمال المعاناة. ليست المعاناة وضيعة، وهى ليست موضوع شفقة. لا، إنها كبيرة لأنها تجعل الناس يكبرون.

«كيف يمكن تبرير غزو ثقافة أجدادنا الجرمانية، إذا لم يكن ذلك برهانا على أن الشعب الألمانى عانى أكثر من كل الشعوب؟» من غير الممكن إقناعه بأن المعاناة شىء رخيص.

يستقبل المؤرخ الرومانسى فيه، المعاناة على أساس أنها أقوى سبب يمكن وجوده لدفع الإنسان إلى الأفعال الكبرى، بينما يرى الكلاسيكى حديث العهد فيه، فى المعاناة مصدرا لأدب عظيم، لكنه ليس بالضرورة أدب معاناة.

على المائدة، تتحدث الأم، ذات اللون الأرستقراطى الشاحب، الذى هو بالتساوى، نتيجة للدم النبيل ولسوء التغذية، بنفس الفرحة الراقية عن السعادة التى تتولد عن المعاناة فى ألمانيا. نأكل البطاطس، والكرنب الأخضر لأنه، لحدود هذه اللحظة، ليس هناك أى شىء آخر للأكل، يشجع أفراد الأسرة بعضهم البعض بشكل متكرر، يتضح فى الحقيقة أن هذه التحفيزات لا تقل سخرية.

فى هذه الأسرة جد المثقفة، يستعمل الجوع كوسيلة لتحقيق المتعة. تحظى هذه الوجبة بمعنى جد خاص، وذلك لأننا نتناول الآلة الكاتبة ما قبل الأخيرة. أكلت قليلا جدا.

ومن ثم عاد مستضيفى للحديث عن آخر آلة كاتبة تبقيت لديه، وعن الباروك الذى لم يتخل عنه، وعدت أنا إلى «حوض الرور» الذى يبدو أقل باروكية إلى أضعف حد ممكن.