قبو مفترض يسكنه شبح كاتب ..الكتابة بوصفها ممارسة ذاتية

فوتوغرافيا: رلف جيبسون
فوتوغرافيا: رلف جيبسون

فى عام 1977، أثار الكاتب الفرنسى سيرج دوبروفسكى مسألة تبدو جديدة فى عالم الأدب حينذاك من خلال روايته «ابن» التى قال إنها تنتمى إلى ما سماه «التخييل الذاتي» وباختصار، قصد الكاتب الرواية التى ربما يحمل بطلها اسم المؤلف نفسه، ويمزج فيها المؤلف أحداثاً واقعية حقيقية تتمحور حول ذاته وتكون ممزوجة بالخيال، لكنها ليست سيرة ذاتية، فالسيرة الذاتية كما يرى سيرج فى واحدة من مقولاته، أنها «امتياز خاص بالناس المهمين فى هذا العالم» 

وبالفعل، لم تكن مقولة التخييل الذاتى مرتبطة بسيرج نفسه وفى لحظة إبداعه المصطلح، ولعل التوصيف لعمل أدبى معين وتصنيفه فى لحظة ما من التاريخ، لا يعنى أنه ولد فى تلك اللحظة بقدر ما دخل فى أقبية الأكاديميين أو راح يتردد على ألسنة النقاد. 

وبأى حال، فإن وضع الذات (ذات الكاتب الروائى مثلاً) فى مكانٍ بين الخيال والواقع، واستخدام اسمه أحياناً ليكون شخصيةً روائية أو أدبية، لا ينفصل اليوم كثيراً عن كتابة السيرة الذاتية، لسبب بسيط يفرضه واقع عصرنا الحالي، فثقافة عصرنا الحديثة تشجع كل فرد وتسمح له أياً كان، أن يكتب ذاته كما يحب، فى كتاب، أو فى وسيلة تواصل اجتماعي، أو غيرها. بل وأن يعيد إنتاج ذاته ومزجها مع خيالات أو وقائع متنوعة إن صح التعبير، وذلك بغض النظر عن فكرة غياب الذاتية والفردية فى عصرنا – على عكس ما يتخيل كثيرون – وهو موضوع لا يتسع له هذا المقال.

ولنعد الآن إلى التخييل الذاتي، الذى أثار موضوعه لديَ قراءة كتاب مهم حمل عنوان «التخييل الذاتى والولع بأكاذيب أخرى» للناقد الفرنسى فنسنت كولونا، من ترجمة محمد الجرطي، ونشرته دار فضاءات الأردنية نهاية العام الماضي. ينظر الكتاب فى إشكالية التخييل حول الذات منذ اللحظة التى أثار فيها دوبروفسكى هذا الموضوع، ويتناول مؤلفه سياقات التخييل فى العديد من الأعمال الأدبية العالمية ولدى مختلف الكتاب الأوروبيين. 

وما أود الإشارة إليه على وجه التحديد، هو أن العديد من الأعمال الأدبية المبكرة تقمص فيها المؤلف شخصيةً روائية «لتصبح ذاته حالة إشكالية تراوح بين الواقع والخيال، والوجود والفناء، والغموض والتجلي، مما يجعل السرد نفسه بمثابة بحث عن الذات المفقودة» وفق دراسة الباحث عبدالله شطاح بعنوان التخييل الذاتي: محاولة تأصيل، التى نشرها فى مجلة الآداب العالمية عام 2015 .

ومما سبق، فإن وضع الذات فى محور البطولة، وتمركز اللغة حولها للتعبير عن هذه الذات بالواقع والخيال، يجعل منها محور الكتابة بدلاً من الكتابة لأجل المغامرة نفسها (الرواية الفروسية والرومانسية مثلاً)، ومن ثم فإن التخييل الذاتى يخدم بطريقته هذه كاتب عصرنا الحديث. غير أن هذه الجملة الأخيرة غير صحيحة إلى حد ما، فلقد لفتنى أول ما قرأت حول التخييل الذاتى رواية الدانماركى الشهير فى أدب الأطفال هانز كريستيان أندرسن، الذى ألف كتاب الفتيان المعروف «فرخ البط القبيح» فى القرن التاسع عشر، وهو مجموعة مغامرات خيالية بطلها فرخ بط يناضل فى حياته من أجل عبور المصاعب والنجاح. ولكن هذ القصة فى بعدها الأوسع، تمثل سيرة أندرسن نفسه فى الحياة برأى النقاد، ولكن قالبها الخيالى والخرافى الممتع لا يوحى مباشرةً بهذا الأمر إلا إذا كان القارئ على معرفة أبعد بالكاتب أو بأجزاء من سيرته الذاتية نفسها. 

ولذا فإن التخييل الذاتى برأيى الخاص، يكرس دوماً سؤال ما إذا كان القارئ فى لحظة ما سوف يمسك بخيط يقوده إلى المؤلف فى عمق الرواية أو أن هذا الأمر فى الواقع لم يعد مهماً سوى فى سياق النقاد والأكاديميين الذين لا نعرف إذا كان ما يهمهم سيكون له أثر على القارئ الذى لن يثيره غالباً تتبع ذات الكاتب فى النص الأدبى سوى فضول الاكتشاف. 

وحتى لا تكون الرؤية سطحية وتنطوى على نقد للنقاد أنفسهم، فمن الجدير بالقول فى نهاية هذا المقال المكثف إن صح التعبير، أن القارئ للأدب والرواية اليوم يرى فى نفسه مالكاً مطلقاً لأحكامه على النص الذى بين يديه، أما محاولاته للتفاعل بشأن هذا النص مع الآخرين وفى أطر وسائل التواصل الاجتماعى مثلاً (لأنها الأوسع والأسرع)، فهى لن تتعدى نوعاً من إبداء الرأى الشخصى أو التسويق للذات والعمل، وهى بالمناسبة مهمة أصبح الكاتب يؤديها بنفسه كثيراً وهذا أمر طبيعى وفق أدوات عصرنا، وبالتالى فإنه يروج لعمله الأدبى كذلك، ولا ينتظر فقط رأى القارئ وسلطته، والمفارقة تكمن فى أن التخييل الذاتى الذى انتشر فى الكثير من الأعمال الأدبية المعاصرة عربياً وعالمياً، قد يعنى أكثر ما يعنى أن الكتابة باتت ممارسة ذاتية خالصة، وبالتالى فإن المؤلف ونصه غير ملزمين تجاه أى شيء فى هذا العالم خارج حدود النص (الذات). 

هذه المقولة الدكتاتورية فى عصر ما بعد الحداثة، قد تبدو مثيرة للسخرية إذا كان كل مؤلف وهذه طبيعة الحال، يسعى نحو نشر مؤلفاته وإيصالها إلى القراء بأحدث الطرق وبكل الطرق. وفى النهاية، ووفق هذا، سيبدو التخييل مجرد قبو مفترض يسكنه شبح كاتب يصر الناقد على أنه موجود، رغم أن الكاتب اضطر للخروج بطبيعة الحال إلى القراء بعد أن أنهى تأليف روايته.