3 اختلافات بين النسخة الغربية والأخرى العربية المسكوت عنه في سيرة نصر حامد أبو زيد

نصر أبو زيد
نصر أبو زيد

محمد كسبر

زمان، والعهدة على دراسى الفلكلور الشعبى، كان راوى السيرة الشعبية القديم يتمتع بالمرونة والحرية فى التعامل مع الحدوتة الشفاهية، فلا يلقيها بطريقة رتيبة فى كل مرة، بل يغير الحدث أحياناً ويعيد تعديل الحبكة أحيانا أخرى، طبقاً لمزاج جمهور المقهى، فجزء من احترافية هذا الراوى الشعبى يعتمد على فراسته الشخصية فى استشعار أذواق وميول هؤلاء الجمهور. 

فى السيرة الهلالية مثلاً ينتصر راويها المحترف لأبو زيد لو استشعر أن أهواء الجمهور تميل لذلك، فى حين ينتصر هذا الراوى نفسه للزناتى خليفة لو استشعر العكس مع جمهور مختلف.



وبشكل من الأشكال، أصبح راوى السيرة الشعبية جزءاً من مخلفات الماضى الآن، لكن ما زال منهجه الانتقائى الحر هذا، حاضراً وبشدة فى أذهان الكتاب العرب وهم يروون سيرة كبار المفكرين والمؤثرين فى حياتنا الثقافية، فيقومون بحذف هذا الجزء أو ذاك أثناء تحرير الكتاب، أو اختصاره فى سطورٍ قليلة لا تروى ظمأ ولا تشبع فضولاً، وتسليط الضوء على جزء آخر، وكل ذلك اعتماداً على تصور ما، لا يخلو من الوصاية على قارئهم المتُخيل، وفى أحيان أخرى يقومون بذلك اتقاءا لحالة التربص السائدة تجاه هذا المفكر، وحتى لا تُؤخذ هذه الأمور كسلاح يشهره أصحاب الفكر المعادى فى وجه صاحب السيرة. 

ورغم تفهمنا، بدرجة ما، لداوفع كاتب السيرة عند قيامه بهذا التهذيب، فى ظل بيئة فكرية لا تهتم بنقد الأفكار قدر اهتمامها بنبش سيرة صاحب الفكر، وفى ظل مناخ ثقافى لا يسعى فيه الآخر المخالف إلى الاشتباك مع القضية الفكرية المطروحة قدر سعيه إلى التعريض بصاحب الفكر ذاته ومحاولة إيجاد ثغرة لشيطنته ولعن «سلسفينه» لو أمكن وأمن من العقاب!



إلا أن هذا التفهم لا يعنى الموافقة على هذا النهج من الحذف والتحرير، فالمحصلة النهائية لذلك تؤثر على الحيوية اللازمة للسيرة وتجعلنا فى النهاية غير قادرين على التعامل معها كسيرة من لحم ودم، ويكفى للتدليل على هذا مطالعة كتاب «أنا نصر أبو زيد» المُوجه بالأساس للقارئ العربي، ومقارنتها بكتاب «صوت من المنفى.. تأملات فى الإسلام» المُوجه بالأساس للقارئ الغربى، فتغير الجمهور المستهدف فى الكتابين، أدى إلى ما يمكن تلخيصه فى ثلاث نقاط:

أشياء قُيلت هنا وحُجبت هناك، وسنعرض أمثلة مختارة منها.

أشياء قيلت هنا بشىء من التفصيل وقُيلت هناك بشيء من الإيجاز،. وسنعرض أثرها.

أشياء عامة قُيلت هنا وهناك، لا حاجة لتكرارها.

لكن قبل التطرق لهذه النقاط، ينبغى الإشارة إلى أن كتاب «أنا نصر أبو زيد» قام على كتابته الكاتب والباحث جمال عمر اعتماداً على تسجيلات صوتية ولقاءات شخصية أجراها المفكر الراحل ولقد ذكرها الكاتب بالتفصيل كمراجع فى نهاية الكتاب بعنوان «زهور الرحيق».

وأول ما يثير الانتباه هو اطلاع المؤلف على النسخة الغربية للسيرة المعنونة « «صوت من المنفى.. تأملات فى الإسلام» وهى موضع المقارنة هنا. ولقد وضعها جمال عمر فى صدر المراجع بعد التفريغات الصوتية لكتاب ألمانى يعد عن الراحل، وهذا إن دل على شيء، فهو يدل على أن الحذف والتهذيب جاء نتيجة قصدية معينة لا لنقص فى المعلومات مثلاً. 

وبالنسبة للكتاب الغربى «صوت فى المنفى» فلقد قامت بكتابته إستر نيلسون أستاذة الدراسات الدينية بجامعة فيرجينا كومنولوث بالاشتراك مع نصر حامد أبو زيد والمادة كُتبت اعتماداً على مقابلات شخصية مع المفكر الراحل كان يقوم فيها بالحكى وتقوم هى بالصياغة والكتابة فيما بعد، ولقد قامت نهى هندى بترجمة الكتاب إلى العربية. والمفارقة أن عنوان الكتاب العربى يدل على محتوى الكتاب الغربى أكثر مما يدل على نظيره العربي، فجملة «أنا نصر أبو زيد» تعطى دلالة على ثقة صاحبها بنفسه وتوحى بنية صاحبها لحكى كل ما حدث فى مشوار الحياة بجرأة دون اعتبار للصورة التى سيأخذها عنه الآخر الذى يمكن أن يكون محافظاً أو حتى متربصاً. لكن ذلك لم يتحقق فى النسخة العربية بالطبع وتحقق فى النسخة الغربية، إلى حدٍ كبير، والتى حملت عنواناً فرعياً «تأملات فى الإسلام» وهى بدورها مناسبة أكتر للنسخة العربى بما تشمله من إسهابٍ وتفصيلٍ لأبحاث المؤلف الفكرية وتأملاته الفلسفية عن الإسلام. بمعنى آخر، ركزت النسخة العربية على سيرة المؤلف الفكرية، وهذا يتجلى فى التوثيق الدقيق لكل أبحاث المؤلف بدءاً من الكتب الأكاديمية مروراً بالمقالات السيارة والحرص على تقديم نبذة مختصرة عن محتواها. 

أما النسخة الغربية فقد ركزت على المحكيات الصغيرة التى عاشها المؤلف وتأثيرها عليه، ولا نسعى هنا لتفضيل اتجاه على اتجاه، لكننا نكتفى باقتباسٍ دالٍ يوضح رؤية نصر حامد نفسه للمسألة، حيث كتبت المؤلفة إستر نيلسون فى مقدمة الكتاب «لقد كان نصر يؤمن باستمرار أن التجربة الشخصية لا يمكن فصلها عما ينجزه العالم من البحث العلمي، لأنها التربة الخصبة التى ينمو بها».

ولقد خضعت التجربة الشخصية لمقص التهذيب والتشذيب أحياناً والحذف أحياناً أخرى فى النسخة العربية، وهذا بدأ مع سنوات التكوين الأولى للباحث، فمثلاً لا يوجد ذكر لملاحظات نصر الطريفة عن الكود السرى لأهالى قريته عند مناقشتهم الأمور الجنسية، وما تحمله جملة «لقد كنت مسافرا البارحة..» من معنى جنسى، والعلاقة الطردية بين الاستحمام والعلاقة الجنسية فى قحافة، هذه التفاصيل الصغيرة قد تبدو لا أهمية لها على الظاهر، لكنها فى معنى من المعانى تدل على فكرين متباينين، عربى وغربي، واتجاهين متعارضين فى التعامل مع القارئ المُستهدف وما يجب أن يعرفه من المادة المتاحة. ويذكرنا هذا بالمفكر التنظيرى الذى يضع قائمة بالأولويات التى تخدم فى تصوره القضية الكبرى، فيطلب من المرأة مثلاً وضع قضية تحريرها جانباً فى سبيل القضية الكبرى كما يراها ولتكن التحرر من الاستعمار أو التحرر من سيطرة القوى الرأسمالية، لا يهم، لكن المهم أن هذه القضية الكبرى هى المنظار الذى يبنى ويحدد على أساسه طريقه تعامله مع القضايا الأخرى التى يصنفها بالفرعية من وجهة نظره.

 ولتوضيح المعنى أكثر، لنأخذ حدثا مركزيا كنكسة يونيو التى اختار كاتب السيرة العربية مشهداً دال ومعبر عنها وهو بكاء نصر حامد على قارعة الطريق بصحبة صديقه القاص سعيد الكفراوي، أما كاتبة السيرة الغربية فتورد مثلاً تعليقاً يحمل قدراً من الكوميديا السوداء على لسان نصر حيث يلاحظ عدم قدرة اصدقائه على ممارسة علاقات جنسية مع أزواجهم فى تلك الفترة وكأنه تم إخصاؤهم، طبقا لتعبير نصر حامد. 

الأمر لا يقتصر على بضع نكات جنسية قيلت هنا وحذفت هناك، لكن توجد شخصية مؤثرة فى حياة نصر تم تقديمها بشكل مبستر لا يدل على شىء فى النسخة العربية. وقبل التحدث عن الشخصية وما تمثله لنصر فلنورد ما جاء عنها فى السيرة العربية أولا:

«كان لقائى الأول بابنتى، منذ أن تركت مصر وهى مدرس مساعد. تذكرت حين قالت لى «ممكن أناديك بابا؟» واستمرت علاقة الأبوة والبنوة بيننا وأثناء القضية كانت نعم السند ونعم الابنة». 

انتهى الاقتباس وهو لا يكشف شئ عن عمق العلاقة وتطورها وحتى تحديها للنمط السائد، لكن استر نيلسون بحاستها النسوية لا تمر على هذه العلاقة مرور الكرام، فتدفع نصر إلى حالة من البوح الحميمى فيحكى لها كيف تعرف على ابنته المتبناة وطلبها الغريب بأن تناديه بـ «أبي» وتردده تجاه الأمر فى البداية والتصاعد الدرامى فى تقبله لهذه المسألة حتى يصل إلى ذروته عندما تجمعهما أحد المؤتمرات، ويتعذر حجز غرفتين لهما، فيضطر إلى أن يبيت معها فى غرفة واحدة هذه الليلة وكأن الأمر اختبار لجدية علاقة الأبوة، ثم تعامل زملائه العرب مع الموقف فى اليوم التالى للحدث وما صاحبه من همز ولمز يشى بعدم تصديقهم لوجود علاقة بين ذكر وأنثى لا تهدف للجنس ولا يكون الشيطان مشاركا فيها!

قد يرى البعض أن النسخة العربية أزالت وهذبت نوعا من النميمة لا لزوم له ولا يخدم القضية، لكن لنتساءل مجددا ما هى القضية أساسا؟ هل حارب نصر حامد الوصاية التى تفرض على العقل العربى لتفرض وصاية من نوع خاص على سيرة حياته؟ وهل يمكن فصل حريته الفكرية عن سيرته الشخصية المغايرة والتى عبر عنها فى موقف رائع يشى باتساقه مع مبادئه عندما جاءه أحد أصدقائه وأخبره أن أخته الصغرى تقابل أحد الشباب، فيفاجأ برد فعل نصر الهادئ فهو يربى أخته بطريقة مختلفة ولا يخضع لابتزاز هذا الصديق ومزايدته على الشرف ويختم نصر حديثه قائلا إنه «لا يحصر هذا الشرف فى غشاء البكارة». 

والسؤال هل كان نصر أكثر جرأة من كاتب سيرته الذى حذف هذه التفصيلة؟ أم أن كاتب السيرة فعل ذلك بدافع الإشفاق وحتى لا يقدم لأعداء فكره فرصة للمزايدة على طبق من ذهب؟ وهل هذا هو الحل الأمثل لمنع المزايدات؟

وطبعا هذه مجرد أمثلة وهناك أمثلة أكثر جدلية، ظهرت فى النسخة الغربية للسيرة واختفت تماما فى النسخة العربية، كتعرفه مثلا على إحدى النساء فى بار ما فى أمريكا ثم اكتشافه بعد ذلك من الحديث أنها رجل يرتدى ملابس امرأة والصدمة الحضارية التى نتجت لنصر عن ذلك!

ولم يتوقف الحذف والتهذيب على بضعة مشاهد «أخلاقية» أو لنتوخ الدقة ونقول «مشاهد قد يراها البعض من منظور أخلاقى معين». بل امتد مقص رقيب للنسخة العربية وحذف بعض الملابسات المحيطة بتكريم دكتور نصر من مؤسسة روزفلت، فنصر نفسه يعترف فى النسخة الغربية بشكوكه تجاه هذه الجائزة وسؤاله بشكل مباشر لمساعد مدير المؤسسة:

«هل كنتم تبحثون عن مسلم بشكل خاص لينال الجائزة هذا العام؟»

ويجيبه مساعد مدير المؤسسة بالإيجاب، ويعترف قائلا:

«كنا بحاجة لإرسال رسالة للعالم الإسلامى وللشعب الأمريكى أننا لسنا ضد المسلمين».

وهو بالمناسبة اعتراف لا يعيب نصر حامد أبو زيد فى شىء حتى يحذف من النسخة العربية، فيكفى موقفه الرائع وارتداؤه، هو وزوجته، الكوفية الفلسطينية أثناء التكريم لإيصال رسالته هو الآخر.

لكن ومن أجل الإنصاف، لم تكتف النسخة العربية بالبتر والحذف والتشذيب فقط، بل أضافت وأسهبت فى أجزاء أخرى كانت مبتورة تماما فى النسخة الغربية، بل من الممكن أن تعطى صورة مغالطة تماما لتعقيدات المشهد الأصلي. على سبيل المثال، فى النسخة الغربية يرد ذكر المفكر الإسلامى محمد عمارة فى بضعة سطور حيث قال نصر:

«ذكر المفكر الإسلامى محمد عمارة المعروف بدفاعه عن حرية الرأي، أن قضيتى هى قضية فكرية، ولو أن أبحاثى يجب مناقشتها فليكن من خلال نقاش فكرى وليست جنائية...» إلى آخر هذا الكلام الذى يوحى بصورة ليبرالية مغلوطة تماما للمفكر الراحل، والصورة الأدق توجد فى النسخة العربية، ففيها وثق جمال عمر مواقف جميع الأطراف وردود أفعالهم تجاه الأزمة بمن فيهم محمد عمارة والكاتب فهمى هويدى والأخير لعب دورا كبيرا فى الأزمة ذكره جمال عمر بالتفصيل فى حين جاءت سيرته مبتتسرة وأقرب إلى الليبرالية فى النسخة الغربية!

فى الختام، نثنى على جهد الباحث جمال عمر فى العناية بتراث الراحل الفكرى ومحاولة تقريبه إلى القراء، لكن ننتقد بالمقابل، فكرة أن تتحول السيرة الذاتية إلى سيرة شعبية، يتحول فيها أبو زيد المفكر الكبير، إلى نسخة أقرب لـ «أبو زيد» الفارس الهلالى حيث العناية بالبعد الواحد، بما تعنيه من التركيز على جانب الفروسية فقط لا غير، وحذف كل ما يتعلق بالمحكيات الصغيرة التى قد تثير حفيظة الجمهور المتخيل، فالتجربة الإنسانية تختلف عن السيرة الشعبية بما تحمله من تناقضات وحياة مركبة وتفاصيل إنسانية، ويجب أن تروى كما هي، دون وصاية، ودون خوف من مزايدات البعض!

المصادر:
كتاب «صوت من المنفى.. تأملات فى الإسلام» نصر حامد أبو زيد وإستر نيلسون وترجمة نهى هندي، دار الكتب خان.
كتاب « أنا نصر أبو زيد» جمال عمر، دار العين.