مرسى جميل عزيز l مع العندليب الأسمر ثنائى المعجزات الغنائية

مرسي جميل عزيز
مرسي جميل عزيز

عمر‭ ‬السيد

بالرغم من تعدد كتاباته للعديد من نجوم الطرب الذين عاصروه، بداية من “موسيقار الأجيال”، محمد عبد الوهاب، ومرورا بـ”كوكب الشرق”، أم كلثوم، وغيرهم كـ فايزة أحمد وفريد الأطرش وفيروز، باعتباره الشاعر المصري الوحيد الذي قدم لها عملاً “سوف أحيا” والتى كانت من أهم تسجيلات الإذاعة المصرية في ذلك الحين، إلا أن للشاعر الكبير مرسي جميل عزيز مع “العندليب الأسمر”، عبدالحليم حافظ، تجربة ثرية وفريدة من نوعها، دون غيره من المطربين الذين تعاون معهم طيلة مشواره الفني، وترجمت هذه التجربة لسنوات من العمل سخر خلالها عزيز كل طاقاته وإمكاناته الفنية التي انصهرت مع إمكانيات وصوت “العندليب”، وكونا معا منتج فنيا فريدا لم يتكرر.

لم ينكر شاعرنا الراحل الكبير أن تعاونه مع “العندليب” لم يكن بالأمر السهل أو المتوقع، كما كان بالنسبة له أقرب لتجسيد المصطلح الفني الشهير “تغيير الجلد”، حيث جاء لقائهما الأول بعد ما يقرب من 10 أعوام على احترافه الشعر الغنائي، وتقديمه العديد من القصائد والأعمال الغنائية التي شكلت دعائم مدرسته الشعرية ذات الطابع الكلاسيكي، والتي أكدت أيضا على كونه واحدا من أهم كبار شعراء الأغنية تمكنا من أدواته وتبحرا في علوم اللغة العربية وإتقانها.

تلك المدرسة التي لم يكن من السهل أبدا أن تتلائم مع طبيعة صوت “العندليب” واللون الذي كان يود تقديمه في هذه المرحلة، لكن كان لإيمان مرسي جميل عزيز الشديد بموهبة “العندليب”، وتأثره التام بخامة صوته - التي جعلتها يؤكد مرارا على اختلافه وأنه لم يكن إمتدادا لأيا من المطربين - دورا كبيرا في تطويع إمكاناته في الكتابة وتسخيرها لتقديم العديد من المؤلفات التي تخدم صوت “العندليب”، وتتماشى مع أفكاره التي قدمت نموذج أكثر حداثة وتطور في الأغنية العربية وقتها.

البداية

الأمر نفسه أكد عليه مرسي جميل عزيز في أحد تسجيلاته التليفزيونية النادرة، حينما سئل عن سر تعاونه مع “العندليب” وإيمانه الشديد بموهبته، فتحدث عن أول لقاء بينهما، وأشار بالفضل فيه للموسيقار محمد الموجي، قائلا: “البداية الحقيقية لعبد الحليم كانت مع الملحن محمد الموجي، لذا أراد في أحد المرات أن يعرفني به أملا في أن تكون هناك فرصة للتعاون بيننا، ومع إصرار الموجي على اللقاء استضافتهم ذات ليلة في منزلي، وكان بصحبتنا عدد من الأصدقاء (السميعة) من عشاق الطرب والغناء، فعرض الموجي أن يقدم لنا حليم شيء بصوته، وبالفعل استعد (العندليب) وبدأ يشدو بـ(ولد الهدى) لأم كلثوم، ولأنها كانت من الأغنيات الصعبة التي ليس من السهل على أي مطرب أدائها، بدأ الحاضرون يتبادلون فيما بينهم نظرات توحي بالشك في قدرات (حليم)، ومدى تمكنه من تقديم الأغنية، لكن ما لبث أن بدأ في الغناء، وتبدلت كل هذه النظرات من الشك إلى الإعجاب، وفوجئنا بأداء سليم ورائع من (حليم) للأغنية”.

واستكمل الحديث: “بينما الجميع كانوا غارقون في مشاعر من الإعجاب والذهول، لم اعرف كيف مضت علي هذه الجلسة، لدرجة أنني لم أنم طوال الليل، وحينما ابديت للموجي إعجابي بصوت (حليم) وقدراته، عرض علي أن أكتب له عملا، وبالفعل لم تنتهي ليلتنا هذه إلا وكنت قد أنتهيت من كتابة أغنية مخصوصة له كانت بعنوان (مالك ومالي يا أبو قلب خالي)”.

وتحدث مرسي جميل عزيز عن صوت عبد الحليم وتأثره الشديد به قائلا: “قديما كانت تقاس موهبة أي مطرب بقوة صوته وقدراته على التنوع في الأداء، والتنقل بين المقامات بقوة وتمكن، لكن مع عبد الحليم كان الأمر مختلف، إذا كان يقدم غنائه بأسلوب سهل وبسيط، نفس المعادلة التي استطاع تحقيقها محمد عبدالوهاب في النقلة التي أحدثها بمجال الموسيقي، حينما أبهر الجميع بسهولة وبساطة أسلوبه في التلحين، لذا أعتبر أن عبد الحليم استطاع بأسلوبه هذا أن يحدث نقلة نوعية في مجال الغناء كما فعل عبد الوهاب من قبله”.

ويضيف: “بجانب هذا هناك قدر من الإحساس بالدفء والألفة يتمتع بهما صوت (العندليب)، لدرجة تجعلك تحت تأثيره، وكانت هذه كلمة السر التي جعلت (العندليب) يجذبنا جميعا رغم اختلاف ألوان وأنماط إنتاجنا الفني، إلى منطقته ولونه في الغناء، لذلك وجدتني بعد أن عرفني الجمهور بأعمال ذات ثقل وبلاغة لغوية، أصبحت أقدم معه أعمالا بطابع وروح أكثر دفئ وبساطة، مثل (يا قلبي خبي ليبان عليا) و(هي دي هي فرحة الدنيا)”.

مدرسة مختلفة

قدم مرسي جميل عزيز العديد من الروائع الغنائية سواء مع “العندليب” أو غيره من كبار نجوم الطرب، وشكل معها دعائم مدرسته الشعرية الجديدة التي وإن كانت استوحت بعض أسسها من مدارس أخرى لشعراء عظام ممن سبقوه أو حتى عاصروه، إلا أن مدرسته امتازت بعدة سمات وملامح جعلته واحدا من أبرز فرسان الكلمة في عالم الشعر الغنائي، فقد كان كغيره من شعراء هذه المرحلة يصبون أغلب اهتمامهم على التجارب الإنسانية ومحاولات التعبير عنها من منظور وخبرات، وثقافة وتجارب كل شاعر منهم، إلا أن مرسي جميل عزيز اختار لنفسه أسلوبا مميزا في هذا الاتجاه، اعتمد فيه التركيز على الوصف التصويري الدقيق لكم العواطف والانفعالات الخاصة بالحالة أو التجربة التىي يتحدث عنها، وربما كان لشغفه واهتمامه بدراسة فنون التصوير أثر في اعتماده هذا النهج بالكتابة.

بالإضافة إلى اعتماده على تأكيد وتجسيد “المعاني” أو الأفكار التي يتناولها بألفاظ عدة، دون خلل بوحدة وبناء العمل، معتمدا في ذلك على مخزونه الواسع من المرادفات والألفاظ التي كان يجيد استعمالها ببراعة، مع إجادة التنوع والتنقل فيها بين المرادفات العامية والفصحى في آن واحد، وهو ما يبدو بوضوح في كثير من الأعمال التي قدمها، ومنها “نعم يا حبيبي، بأمر الحب، يا خلي القلب، بتلوموني ليه، في يوم في شهر في سنة” مع عبد الحليم حافظ، و”سيرة الحب، فات المعاد، ألف ليلة وليلة” مع أم كلثوم.

الثنائي

كل هذه العوامل منحت طابع التميز لكتابات الشاعر الكبير مرسي جميل عزيز، وكان لها أيضا بالغ الأثر في نجاح المشروع الفني أو التجربة المشتركة التي جمعته مع عبد الحليم حافظ على المستوى الفني، كما أثرت بطبيعة الحال حالة التناغم والتوافق الفكري الذي نشأ بينهما، لا سيما إن كليهما اشتركا في بعض هذه السمات، منها “اللعب على وتر التجارب الإنسانية”، وكذلك كان لذكاء “العندليب” وما أمتلكه من مقومات كصدق الإحساس ودرجة التأثر والقدرة الفائقة على التعايش والتجسيد، بمثابة فرصة ذهبية منحت مرسي جميل عزيز عنصر قوة إضافي تمثل في التعاون مع مطرب يجيد ترجمة كلمات ومعاني كتاباته، ومن ثم نجاح هذه الأعمال وانتشارها على نطاق واسع.

استمرت رحلة “العندليب” مع سيل أفكار وإبداعات الراحل مرسي جميل عزيز لعدة سنوات، تجانست خلالها أفكارهم الفنية، كما تلاحمت ميولهما ورؤيتهما لمستقبل الشعر والأغنية العربية المعاصرة، فلم تكن علاقتهما كعلاقة مطرب بشاعر، حتى قيل عنه أنه كان يتهرب من التعاون مع بعض المطربين باستثناء “العندليب”، وأسفرت هذه العلاقة عن تعاون فريد نتج عنه العديد من الأعمال الغنائية الخالدة التي بلغت 35 أغنية، جسدت شتى التجارب والمواقف الإنسانية، ومهدت لمرحلة جديدة من مشوار الشاعر الكبير قدم خلالها اتجاهات وأنماط متعددة من الشعر الغنائي برؤى مختلفة ذاته قربا بالجماهير، إلا أنه لم يتخل عن نمط كتاباته وأسلوبه المميز الذي أصبح أحد أهم أركان مدرسته في الشعر.

اقرأ أيضا : يحيى الموجي: عبدالحليم حافظ خطف أغنية "رسالة تحت الماء" من المطربة نجاة

;