مرسى جميل عزيز| عدو الرقابة .. فيلسوف العشاق

الشاعر مرسي جميل عزيز
الشاعر مرسي جميل عزيز

يحيى‭ ‬وجدى

من الصعب معرفة ما الذي أثّر أكثر في تكوين وذائقة شاعر الأغنية الكبير مرسي جميل عزيز، النشأة في الريف، وتحديدًا في الشرقية بمركزيتها وتفردها بين أرياف مصر العليا، أم حفظه  للقرآن الكريم بقراءاته المختلفة، أم إحاطته بالشعر العربي القديم في سن مبكرة، حتى أنه كان يحفظ المعلقات السبع، أم بفضل احتكاكه بمجتمعه بحكم تجارة والده في الفاكهة، وهي تجارة تتيح له التفاعل مع مجتمع كامل متعدد الحلقات.. الفلاحين الذين يزرعون، والأنفار الذين يقطفون ويحصدون، وعمال النقل، ثم تجار الجملة بثقلهم، وصولا إلى الباعة الصغار والمنادين على الثمار الحلوة بكل قاموس الدلع المصري.

أقول إن مرسي جميل عزيز كانت الفاكهة نفسها صاحبة التأثير الأكبر في تكوينه وفي منتجه الشعري في الأغنية العربية، لقد ذاق “شاعر الألف أغنية” - كما لقب عن استحقاق لحجم إنتاجه - أن ينهل من تنوع الفاكهة في ألوانها وتمايز طعمها واختلافه، أن يكون متنوعًا مثلها، لكنه انحاز إلى “الحلاوة”، أن تكون كلماته “مُسكرة”، تأتي بعد وجبة دسمة ربما تالية لتجربة قوية في المذاق، فيتأمل فيها عظمة البساطة ويُرطب بها على روح المستمع وقلبه، أليس هذا ما تفعله بنا الفاكهة؟

لم يعش مرسي جميل عزيز طويلًا - 61 عاما فقط - لكنه كان الأكثر انتاجًا بين شعراء الأغنية، نحو ألف أغنية، والأهم، أنه لا أغنية واحدة ضعيفة أو مكررة أو تشبه غيرها أو كتبها من أجل المال أو بطلب من سلطة أو لخاطر مطربة أو مطرب مهما علا شأنه أو طارت شهرته.

كان مرسي جميل عزيز صاحب مشروع، أغنياته بتنوعها الكبير، وعمله مع طيف واسع من المطربات والمطربين يقولان هذا. مشروع يقوم يستلهم الشاعر العربي القديم، بدوره الوظيفي في قبيلته ومجتمعه، لكنه اختار أن يكون الشاعر العربي المسموع لا المقروء، وهو رهان لم يكن سهلًا أبدًا، في ضوء أن “الشعر ديوان العرب”، لقد اختار مرسي جميل عزيز أن يُسمع الناس حُلو الكلام، وحكايات العشاق في فرحهم ونشوتهم وضعفهم في الحب ومع الحبيب، أراد أن يتأمل معهم عدم منطقية الوقوع في الحب، هو شيء تحكى حلاوته وإحساسه دون تفسير لأسبابه، فلا تفسير للعشق.

من الشعر العربي القديم أبيات صارت مثلا وحكمة نقولها دون أن نعرف أصلها أو صاحبها، مثل “من لم يمت بالسيف مات بغيره”، وهي للشاعر ابن نباتة السعدي المتوفى منذ أكثر من ألف عام، وأصبحت “عايزنا نرجع زي زمان قول للزمان ارجع يا زمان”، لمرسي جميل عزيز مثلا وحكمة ستعيش ألف عام أخرى، هكذا اختار الشاعر ما هو أكبر من أغنية، اختار الجملة التي ستتجاوز لحنها وصوت من قالها بل واسم من كتبها لتعيش.

لقد أدرك مرسي عزيز مبكرا أثر الغناء في تكوين الإنسان المصري، وحتما رآه وسمعه ولمسه في تسريته عن الفتيات الصغيرات أثناء جمعهن للثمار في الغيطان، وفي تهوينه على الرجال مشقة العمل لساعات طويلة في نقل الفاكهة، وفي استمتاع أثرياء التجار بتسجيلاته منازلهم بعد أيام من التفاوض وحسابات المكسب والخسارة، وفي اللجوء إليه كأفضل دعاية لجذب الزبائن لشراء الفاكهة.

استمع إليه وأدرك تأثيره في الأفراح الفقيرة، وفي التعبير عن عمق الإيمان بحب آل بيت النبي في حلقات الذكر الصوفية في مسقط رأسه في الزقازيق، أدرك تأثيره وقيمته، لكنه أيضًا سعى لدراسة هذا التأثير وتفكيكه ليحيط به، فلم يكن مرسي جميل عزيز شاعرا فطريا، شأن كثير من كتاب الأغنية، كان شديد الموهبة بلا شك، هذا لا يحتاج إلى تأكيد، لكنه أيضا درس وذاكر كيف تصف الكلمة مشهدا وكيف تتكون الجُملة فتصبح طيعة بسيطة بلا زوائد. درس مرسي جميل عزيز، بعد اللغة العربية وآدابها رغم تخرجه من كلية الحقوق، والأدب العالمي وقواعده النقدية، ودرس فن السيناريو في معهد السينما، وكان الأول على دفعته في الدراسة، وأخضع دراساته هذه كلها لكتابة الأغنية بوعي واختيار.

تجلت دراسة مرسي جميل عزيز لفن السيناريو في مشهدية أغنياته، إذا كان الشاعر القادر على نقل مشاهد العشق للمستمعين، على اختلاف اللحن والمطرب أو المطربة، وعلى وصف الإحساس بين المحبين كأنما يشاهده المستمع، هل هناك من لا يستطيع أن يتخيل المشهد الذي تغنيه فايزة أحمد بكل ما تحمله الكلمات من دلال “يا مّه القمر ع الباب.. يا مّه أرد الباب ولا أنادي له”، رغم المجاز، فلا يمكن إلا أن ينصرف الذهن إلى تخيل الحبيب واقف على الباب، فتشارك الحبيبة رؤيتها له كقمر تود أن تأخذ الإذن ليدخل.

والأغنية السابقة بتأثيرها وقوتها تكشف عن وجه من وجوه مرسي جميل عزيز ومشروعه الشعري، فالأغنية التي غنتها فايزة أحمد عام 1957 تعرضت لهجوم عنيف بدأ في الأردن التي منعت إذاعتها بدعوى انحلالها، وانتقل الهجوم إلى مصر حيث دعا نائب برلماني إلى وقف إذاعتها إذ أنها تحث الشباب والفتيات على الفجور، غير أن مرسي جميل عزيز لم يتراجع أو يلجأ إلى تبرير نفسه، بل هاجم مهاجميه في الصحف وفي حوارات إذاعية قائلًا إن العشق حسي وأن المنادين بالحب العذري لا يعرفون الحب.

وعي مرسي عزيز باللغة وضرورة تحريرها، لم يتجل فقط في اختيار كلمات نادرة، حملها معه من غيطان الفاكهة مثل “أما براوة”، بل رأى أيضا وجوب أن تصل الكلمة في وصف الحب والعشاق إلى أقصى سماواتها، وبرغم الهجوم المبكر على كلماته في “يا مّه القمر ع الباب”، ذهب إلى ما هو أبعد عام 1969 في تعاونه العظيم مع أم كلثوم، ويكتب لها في أغنية “ألف ليلة وليلة”، “قول الحب نعمة مش خطية.. الله محبة، الخير محبة، النور محبة”، ليجعل الحب في مقام إلهي، ويضع العشق بين البشر في مراتب عليا سامية قدسية مثل حب الخالق والخير والنور، لا فرق بين هذا كله، فالحب واحد، بل ويذهب إلى ما هو أبعد بعد ذلك، فيكتب في قبل وفاته في نهاية السبعينيات في “من غير ليه؟”.. “جايين الدنيا ما نعرف ليه.. ولا عايزين إيه.. مشاوير مرسومة لخطاوينا.. نمشيها في غربة ليالينا”، وكان الحب هو قدر اللا قدر، كما أدرك وكما بشّر “فيلسوف العشاق”، صاحب الألف قصيدة، وصوت المحبين مرسي جميل عزيز.

اقرأ أيضا : خالد ميري يطالب بالاعتماد على محاكمة مرسي جميل عزيز في التعامل مع أزمة «للي»

;