الصبر الاستراتيجي

الكاتب الصحفي إسلام عفيفي
الكاتب الصحفي إسلام عفيفي

الأفعال الجنونية التى ترتكبها سلطة الاحتلال الاسرائيلي يوميا - أسوأ حكومة على مر التاريخ حسب وصف أحد أعضاء الكنيست - تجعل منطقة الشرق الأوسط تعيش على حافة الهاوية، حالة من الغباء الدبلوماسي والاستعلاء تسيطر على تلك الحكومة اليمينية المتطرفة التي تتحدث بلسان التعصب والعنصرية والكراهية، وترتكب على مدار الساعة مجازر وحشية بحق المدنيين الأبرياء من الفلسطينيين.. يكفينا من المشاهد الفاضحة قيام جنودهم بإطلاق النيران على اثنين رفعا قمصانهما البيضاء يعلنان استسلامهما ليكتشف هؤلاء الجنود أنهم قتلوا إسرائيليين !!

لا يصدق نتنياهو أنه أصبح عنوانا كبيرا للفشل فى السياسة والحرب والدبلوماسية، ولم تفلح محاولات صديقه ساكن البيت الأبيض أن تحميه من الإدانات المتكررة في المحافل الدولية، إلا بفيتو يتم إشهاره في وجه كل أعضاء مجلس الأمن ذلك هو الملاذ الأخير الآمن للتغطية على «الفشل - الجريمة»، الصديقان أصبحا وحيدين في مواجهة العالم، ورغم أنهما على قمة السلطة فى بلديهما غير أن استطلاعات الرأى تؤكد أنهما فقدا ثقة مواطنيهم في الداخل واحترام الرأي العام العالمي.

وللخروج من الأزمة الضاغطة على كليهما لا مفر من استخدام سياسة تصدير الأزمات للآخر، ولنعد بالذاكرة لشهور مضت ونعيد قراءة كيف قامت إسرائيل بشن حملة شديدة العدوانية والوقاحة على الأمين العام للأمم المتحدة تتهمه فيها بأنه غير جدير بمنصبه بسبب إدانته للجرائم الإسرائيلية ومطالبته بحماية المدنيين وإدخال المساعدات!

وتظل سياسة تصدير الأزمات مستمرة ومهيمنة على عقل الاحتلال كوسيلة تحتال بها على العالم وهروبا من المأزق وما فعلته مع «الأونروا» وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين التابعة للأمم المتحدة والتي أنشئت عام ١٩٤٨، وكيف اتهمت ثلاثة من موظفيها بدعم المقاومة الفلسطينية فقامت المنظمة بتسريح هؤلاء وفتح تحقيقات غير أن هذا لم يشفع للمنظمة ولم يحمها من قرارات الاحتلال المتعسفة،وعقابها بوقف أعمالها لتطبق الحصار على القطاع وتقطع يد المساعدات في داخل غزة.

وليس بخافِ على أحد كيف تتعامل مصر مع الأزمة على كافة الأصعدة والمستويات والمحافل، وكيف تدير القاهرة المعركة الدبلوماسية بما تملكه من أوراق ضغط وثقل سياسى فى الدوائر كافة وخبرات طويلة بأطراف وطبيعة الصراع من خلال رؤية وثوابت محددة تهدف إلى التأكيد على الحق الفلسطينى بإقامة الدولة المستقلة حتى لا يتم اختزال القضية فى المساعدات الإنسانية، فلا يطغى المأزق الانساني رغم ضرورته ومأساويته على الهدف الرئيسي.. هذه الرؤية الاستراتيجية بجانب التعاطى اليومى مع الأحداث جعل سلطة الاحتلال تفقد صوابها واتزانها الدبلوماسى فى أكثر من موقف بل ولجأت إلى نفس منهج تصدير الأزمة مع مصر بإدعاءات كاذبة متكررة حول معبر رفح لم تنطل على أحد، حتى دخلت «برأسها إلى الأنفاق» وحديث إفك لعلها تبرر فشلها فى تحقيق أهدافها المعلنة.

كيف تتعامل مصر مع كل هذا الجنون واللامنطق سواء فيما يتعلق بتصعيد ممنهج على الأرض وانحياز أمريكي غير مسبوق، ومناخ إقليمى مشتعل، ومزايدات على الدور المصري بسبب موقفه الثابت والداعم للقضية حتى لا يتم تصفيتها بتهجير شعبها قسرًا أو طوعًا والإصرار على حمايته بإنفاذ المساعدات ؟

الصبر الاستراتيجى هو الخيار المصري عن يقين بأنه الحل ولا يعنى ذلك سكونًا بل تخطيط شديد الدقة ولا يعنى خوفًا من التبعات وإن كانت يجب أن توضع فى الاعتبار، ولا يمكن أن نتعامل معه بمقاييس الضعف، فالقوة فى أوقات ليست قليلة تتطلب اللعب بورقة الزمن والقدرة على تحمل الصدمات وتداعيات الانتظار خلال محاولة تغيير الظروف واستدعاء كل الأدوات الممكنة والمتاحة لحين اللحظة المناسبة، فلا أحد يفرض على صانع القرار المصرى توجهًا أو يملى عليه قرارا أو يدفعه نحو مسار وهو عليه مرغم.

البعض تساءل حول هذا المنهج السياسى ووصل الأمر أحيانا إلى درجة الحيرة ولا أبالغ إذا قلت «الريبة وعدم اليقين» وبمرور الوقت واختبار هذه الرؤية وفلسفة الحكم على مدى عشر سنوات فى أكثر من موقف وأزمة تكشفت الحقيقة الجلية بأننا نمتلك حلولاً خاصة ورؤى غير نمطية فى التعاطى مع تحديات يواجهها الإقليم ومفروضة على المنطقة،وحسب المعالجة المصرية لم تعد الخيارات بين بديلين فقط ولكن أصبحت لدينا تلك الخلطة المصرية الخاصة بقراءة دقيقة للموقف والتنبؤ بنتائج خياراتنا التى قد لا يجيد البعض قراءتها أو تستعصى فى الوقت الراهن على الفهم.

«إن مصر لا تمتلك - بكامل إرادتها وبما يمليه عليها ثقلها العالمى - رفاهية فقد الهدوء» أو نفاد كل ما لديها من رصيد.

«الصبرالاستراتيجى» الذى تحترف امتلاكه بامتياز.. وذلك لأنها تدرك يقيناً - بخبرة الزمان والمكان - أن المنطقة لن تتحمل تبعات ذلك.. وربما العالم نفسه...».

وهنا يصبح لعامل الزمن قيمة نسبية مضافة ويصبح للتعقل وزن تحصد ثماره، ورصيد فى حسابات المكسب لا الخسارة.. إدارة العلاقات الدولية وتحديدا أوقات الأزمات لا يكون بقرارات انفعالية غير مأمونة العواقب، وقد تضطر إلى اللجوء للدبلوماسية الخشنة وفضح المواقف علنًا وكشف الأكاذيب وتفنيدها ليواجه الكاذبون العالم بما لا يستر أخلاقهم المعيبة وشرفهم الرخيص وديمقراطيتهم المزعومة.

مصر مدركة لمحاولات الاستدراج المستمرة ويمثل الوعى الشعبى والثقة فى القيادة جدارا منيعا فى هذه المواجهة خاصة أننا نمتلك مؤسسات خبيرة فى إدارة الأزمات وتقدير الموقف وفق رؤية قيادة سياسية لا تقامر بمصائر الشعوب فى المنطقة ولا تريد أن ينفجر الإقليم فى مواجهات غير محسوبة، وفى الوقت نفسه تضغط بكل قوة وتستخدم كل قدراتها وتسخر أدواتها وإمكانياتها لتحقيق رؤيتها بعدم انزلاق المنطقة إلى الهاوية، ولكن ليس على حساب الحق الذى يجب أن يسترد.. وإن غدا لناظره قريب.