محمد جادالله يكتب: العقل الأفلاطوني ومنهجه المعرفي (2 – 6)

محمد جادالله
محمد جادالله

كان أفلاطون من أوائل الذين اهتموا بالبحث في مسألة المعرفة Knowledge لذاتها، فقد عرض موضوع المعرفة في محاورات كثيرة، ووجد أفلاطون نفسه بين رأيين متعارضين رأي "بروتاجوراس" ومن سلك مسلكه من السوفسطائيين الذين يردون المعرفة الإنسانية إلى الإحساس الفردي، ويكمن ذلك في عبارة بروتاجواس المشهورة "الإنسان مقياس كل شيء" ومعني هذه العبارة أن ما يبدو لي حق فهو حق بالنسبة إلي، وأن ما يبدو لك حق فهو حق بالنسبة إليك وهكذا أي أن الحقيقة تبعاً لهذا الرأي تكون نسبية أو لا توجد حقيقة عامة او معرفة عامة. أما الرأي الآخر فهو رأي "سقراط" Socrates الذي كان يري أن العقل Mind قادر علي تحصيل المعرفة، ويمكنه أن يصل إلى إدراك حقائق الأشياء.
وقد ذكر أفلاطون في محاورة ثياتيتوس Theaetetus وهي الخاصة بالمعرفة، النقد الذي وجهه إلى النظرية السوفسطائية في النقاط التالية:
1- القول بأن المعرفة هي الإدراك الحسي، هو نظرية بروتاجوراس والسوفسطائيين. وهي تذهب إلى أن ما يبدو لكل فرد، على أنه حقيقي يكون حقيقياً بالنسبة لذلك الفرد. غير أن هذا على أي حال، زائف في التطبيق على حكمنا بصدد الأحداث المستقبلية، فالأخطاء العديدة التي يرتكبها عن المستقبل تظهر هذا. وبصفة عامة ما يبدو لكل فرد على أنه الحقيقة عن المستقبل، لا يصبح هكذا عندما تقع الأمور.
2- الإدراك الحسي يؤدي إلى انطباعات متناقضة، فكيف نتخذ الحواس سبيلاً إلي العلم. لكن إذا كانت المعرفة هي الإدراك الحسي، إذن فلن يكون لنا حق إعطاء أفضلية للإدراك الحسي على حساب إدراك حسي آخر، فإذا كانت الإدراكات الحسية كلها هي المعرفة، إذن فإنها كلها حقيقة.
3- لو كانت الحواس هي مقياس الحقائق، لاشتاك الحيوان مع الإنسان في إدراك الحقيقة.
4- هذا الرأي يجعل من كل معرفة وكل بحث وكل برهان وكل تفنيد أمراً مستحيلاً. اما المناقشة والبرهان، فإن الجدال بين شخصين عن أي شيء يتضمن أنهما يؤمنان بوجود حقيقة موضوعية.      
5- إن نظرية بروتاجوراس تناقض نفسها، لأن بروتاجوراس يعترف بأن ما يبدو لي حقيقا فهو حقيقي. لهذا فإذا بدا لي حقيقاً، أن مذهب بروتاجوراس زائف، ويجب على بروتاجرواس نفسه أن يتعرف بذلك.
6- القول بهذه النظرية لا يجعل، فاصلاً بين الحق والباطل، فكل شيء حق وباطل في آن واحد.
7- لا يخلو إدراك كائناً ما كان من عنصر خارج من عمل الحواس، فإذا قلت مثلاً: هذه الورقة بيضاء، فقد تظن أن هذا إدراك جاءك عن طريق الحواس وحدها.
وقد تناول أفلاطون مشكلة المعرفة ونظريتها في هذه المحاورة. فبدأ بمسألة حد العلم، وعرض من خلالها لرأي فلسفي ذهب إليه بعض السوفسطائيين على الخصوص، حيث إن العلم هو ثمة الحس والظاهر، كما قال "بروتاجواس" عبارته الشهيرة التي ذكرنها سابقاً. فبعد أن اوضحنا موقف أفلاطون من بروتاجوراس وسقراط، فإننا سنتناول الأساس الذي أقام عليه أفلاطون نظريته في المعرفة. والسؤال الآن، ما وهو الأساس الذي أقام عليه أفلاطون نظريته في المعرفة؟ 
عزيزي القارئ الإجابة في كلمة واحدة "المثل". نظرية المثل نستطيع أن نُطلق عليها بذور الفكر الأفلاطوني، فهي بمعنى الكلمة الأساس الذي شيد واقام عليه أفلاطون فلسفته بأكملها. أي أن نظرية المثل، هي التطور الطبيعي للمذهب السقراطي للمفاهيم. فالمعرفة، بوصفها متميزة عن الرأي، هي معرفة الحقيقة. فمن تعاليم سقراط "أنه من أجل أن تعرف شيئا من الضروري والكافي أن يكون لديك مفهوم هذا الشيء". ولذلك، فإن المفهوم، أو بمعني آخر الفكرة، هو الحقيقة الوحيدة. وإنكار أن الفكرة هي حقيقة واقعة هو إنكار إمكانية المعرفة العلمية.
لا شك في أن نظرية المُثل تكون نقطة الانطلاق وحجر الزاوية لفلسفة أفلاطون بجملتها. وهي ناتجة عن استخدام الاستقراء السقراطي والجدل الأفلاطوني.
كما ان نظرية المُثل هي عصب الفلسفة الأفلاطونية، أي أنه لا يمكن فهم أي جزء من اجزاء الفلسفة الأفلاطونية إلا بالرجوع إليها. ويقول أفلاطون أن نظرية المثل هي التفسير الوحيد للقيمة الموضوعية للمعرفة العلمية.
وهي نظرية أتي بها أفلاطون، ويعني بها ما قبل العالم الحسي أو المادي، يكون فيه الإنسان علي علم بجميع العلوم والخفايا، وعند ذهابه إلى العالم الحسي أو المادي (أي حينما يولد) ينسي كل ما تعلمه، وما عليه إلا أن يتذكرها في العالم الحسي.
يقول أفلاطون أن نظرية المثل هي التفسير الوحيد للقيمة الموضوعية للمعرفة العلمية. بمعني آخر، كما في فيليبوس انه يستمد عقيدة الأفكار من فشل هيراقليطس والمدرسة الإليلية لشرح الكينونة والصيرورة. والسؤال الآن، كيف عرفنا هذه المُثل؟ إجابتنا عن هذا التساؤل ستكون موضوع مقالنا القادم.