نيفين النصيري تكتب: شيء ما أصابه الخلل.. تمرد الراوى

د. نيفين النصيرى تكتب: شىء ما أصابه الخلل: تمرد الراوى
د. نيفين النصيرى تكتب: شىء ما أصابه الخلل: تمرد الراوى

«أمرٌ بائسٌ حقاً أن تُعاش الحياة فى انتظار أن تأتى الحياة». بهذه الكلمات تبدأ «شيءٌ ما أصابه الخلل» المجموعة القصصية لمحمد فرج الصادرة عن دار المرايا (٢٠٢٣). منذ بداية المجموعة، يسيطر علينا شعور طاحن بثقل الوجود، ونوع من الحدس بأن هناك شيء أو ربما أشياء قد أصابها خلل فى الوجود، فالحياة بالنسبة للراوى ما هى إلا اللحظة الآنية، لحظة شديدة الهشاشة، لأن حياة أحدهم قد تنتهى بصورة عبثية شديدة التفاهة لأن.. «قطعة صغيرة من الطعام تضل طريقها أثناء البلع يمكنها أن تُميت المرء مخنوقاً» (راحة، صفحة١١). 

الأسلوب السردى التأملى العميق للراوى يعكس تلك الغصة التى تسيطر على حياتنا، وتجعلنا دائمًا فى انتظار «إمكانية لن تحدث الآن»؛ نحاول الحركة، ونكتشف أننا نتحرك فى دائرة أو «دوران» كما أشار محمد فرج فى إحدى القصص، ولعلها من أعمق قصص المجموعة وأكثرها تعقيدًا من ناحية الشكل والمضمون نظرًا لالتفاتها للذائقة الوجودية التى نعيشها وسط عالم يطمس معالمه الضباب كما يؤكد الراوى ذلك. وقد تناول محمد فرج مثل هذه الموضوعات فى كتبه السابقة. كمجموعته القصصية «مياومة.. هايكو عامل معاصر» (المحروسة ٢٠٢٠) والتى تتناول معاناة العامل المعاصر امام الروتين والإنتاج الأوتوماتيكي.

ومن سمات هذا النوع المتقن من السرد أن يتفقد الراوى كل العناصر من حوله وليس الطبيعة فقط، بل يراقب توالى أحداث الحياة اليومية العادية، متأملًا إياها عبر النظر العميق، الذى يقلب المسلمات ويعيد طرح الأسئلة من جديد؛ فهل الحياة التى اصطلح على وصفها بالصيرورة والديمومة والحركة المتواصلة (من الماضى إلى الحاضر فى اتجاه المستقبل) هل هى كذلك حقًا؟ يتساءل الراوى إذا كنا نتحرك بالفعل، لأن الحديث عن الحركة «يخلق غباراً كثيفاً يمنعنا من الرؤية وأيضًا من التنفس» (نضج، 20).

سارد محايد ومتورط
تتألف المجموعة من ١٠ قصص قصيرة يمكن اعتبارها إسقاطات وجودية، ليس لأنها تطرح تساؤلات فلسفية مجردة فحسب، بل لكونها لا تقدم إجابات قاطعة أو مسلما بها، وتظل فقط بمثابة تأملات للمنظر الخارجى للحياة.

يحافظ الراوى على موقعه فى مراقبة الحياة وحكيها بشكل حيادي، طريقة تذكرنا أحيانًا بـ«نظرة مارسو» لألبير كامي؛ وإذا كان «مارسو» شخصية بلا رغبات تشعر دائمًا بالغربة عن العالم، فالمؤكد أن مجرد قبوله عبثية الوجود، يعنى أن السعادة قد تصبح ممكنة. وهذه الكتابة التقريرية والتى لا تنحاز الى أى موقف او رؤية نجدها أيضا فى مجموعته القصصية «خطط طويلة الأجل» (دار العين، ٢٠١٩ والتى حازت على جـائـزة ساويرس لأفضل مجموعة قصصية فى فرع شـباب الأدبـاء) المجموعة الأولى للكاتب من خلال سارد عدمي.

بينما يبدو الراوى فى قصص «شيءٌ ما أصابه الخلل» واعيًا بعبثية الوجود والشعور باللاجدوى، كما فعل «مارسو»، ولكنه يحاول فى نفس الوقت أن يكون جزءًا فعالًا منه؛ لا بغرض تغيير هذا الوجود، بل لتقدير هذا العبث والإشادة به. 

كذلك لا يسعى الراوى إلى تبرير أفعاله وسلوكه أو حتى تقديم أى تحليل أو إجابة، فملاحظاته بمثابة وثيقة خام، وهو أيضًا يريد أن يخلق علاقات حميمة مع الخارج وكأنه يقع فى مكان خارجه، لذلك يمكننا أن نعتبره نموذجًا للبطل الضد الذى لا يقوم بمساعى استثنائية لتغيير العالم، ولا تحركه مشاعر نبيلة.

للسارد عبر قصص المجموعة جوانب مظلمة، كما أن عيوبه عديدة، ولديه صفات جسدية خاصة: مثل حجمه الكبير الذى يمنعه من الحركة بشكل جيد ويشعر معه بأنه مقيد بحجمه، مثل طائر البطريق لبودلير. فضلًا عن أنه يستعمل نظارة طبية غليظة العدسات تمنحه القدرة على رؤية الأشياء فى وضعها البدائى الخام أو الواقعي؛ يرى البطل وجوه الأشخاص تشبه وجوه الماعز، وهكذا يبدو أكثر تفاعلًا من «مارسو». وعلى الرغم من كونه يراقب المشهد من الخارج إلا أنه أيضًا جزء أصيل من هذا المشهد. وكثيرًا ما يعبر عن الصراعات الداخلية التى يعيشها كالشعور بالوحدة، أو الرغبة فى التواصل مع الآخر.

اقرأ أيضاً | منصورة عز الدين تكتب :تونى موريسون كمحررة أدبية

عن الخوف والصراخ
يعرفنا الراوى أن العلاقة الوحيدة التى كان يطمع فيها هى علاقته بفتاة شحاذة لها عينان خضراوان وابتسامة ناعسة، كما يتخيل علاقة أخرى مع سمراء تجمع القمامة أسماها ليلة.. «لها ابتسامة ماكرة متطلعة أنثوية لم يعد أحد يبتسمها لى منذ زمن طويل» (ضباب، ٤٠)، يتأمل كذلك علاقات مع المهمشين الذين لفظهم المجتمع إلا أنهم وحدهم القادرون على مساعدته فى الهروب من نفسه، يشحذ ابتسامة منهم «علّ الطريق ينفتح أمامى قليلًا»(ضباب، ٤٠) لكى يعيش فى اللحظة الراهنة ويجد ابتسامة إحدى المرأتين بدون الدخول فى تفاصيل ماضيه. 

ربما لا يبدو عالم الهامش غريبًا على كتابة محمد فرج، إذ دار عمله الأدبى السابق «مياومة.. هايكو عامل معاصر» (المحروسة 2020) عن آثار العمل المعاصر القاسية على حياة العمال الذهنيين.

وفى سرد مباشر ولكنه عذب فى ذات الوقت، يستعرض الراوى فى «شيءٌ ما أصابه الخلل» وبصيغة كاشفة عددًا من أشكال الخوف التى تنتابه والتى تعكس مخاوفنا جميعًا: مثل مخاوفنا الطبيعية من ترك العمل، أو من تسرب الغاز، أو مخاوفنا الموروثة بسبب المنظومة الاجتماعية كالخوف من رجال الأمن أو الخوف من الإفصاح عما بداخلنا سواء كان مخجلًا أم لا، أو الخوف من أشياء تافهة كعبور الطريق، أو الخوف الشخصى من الكلاب أو الحشرات، أو مخاوف ميثولوجية تماثل الخوف من «الليالى التى يكتمل فيها القمر» (تشابه ٢٥) أو الخوف المرتبط بتجربة نفسية معقدة مثل الاستمتاع إلى الموسيقى التى تنقل ذكريات قد نود أن ننساها، أو خوف وجودى كالخوف من مواجهة النفس الخاوية، أو حتى الخوف من محض افتراضات نادرة جدًا ولكننا تخيلناها جميعًا ولو مرة واحدة مثل الخوف من الخطو فى الفراغ على اعتبار أن كابينة المصعد موجودة. 

للتخلص من هذه المخاوف أحيانًا ما نحتاج إلى الصراخ كالحيوانات، فيؤكد لنا الراوى أن الناس أيضاً يصرخون من هذا الواقع الثقيل.. «سمعت عواءً بشريًا… تأكدت أنى لست مخبولًا تمامًا» (تشابه ٢٧). 

كل هذه الصراعات والمخاوف تخلق شروخًا أو نتوءات نرى من خلالها العالم من حولنا وهو مشوش، بل مشوه تمامًا. ويعلل الراوى استخدامه نظارة لتمكنه من رؤية هذا التشوه. وقد نتساءل كقراء هل النظارة التى تشوه الرؤية؟ أم أن الواقع مشوه والنظارة تجعل السارد يرى الخلل بصورة أكثر واقعية؟

رؤى ضبابية
وعلى الرغم من أن معظم صور المجموعة تتصف بالضبابية والحكايات غير المألوفة كما تشبه أحلامًا كابوسية المنظر إلا أن أسلوب الكتابة مباشر غير مجازى على الإطلاق. فقد نجح الكاتب بفضل هذا الأسلوب فى خلق عالم قد يبدو غرائبيًا، ولكن سرعان ما نكتشف أنه عالمنا المألوف فنتعايش مع تلك التفاصيل بصورة اعتيادية تمامًا ربما ترمز إلى حالة الاغتراب التى يعيشها الراوي، وهى ثيمة يسهل إدراكها فى المجموعة القصصية لمحمد فرج «خطط طويلة الأجل» او فى «مياومة.. هايكو عامل معاصر» فالكتابة عند محمد فرج مرتبطة بالتوتر وتعرية العالم وفضحه من خلال بناء عالم يتسم بغرابة تركيبه.
 
إننا دائمًا إزاء أشخاص يعرفهم الراوى منذ زمن طويل إلا أن وجوههم تحولت «والفتحات على جانبيه كأنه وجه ماعز» (نضج، ٢١). يستسلم الراوى لمثل هذا الاستنساخ «ونظفت فتحات أنفى الجانبية جيدا، وذهبت للنوم» (نضج، ٢١).

واقع كافكاوى فيه أطفال يجلسون على كراس متحركة.. «بلا ذراع، وبلا ذراع وساق، وبنصف ذراع ونصف ساق. مكان الأطراف المبتورة لفائف كبيرة من الضمادات متسخة وبها آثار دم» (لعب، ٤٧)، بُترت أطرافهم كنوع من العقاب لأنهم كانوا يلعبون «وكما يقولون لكننا لعبنا أكثر من اللازم» (لعب، ٥٠).

فى قصة أخرى يعمل السارد كموزع رؤوس «مهمته استلام الرؤوس المقطوعة وإلقائها بجوار أقسام ونقاط تفتيش الشرطة» (عمل، ٦٣). ونكتشف فى هذا العالم الذى قد يبدو غرائبيًا.. «بعد قليل، خيم العنف على كل مناطق البلاد، حتى صارت حوادث القتل أمرًا يوميًا لا يلفت الانتباه» (عمل، ٦٤)، أن «تلك هى طبيعة الأمور أصلًا» (طبيعة ٣٥)، ويعترف الراوى أنه هو الذى لم ينتبه لتشوه العالم من قبل.
 
هذا الخلل الذى أصاب عالم الراوى (وعالمنا) يشعره كأنه فى حال الحي/الميت فى آن واحد «الآن صرت أكثر راحة وخفة، انزاح كل شى بعيداً، أنا الآن ميت.» (راحة، ١٢)، كأنه « الجثة الملقاة داخل الحفرة العميقة المظلمة» (دوران، ٧٤).
 
وإذا كان الراوى يرى نفسه فى نهاية المطاف ميت فى الحفرة المظلمة فهو أيضًا واقف على حافة الحفرة لا يمكنه انتشال نفسه من داخلها ولا يفعل شيئًا سوى الدوران المستمر. يتأكد السارد من هذه المفارقة فيؤكد «سألت نفسى كثيرًا هل أستطيع أن أحكى حكاية الجثة وصاحبها الدائر على حافة الهوة، بدلًا من وصف المنظر. اتخذ هذا الوصف مع السنين أشكالًا كثيرة لكن جوهره لا يتغير، ومع تجدده يصبح أكثر إملالًا.» (دوران، ٧٥).

تحركات مجهضة
يتساءل الراوى فى نهاية المجموعة كيف يطرأ التغيير فى وضعنا؟ فيقترح الحركة وذلك بغرض إثارة المزيد من الغبار كى لا نستطيع الرؤية حتى لا «نلف فقط فى نفس الدوائر التى درناها من قبل» (نضج، ١٨) وحتى لا نشعر بالثقل فى داخلنا.

ثم يؤكد الراوى فإن النشوة الحقيقية ستتحقق عندما نتمكن من فهم ما فى الخارج والشعور بالقدرة على فعل شيء ما حتى مع عدم معرفة ما هو. ولكن يكتشف أنه عاش حياته متوجهًا إلى الخارج بغرض الامتلاء به، لأن الداخل خاو وفارغ، كى يتمكن من الولوج للداخل، ولكن تفشل تلك الحركة.. «اندفعت لمزيد من الركض نحو الخارج، إلى المزيد من التجارب التى أقول لنفسى أنها ستشعرنى بالامتلاء، لكن هذا لم يحدث أبدا.» (دوران، ٧٣).

أحب أن أصف الراوى بـ«المتمرد» لكنه براغماتى واقعى أيضًا، وهو ساخر حنون يشفق على العالم ويريد أن يخلق علاقات إنسانية عميقة، كما أنه مثقل بمعرفة شمولية للعالم، له نوايا حسنة تجاه تغيير العالم، على الرغم من الاضطرابات الماضية والصراعات الداخلية التى كثيرًا ما وجهت سلوكه وشكلت عيوبه. 

يعلم الراوى أنه لا يستطيع العودة إلى تجاهل عبثية العالم، وقبحه والخلل الذى أصابه وهذا إحساس مؤلم.  فيرغب من التحرر من هذا العبء، غير أنه لا يريد أن يتخلى عما يعرفه، فقد أصبح الآن يحدد طبيعته. المفارقة إذن تكمن فى حقيقة أنه يعلم بهذا الخلل والذى لا رجعة فيه، ولكنه سيحاول تغييره. 

تنتهى المجموعة بنبرة تفاؤلية يسيطر عليها صيغة المستقبل حيث يتنبأ فيها الراوي.. «ستكون الشمس رفيقة رقيقة تحبك بشكل خاص، تدفئك أحيانًا، وتخرج منك سيول من العرق فى أوقات أخرى، حينًا تغسلك وحينًا تضمك من البرد. عندما ترفع عيناك للسحاب سيرسم لك أشكالًا لم يكونها لأحد من قبلك، سترى مساحة زرقاء وكتلًا لا تشبه شيئًا تعرفه، ولكنها تملؤك بالطمأنينة.» (اغنية ريثما يمتلئ البيت بالغاز،٨٧).

وعندما يأتى هذا اليوم سيتوقف الراوى عن الخوف من الكلاب «أخرجهم واحدًا واحدًا من داخلى وسيمشون بجواري… وسيصبحون كلهم أصدقائي» (٨٨)، وستكون الأمور أكثر خفة والافعال ستكسب معانى جديدة كما يؤكد الراوى فى النهاية ويوصينا أن نستقبل الحياة بخفة وارتياح.. «أما الآن فتنفس جيدًا، بعمق، وحاول أن تنام.» (٨٩).