من بغداد إلى القاهرة مدن وخلفاء

من بغداد إلى القاهرة  مدن وخلفاء
من بغداد إلى القاهرة مدن وخلفاء

تأسست دراسة التمدن أو التحضر الإسلامى على افتراض أن المدن الإسلامية عبارة عن كيانات قائمة بذاتها تشكل مجتمعًا متميرًا وثقافة تختلف اختلافًا جذريًا عن ثقافة مدن الحضارات الأخرى. وقد قدَّم علماء الاستشراق فى القرن التاسع عشر مفهوما محددًا للمدينة الإسلامية واستمر هذا المفهوم (هو مفهوم قائم على الاعتقاد بأن العنصر الإسلامى كان له تأثير كبير على التطور العمرانى لمدن الشرق الأوسط) يحتل مكانة متميزة فى مجال الدراسات التاريخية  العمرانية لمدة طويلة.

بدأ الإسلام كدين جديد فى بداية القرن السابع الميلادى فى شبه الجزيرة العربية. وبحلول نهاية القرن الثامن كانت الإمبراطورية الإسلامية قد امتدت وتوسعت حتى وصلت إلى الهند وحدود الصين فى الشرق والمغرب وشبه جزيرة أيبريا فى الغرب.

ففى البداية لم تحقق الهيمنة الإسلامية أية تعديلات جوهرية على المدن والبلدات التى دخلتها أوفتحتها ولكنها أدخلت مجموعة متنوعة من الاجتهادات والاستعمالات الجديدة فيها.

وقد دفع تنوع الظروف فى المناطق الإسلامية المختلفة العديد من الباحثين الأوائل إلى التشكيك فى وجود مدن إسلامية ذات تراث وخصائص مشتركة.

وفى الواقع لم تكن الإمبراطورية الإسلامية الكبيرة كيانًا متجانسًا فقد تضمنت شعوب مختلفة ذات حضارات أصلية مختلفة ونظم اقتصادية مختلفة وموروث ثقافى مختلف وظروف مناخية وجغرافية مختلفة ومتطلبات دفاعية استراتيجية مختلفة.

وقد يبدو الأمر نتيجة لذلك أنه لا يمكن لأى مدينة ذات طابع أو هيكل أو شكل موحد أن تتطور فى ظل أيدولوجية إسلامية. ولكن هناك إدراكًا متزايدًا أن المدن العربية الإسلامية تشترك فى العديد من الخصائص بخلاف حقيقة أن سكانها لديهم دين واحد مشترك إذ إن هناك روابط وظيفية وقيم مشتركة ونظم موحدة ميزّت تلك المدن عن غيرها. وقد ظل مفهوم المدينة الإسلامية ‏مسيطرًا على أذهان دارسي العمران لمدة تزيد عن قرن من الزمن لكنه نال مؤخرًا نصيبه العادل من الاهتمام من الكتَّاب فى تخصصات متعددة ‏بما في ذلك بعض الدراسات التى قمت بها. وكان تطور هذا المفهوم موازيًا لتطور وصف الخصائص المادية للمدينة الإسلامية النموذجية فهي مدينة ذات توجه داخلى حيث يوجد فى مركزها المسجد الجامع (الذى تُؤدى فيه صلاة الجمعة) والسوق التجاري. وقد كانت المدينة مكونة من شبكة شوارع ضيقة غير منتظمة تؤدى إلى أحياء سكنية أو حارات منفصلة عن بعضها وفى مكان ما توجد على مشارفها قلعة للدفاع عنها. وأصبح هذا التصور هو الشكل النمطى للمدينة ‏على الرغم من أنه تصور نتج عن دراسات المستشرقين الأوائل في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين. ‏وحتى نستطيع أن نسرد قصة أي مدينة عربية إسلامية يجب أن أعود إلى نقطة البداية.



رفض الخلفاء العرب فى الأيام الأولى للإسلام الاندماج مع الشعوب ‏المحلية في المناطق التي فتحوها أو احتلوها وقد بنوا مدنًا تشبه إلى حد كبير المدينة المنورة، وهي أول مدينة يمكن أن نطلق عليها اسم مدينة عربية إسلامية. كانت هذه المدن مثل البصّرة والكوفة عبارة عن حاميات عسكرية ‏ومستوطنات جديدة كأماكن سكنى وتهجير للمستوطنين ‏القادمين من الجزيرة العربية. نتج الشكل العمرانى العام ‏لهذه المستوطنات عن عملية تفاوض بين الخليفة فى المدينة المنورة -الذي كان مهتمًا بفرض المثل العليا الإسلامية للمجتمع- ووالي المستوطنة المنوط بالحكم المحلى. كان التنظيم الداخلى لهذه المدن نتاج سلسلة أخرى من المفاوضات بين السكان وبين الحاكم الذي كان عليه التعامل مع احتياجات السكان المحليين اليومية. مثًّل هذا الشكل المبكر لمدينة الحامية بعض المبادئ الإسلامية الممزوجة ببعض التقاليد القبلية للعرب البدو. ‏وقد ناقشت بعض الدراسات أن ‏الشكل العمراني لهذه المستوطنات التي نمت إلى مدن تشكل بالإرادة الفردية لحاكمها أكثر من أى مبدأ دينى إسلامى أو منطق إدارى محلى.



وفى نفس الوقت الذى جرى فيه بناء مدن المعسكرات، كان العرب المسلمون يسيطرون على البلدات القائمة والقديمة الموجودة والتي تعود للحضارات ‏الساسانية والبيزنطية ‏مثل قطيسفون ودمشق وحلب.  يبدو أن تحول هذه البلدات التى كانت مدن جيدة الآداء ومتطورة قبل الحكم الإسلامى قد اتبع نمطًا مختلفًا ومنتظمًا يعبر عن برنامج غير واعٍ وضعه الخلفاء والولاه لتحقيق «أسلمة» المدينة وتعديل نسيجها العمرانى ‏ليناسب نظام الحكم الجديد. غير أن التغيرات العمرانية التى أعقبت ذلك لم تكن ممثلة لأي أيديولوجية إسلامية، بل كانت انعكاسًا للطبيعة القبلية للعرب وتغير عقلياتهم عند احتكاكهم بالحضارات القديمة فى المنطقة. عكست التغييرات فى شكل المدن القائمة مثل دمشق وقرطبة إدراك الخلفاء العرب أن بقاء وازدهار إمبراطوريتهم الجديدة سيستلزم تشجيع بعض الممارسات غير الإسلامية مثل بناء النصب التذكارية والمبانى التى تعبر عن إسراف زائد.

اقرأ أيضاً | محمد سليم شوشة: خاتم سليمي رواية عن الحب والإرهاب وتزاوج الحضارات
ظهرت مدن عواصم الخلافة مثل بغداد والقاهرة نتيجة لرؤية ولأعمال مستقلة قام بها الخلفاء ومنفذى خططهم وكانت معظم هذه المدن عبارة عن تعابير رمزية عن السلطة الدينية والسياسية للخلفاء. وقد أدت أشكال هذه النوعية من المدن إلى ترسيخ مفهوم السلطة السياسية الدينية المجسدة فى نظام الخلافة وفى شخص الخليفة. ولكي نفهم ونتحقق من هذه الفرضية يتعين علينا أن نضعها فى سياقها التاريخى. ففى منتصف القرن الثامن الميلادى كان حكم الأمويين فى طريقه إلى الانهيار. وعندما تولى مروان الثانى الخلافة فى 126هـ/744م كانت الإمبراطورية الأموية الممتدة فى ذلك الوقت من المحيط الأطلسى إلى الهند تعاني من مشاكل لا حصر لها.  كان من بينها الخلافات المستمرة بين الأسرة الأموية وأعدائها اللدودين العلويين والخوارج من زمن التحكيم والفتنة الكبرى وكذلك استياء وسخط كبير من المسلمين غير العرب على حكم الأمويين المتعصب للعرب من وجهة نظرهم. 

كان المسلمون قد انقسموا بعد الحرب الأهلية بين على بن أبى طالب ومعاوية بن أبى سفيان إلى قسمين: أتباع الأمويين الذين كانوا يدعون أهل السنة من جهة والعلويون أو أنصار على بن أبى طالب الذين عُرفوا فيما بعد بالشيعة من جهة أخرى. أعلن الشيعة بوضوح معارضتهم لشرعية الخلافة الأموية. ومما زاد من تعقيد المشاكل ظهور مجموعات أخرى: مثل الخوارج المتشددون الذين حاولوا فى ذلك الوقت توطيد حكمهم فى شمال إفريقيا، والعباسيين من قبيلة قريش المكية أقارب النبى والذين ادعوا أنهم الأحق بالخلافة. 





 بدأت الثورة ضد الأمويين فى بلاد فارس لأنهم حرموا أعدادًا كبيرة من الذين اعتنقوا الإسلام فى هذه المنطقة من حق الإعفاء من الضرائب المطلوبة من غير المسلمين. تحالف المتمردون مع العباسيين تحت قيادة أبو مسلم الخراسانى الذي آلت إليه زعامة هؤلاء الساخطين من الفرس بسبب تعصب الأمويين للعرب واستبعاد الفرس المسلمين من مناصب الدولة التى احتكرها العرب. أنشأ ابو مسلم مقر قيادة حركته فى “مرو” ومنها زحف إلى الكوفة واحتلها فى 131هـ/749م. اغتنم عبد الله بن محمد بن أبو العباس قائد العباسيين الذي اشتهر بلقب السفاح الفرصة وأعلن نفسه الخليفة الشرعى فى العراق مما أثار استياء بعض أنصاره الشيعة الذين كانوا يرغبون فى خليفة من سلالة على بن أبى طالب.


بعد بضعة أشهر هُزِم الخليفة الأموى وقامت قوات العباسيين باحتلال دمشق وذبحوا عائلة الأمويين وطاردوا مروان الثانى آخر خليفة لهم الذى فر إلى مصر حيث اغتالوه فى مدينة أبى صير فكان آخر خلفاء بنى أمية فى الشام. تحولت الإمبراطورية الاسلامية التى كانت تتجه غربا على طول البحر الابيض المتوسط ‏في زمن الأمويين إلى الشرق لإعادة تأسيس نفسها ‏على أيدي العباسيين. 

انطلق العباسيون بسرعة لإقامة إمبراطورية ذات إدارة مركزية فعالة بمساعدة الفرس ذوى الخبرة فى هذه الأمور. كما نقلوا مركز السلطة ومقر الحكومة شرقًا من دمشق إلى هاشمية الأنبار على مشارف الكوفة وبذلك فقدت الجزيرة العربية وبلاد الشام مكانتهما وأصبحتا خارج الصورة.  

العباسيون والعاصمة الجديدة

 لم يحكم السفاح الخليفة العباسى الأول فترة طويلة ولم يستمتع بانتصاره. وعندما مات فى 136هـ/754م خلفه شقيقه أبو جعفر المنصور. ولعدم ثقته فى سكان الكوفة أراد المنصور الإقامة فى مكان أكثر قربًا من بلاد فارس التى كانت قاعدة دعمه الرئيسية كما أقنعته تعرضه لمحاولة اغتيال بواسطة الرواندية -وهي طائفة شيعية متطرفة فى الكوفة- بالحاجة إلى الرحيل منها وإنشاء عاصمة جديدة. ويروى الطبرى أن المنصور لم يكن لديه أي نية لترك اختيار مكان مدينته الجديدة  للظروف.  فاضطلع بمهمة تحديد الموقع الجديد للمدينة بنفسه. وتطلب الأمر حوالى أربعة سنوات حتى تم تحديد مكان الموقع والبدء فى بناء المبانى الرئيسية بداخله سنة 145هـ/ 762م.

واتجه المنصور أثناء بحثه عن مكان للمدينة الجديدة شمالًا حتى وصل إلى الموصل دون أن يجد أى موقع يرضيه. ولكن جذب انتباهه موقعين: الأول كان موقع قرية جرجرايا على نهر دجلة بالقرب من المدينة التوأم القديمة سلوقية وقطيسفون عاصمة الدولة الساسانية. والثانى هو موقع قرية بغداد التى تقع عند نقطة التقاء قناة الصراة القديمة مع نهر دجلة.

وقدَّم المؤرخون مجموعة متنوعة من الأسباب لاختيار المنصور لموقع بغداد. قد لا ترقى بعض هذه الحقائق والتفسيرات إلى المصداقية التاريخية المقبولة البعيدة عن الأساطير. ولكن إذا كانت هذه الوقائع صحيحة فإنها قد تكون مؤشرًا على شخصية المنصور المعقدة. وإن كان أحد أهم أسباب اختيار الموقع هو ملاءمته المناخية. وبعد أن قرر المنصور تخصيص منطقة معينة يكون للعاصمة الجديدة فيها موقعًا مركزيًا. قام باستدعاء رؤساء القرى والأديرة المسيحية الموجودة فى المنطقة واستفسر منهم عن خصائص الموقع فيما يتعلق بالحرارة والبرد والمطر والطين والبعوض. ولم يرض المنصور عما قاله الرؤساء فأعطى الأوامر إلى مختلف أعضاء حاشيته للذهاب إلى تلك القرى وقضاء الليل هناك وتقديم تقرير مفصل عن تجربتهم وبعد مراجعة هذه التقارير اختار المنصور موقع بغداد. لكن يبدو أيضًا أن من أسباب اختيار هذا الموقع أنه كان مكان التقاء طرق القوافل فى السهل الخصيب مع شبكة من قنوات المياه وهو خيارًا منطقيًا. ولكن كل هذه العوامل الوظيفية لا ينبغى أن تجعلنا نستبعد بعض الروايات الأخرى المتعلقة باختيار الموقع رغم أنها قد تصنف على أنها أساطير أو خرافات. 


تتعلق إحدى هذه القصص التى جرى سردها فى أكثر من مرجع تاريخى مع بعض التباين بحادث وقع أثناء البحث عن موقع العاصمة من قبل أحد المرافقين للخليفة الذي تخلّف عن الرحيل مع الخليفة وأجبر على البقاء وراءه بسبب المرض. قام الطبيب الذي كان راهبًا فى أحد الاديرة الموجودة فى المنطقة بمعالجته. وأشار الطبيب إلى نبوءة محلية تقول إن رجلًا يدعى مقلاص سيبنى مدينة رائعة على موقع بين دجلة وقناة الصراة. وكان المغزى الضمنى من كلام الطبيب للمرافق هو أن المنصور يهدر وقته فى البحث عن موقع للمدينة فى هذا المكان لأن اسمه ليس مقلاص.  وعندما علم الخليفة بالقصة ذكر أنه تأثر كثيرًا بها لأنه فى طفولته كان يُطلق عليه بالفعل هذا الاسم. ويبدو أن هذا قد أضاف إلى تصميمه على اختيار موقع بغداد. خلص جاكوب لاسنر الذى درس هذه الواقعة إلى أن العديد من المؤرخين قد استشهدوا بالقصة ليس فقط لأنها تحقق النبؤات القديمة ولكن أيضًا لأنها قدمت دليلًا على شرعية حكم المنصور.  


تخطيط بغداد وعملية البناء

بدأ المنصور على الفور فى البناء فى الموقع المحدد بعد التشاور مع المنجمين. جمع المهندسين والبنائين والمساحين من أجزاء عديدة من الإمبراطورية ووصف لهم خطته لمدينة ذات شكل دائرى مع قصره ومسجده فى مركزها. تتراوح تقديرات حجم المدينة من نصف مليون إلى 6.4 مليون ذراع مربع. ومع ذلك يبدو أن معظم المؤرخين يقبلوا تقريرًا زعموا أنه مرتبط بمهندس اسمه رباح باعتبار أنه هو الذى بنى سور المدينة والذي أعطى قياسًا للمحيط الذي يترجم إلى قطر مدينة يبلغ ما بين 750 إلى 2700 ذراع أى حوالى 345 الى 1240 مترًا.

ولكننا فى الواقع لا نعرف إلا القليل عن كيفية تصور خطة بغداد وما إذا كان قد تم رسمها قبل بنائها. يذكر اليعقوبى أن فكرة مخطط المدينة ربما نشأت فى عهد السفاح وبما أنه لم يعط تفاصيل ولم يستخدم كلمة اختطاط فمن الصعب علينا أخذ هذه المعلومة بجدية لفهم خطة بغداد. ويوضح الطبرى أن المنصور أراد أن يتخيل شكل المدينة إذا تم بناؤها فأمر بتوقيع الخطة على الأرض بخطوط من الرماد. ثم دخل المدينة المرسومة على الأرض من بواباتها وتجول فيها وعند وصوله إلى المركز أمر بوضع بذور القطن المشبعة بسائل قابل للاشتعال على الخطوط الموقعة وإضرم النار فيها. ومن المفترض أن هذا مكن الخليفة من رؤية شكل مدينته وحجمها قبل بنائها. وبحسب الطبرى فإن الخليفة قد أمر بعد ذلك باختيار مجموعة من الرجال الشرفاء والمخلصين ذوي المعرفة بالهندسة والزعماء الدينيين من ذوي العدالة والفقه للمشاركة فى بناء المدينة. ويشير استخدام الطبرى لكلمة هندسة هنا إلى رغبة المنصور فى إضفاء الشرعية الدينية على أعمال البناء التى قام بها من خلال ضم علماء الدين لفريق المعماريين والمهندسين. ومن بين الذين طلب منهم المنصور المشاركة فى البناء كان أبو حنيفة الفقيه الشهير ومؤسس المذهب الحنفى الذي يبدو أنه قبل المهمة على مضض.


لم يتم بناء بغداد بطريقة سلسة فى أول الأمر واضطر المنصور إلى إيقاف العمل عدة مرات لقمع تمرد فى المدينة المنورة وسحق انتفاضة العلويين فى الكوفة. وعندما جرى استئناف العمل بدأ البحث عن مواد للبناء لتعويض كميات الخشب والمعدن والمعدات التى كان قد تم حرقها عن قصد خوفًا من أن ينتصر العلويون فى الحرب ويستولوا على الموقع.

كما كان معتادًا فى ذلك العصر قررَّ المنصور استخدام مواد البناء بالاعتماد على أنقاض قصر ساسانى قديم موجود بين المدائن وقطسيفون وعندما استشار المنصور وزيره خالد بن برمك كان رأى الأخير هو أن الحفاظ على أطلال القصر الساساني أفضل لأنه يقف تذكرة بانتصار المسلمين على الفرس. لكن لم يلتفت الخليفة لهذا الرأى لأنه اعتبر أن مشاعر الوزير قد تكون موالية للفرس نظرًا لأصله الفارسى.  وبعد البدء فى عملية رفع الأنقاض ثبت أن المشروع غير اقتصادى حيث كانت تكاليف الهدم والنقل باهظة فتخلى المنصور عن الهدم. واعترض خالد بن برمك مرة أخرى على هذا الرأي بعكس رأيه السابق ليجادل بأن التخلى عن هدم القصر بعد البدء فيه سيقلل من وضع الخليفة فى عيون رعاياه ويظهر كاعتراف بعدم قدرته على محو رموز الحكم الساساني.
   
لم تكشف الحفريات فى الموقع المفترض لبغداد عن الكثير ولذلك فإن جميع المناقشات حول خطتها تعتمد على الأوصاف المذكورة فى كتب البغدادى والطبرى واليعقوبي. فمن هذه المصادر نعلم أن مدينة بغداد كانت مقسمة إلى ثلاث مناطق متحدة المركز. كانت الرحبة أو المساحة الرئيسية التى يوجد فيها قصر الخليفة والمسجد الجامع وبعض المبانى الثانوية الأخرى كلها تقع فى المركز. أما المنطقة الثانية أو الحلقة الوسطى المحيطة بالرحبة كانت تحتوي على قصور لأبناء المنصور وبعض الابنية الحكومية. أما الحلقة الثالثة الخارجية فكانت تحتوي على مساكن لقادة جيش الخليفة ومساكن لبعض الجنود. كانت المدينة مسورة ولها أربع بوابات رئيسية لكل منها شارع مقوّس يربطها بالرحبة وبالتالى يقسم المدينة إلى أربعة أرباع. فى كل ربع خصص المنصور منطقة للمحلات والأسواق وأصدر تعليمات للمهندسين بان يكون عرض الشارع خمسين ذراعا (26 مترًا) وعرض الممرات ستة عشر ذراعا (8 أمتار).   قبل الانتهاء من البناء تم نقل الأسواق إلى الأروقة الأربعة التى تصل البوابات بالرحبة. ووفقًا لكريسويل كانت المدينة محاطة من الخارج بخندق تعبره أربعة مداخل منحنية شكلَّت بوابات المدينة التى حملت بدورها أسماء المدن التى واجهتها جغرافيًا.


 

أطلق المنصور على مدينته اسم “مدينة السلام” وهناك العديد من التفسيرات حول الأسباب الكامنة وراء تسمية المدينة بهذا الاسم والذي غالبًا ما تم استخدامه مقرونًا مع اسمها العام بغداد.  يستعرض لاسنر فى كتابه عن قيام الدولة العباسية جميع النظريات المختلفة حول الشكل الدائرى للمدينة. وينظر إلى هذا الشكل على أنه إعادة تمثيل لنظام الكون. يرى أنصار هذا الرأى الخطة على أنها شكل طوباوى أو “مندلا” إسلامية بمعنى أنها تمثيل رمزى لشكل الكون مشتق من تصورات فارسية وهندية كانت معروفة فى المنطقة قبل الإسلام.


على الرغم من أن لاسنر يحذرنا من هذا التصور إلا أنه لا يرفضه، بل يلفت الانتباه إلى العديد من العوامل التى ناقشها آخرون أيضًا لشكل خطة المدينة والتى من بينها خوف المنصور على سلامته الشخصية الأمر الذى دفعه إلى إعادة التفكير فى عزل نفسه فى الوسط وإحاطة قصره بمساحة مفتوحة يسيطر عليها حراسه، أو -ربما- لأن الشكل الدائرى هو الأكثر ملاءمة لأغراض الدفاع. كما كان يُنظر أيضًا إلى الشكل الدائرى على أنه شكل متوازن لأنه يسمح لأجزاء مختلفة من المدينة بالتواجد على مسافة متساوية من القصر وبالتالى من الخليفة. ولكن التفسير الأرجح لاستعمال الشكل الدائرى هو أن المنصور اتبع ببساطة نهج الإمبراطورية الساسانية القديمة فى بناء معسكرات الجنود وفقًا لشكل دائرى؛ ولذلك فإننا لا نرفض فكرة التصور الكونى كمصدر إلهام لشكل المدينة كما جادل بعض العلماء المعاصرين. ولكننا نقترح أنه يجب رؤية هذا التصور فى سياق معرفة العرب وقبولهم للعديد من الممارسات والمفاهيم الفارسية والرومانية.  ربما كانت بغداد بالنسبة للمنصور فى أول عهده تمثل ببساطة قصرًا إمبراطوريًا سيحكم منه فقط.

العناصر الرئيسية للمدينة

كانت العناصر التى تشكل مدينة السلام متميزة إلى حد ما وتضمنت القصر الرئيسى والمسجد الجامع وعدد قليل من المبانى العامة وعدد قليل من القصور الأصغر وعدد قليل من الأسواق المتناثرة ومنطقة متحدة المركز من الأحياء السكنية.

واحتل القصر وسط المدينة وكان يسمى قصر باب الذهب وهو عبارة عن مبنى مربع الشكل طول ضلعه 400 ذراع (184 متر). داخل هذا القصر كان هناك إيوان على شكل قبو يشرف على قاعة مجلس الخليفة والتى كانت مغطاة بدورها بقبة خضراء بارتفاع 80 ذراع (36 مترًا) تذكرنا بقصر معاوية فى دمشق. كان المسجد مُلحق بالقصر ويحتل مساحة لا تزيد عن ربع مساحة القصر وكان هيكله الأصلى مصنوعًا من الطوب المجفف بالشمس والمثبت بالطين وسقفه مدعم على أعمدة خشبية.

أما خطة المسجد فقد كانت بسيطة للغاية وتتبع نموذج المسجد الأول فى المدينة المنورة الذي يحتوي على ساحة مركزية. وفى السنوات اللاحقة عندما زاد عدد المصلين جرى توسيع المسجد بإضافة ساحة أخرى ومنشآت محيطة بها. وهناك العديد من النظريات حول كيفية تحقيق ذلك لكن معظمها يتفق على أن التوسع تم من خلال الاستيلاء على جزء من القصر أو جزء من مبنى مجاور ملحق بالقصر كان يسمى دار القطان. وقد حاول كل من هرتسفيلد وكريسويل ولاسنر بطرق مختلفة توصيف العلاقة بين المسجد والقصر.

وبغض النظر عن توجهاتهم فانه يبدو أن المسجد والقصر ربما لم يتم تصورهما فى البداية كمجمع واحد كما اقترح العديد من الباحثين ولكن المسجد كان ببساطة مبنى مضاف إلى القصر من البداية وكان يعتبر أقل أهمية من القصر.

كما ذكرنا يقع المسجد والقصر فى وسط الرحبة أو الساحة المفتوحة الكبيرة.  وأحاط بهما عدد قليل من المنازل التى بناها المنصور لأبنائه وقادة الجيش. ويبدو أن هذا قد شكل حلقة داخلية حول مركز المدينة. أما الحلقة الخارجية فقد احتوت على الأحياء السكنية المذكورة سابقًا وكانت الأروقة المقببة تصل بين البوابة الرئيسية ومنطقة القصر ولكنها تحولَّت الى أسواق قبل الانتهاء من بناء المدينة  .

ويذكر اليعقوبى أنه تم تقسيم الأرباع الموجودة داخل الحلقة الخارجية إلى سكك أو ممرات وتم تعيين كل سكة كمقر لأحد قادة الجيش وجنوده كما تم إغلاق طرفى كل سكة وتزويدهما بأبواب تغلق فى الليل وتفتح فى الصباح على الشارع الدائري. ويصف البغدادى المنازل فى هذه السكك بأنها ملتصقة ببعضها البعض. يعتبر تنظيم هذه العناصر المختلفة فى الخطة أمر بالغ الأهمية لفهم رمزيتها. وربما لا تكمن أهمية بغداد الحقيقية فى طبيعتها العمرانية بقدر ما تكمن فى الأفكار التى انتجت هذا الشكل العمرانى.  كانت القبة الخضراء فى المنتصف رمزية للغاية وعلى الرغم من أن لونها واسمها لم يكن مبتكرًا لأنهما وجدا منذ العصر الأموى كرمز يدل على سلطة الخليفة الإمبراطورية. 



ويخضع تنظيم وشكل العناصر المختلفة فى الموقع لمجموعة متنوعة من التفسيرات. فعلى سبيل المثال وضع ليسترنج داخل كتابه عن بغداد فى العصر العباسى -الذي نشر فى عام 1900- المسجد إلى الجنوب الشرقى من القصر ووزع المبانى المهمة والعامة المختلفة فى المساحة المركزية. لكن بعد بضع سنوات وضع هرتسفيلد تصورًا آخر يقع فيه المسجد جنوب غرب القصر بحجة أن التجديد التى حدث فيه وفى القصر فيما بعد كان يمكن أن يحدث فقط إذا كان المسجد يقع على هذا الجانب. واقترح كريسويل مستشهدًا بعدة سوابق هو أن الخليفة أو الأمير كانا لهما طريق مباشر من القصر إلى مقصورة المسجد وأن المسجد كان ملاصقًا للقصر من الجانب الشمالى الشرقى مما يجعل جداره على اتصال مباشر وملاصق للقصر. ونظرًا لأن هذا هو الحال أيضًا فى الكوفة والبصرة ودمشق فإن تصور كريسويل يكتسب المزيد من الشرعية وقد تبنى هذا التصور معظم الباحثين فى هذا الموضوع. إلا أن تصور لانسر للمدينة يعتبر أكثر دقة حيث إنه توصل من خلال الفحص المقارن للأوصاف الواردة فى سجلات الأحداث عن الحلقة الداخلية إلى خلاصة مفادها أنه لا يوجد سوى مبنيين أخريين ذوى وظيفة أمنية داخل الرحبة. وبغض النظر عن هذه الاختلافات فى وضع عناصر خطة مدينة بغداد فإن المهم فى الخطة المتصورة هو فكرة المركزية والشكل الدائرى الذي حولَّ هذا المجمع المكانى الذي تم تخطيطه بعناية ليكون عبارة عن محاولة غير واعية أو مقصودة لجعل الكيان العمرانى رمزًا إلى السيطرة الكاملة والشرعية السياسية الروحية للخليفة.


بغداد.. تغييرات آنية فى الشكل العمرانى
    
بدأ الشكل الدائرى لمدينة المنصور يتغير تدريجيًا حتى قبل انتهاء المرحلة الأولى من البناء، ولكن المدينة الدائرية حافظت على جزء من شكلها لبضع سنوات بعد ذلك. 
يميز اليعقوبى بوضوح فى وصفه تنظيم أحياء المدينة بين الجماعات التى تعيش داخل سورها وأولئك الذين يعيشون خارجها. ويذكر أن المنصور أعطى أوامر بتخطيط السكك أو الشوارع والدروب الممتدة من المدينة إلى هذه الأرباض. ثم منح المنصور العديد من تلك المناطق لأقاربه أو قادة جيشه ولجماعات من السكان ذوي الأصول العرقية المحلية.




وتم تسمية هذه الأحياء وأرباعها أو حاراتها باسم الجماعات التى سكنت فيها. ويبدو أيضًا أن الكثير من هذه الممتلكات قد منحها المنصور على شكل إقطاعيات لأسر وأفراد معروفين. 

يبدأ اليعقوبى فى وصف التطور خارج السور من البوابات وهو يتحرك إلى الخارج مما يوضح صراحة أنه كان يصف منطقة موجودة خارج المدينة الدائرية. وعلى الرغم من أن بعض الباحثين قد فسروا ذلك على أنه الحلقة الخارجية للمدينة. إلا أن ذلك قد أدى إلى الاعتقاد بأن المدينة ليست سوى منطقة القصر بدلًا من كونها مدينة متكاملة. 
    
 من الصعب علينا هنا الحكم على طبيعة العلاقة الوظيفية بين المدينة الدائرية وما يحيط بها ولكن تتضح هذه العلاقة عندما ننظر إلى التغييرات التى حدثت فيما يتعلق بعناصر المدينة الأخرى مثل الأسواق والأحياء الإدارية وقصر الخلافة. لم يخطط المنصور فى البداية لإنشاء سوق مركزى به أسواق متخصصة فى مدينته. وحتى الأروقة الأربعة التى تؤدى من بوابات الجدار الخارجى إلى الرحبة والتى تم تخصيصها لاستيعاب الأسواق لم تكن كافية. ومن ضمن الأسباب التى أدت إلى هذا «الوضع» تزايد عدد السكان وزيادة دخلهم وزيادة قوتهم الشرائية وارتفاع مستوى معيشتهم وكذلك زيادة الطلب على العمال والحرفيين مما أدى إلى الحاجة إلى نقل الأسواق خارج المدينة الدائرية.

ويخبرنا الخطيب أنه فى عام 157هـ/773م أمر المنصور بنقل السوق إلى الكرخ وهى منطقة تقع جنوب المدينة ولكننا نجد اختلافات بين الطبرى والخطيب وياقوت فى سرد قصة بطريق من بطارقة الروم عندما جاء وافدًا ولفت نظر الخليفة إلى الخطر الذى يشكله قرب الأسواق من القصرإذ إقترح البطريق أن العدو قد يدخل المدينة تحت ستار ممارسة التجارة وأن التجار بدورهم يمكن أن ينقلوا معلومات حيوية عن أنشطة الخليفة إلى الاعداء. وقد اقتنع الخليفة باقتراح البطريق وأمر بنقل السوق فى محاولة منه لإزالة جميع الأنشطة العامة من المدينة.

وأصبح المنصور مقتنعًا بأن الترتيب المعمارى الذي تصوره أصلًا لم يكن بالضرورة فى مصلحته الأمنية المثلى ويبدو أن ضوضاء السوق أقنعته أيضًا بالحاجة إلى عزل نفسه أكثر وتخصيص الرحبة كمجال ملكى أو أميرى بحت.

وبناء على ذلك أعطى المنصور أوامر للسكان الذين يعيشون فى الحلقة الداخلية للمدينة لتحويل بوابات بيوتهم التى فتحت على الرحبة لتواجه السكة الخارجية بدلًا من الرحبة الداخلية وقد أعادت هذه التغييرات تعريف وظيفة مجمع القصر وهكذا أصبح نطاق الخليفة الخاص يشمل الساحة المركزية الكبرى ومقره ومسجده ومبانى حراسته.  وكما كان الحال من قبل لم يكن الوصول إلى هذه المنطقة متاحًا إلا عن طريق المرور عبرَّ نقاط التفتيش الأمنية الصارمة داخل الممرات الصغيرة المتفرعة من الأروقة. ويصبح من الصعب هنا تخيل العلاقات الوظيفية فى المدينة مع كل هذه القيود وكيفية عملها فلو سُمح للناس باستخدام المسجد لصلاة الجمعة لأن ذلك يشكل خرقًا نظرًا لرغبة المنصور المزعومة فى الأمن.

وهل كان السوق صغيرًا لدرجة أنه كان من الممكن نقله مرتين دون أى تداعيات أو اعتراضات؟ وكيف كان شعور سكان بغداد عندما اضطروا لمغادرة مدينتهم المسورة لشراء بعض بضائعهم اليومية من خارج المدينة؟ ستبقى العديد من هذه الأسئلة دون إجابة لأن مراجع التاريخ العربية رصدت أفعال الخليفة كوسيلة لتوثيق تاريخ المدينة أكثر من تركيزها على مشاعر السكان العاديين الذين عاشوا داخلها.

ملكية خاصة للخليفة

عندما أدرك المنصور فى النهاية عدم قدرته الكاملة فى السيطرة على المدينة المدورة وضمان أمنه الشخصى بدأ بنقل بعض قواته إلى الضفة الغربية لنهر دجلة إلى منطقة أصبحت تعرف باسم «الرصافة» قرب قصر بناه لابنه المهدي. من اللافت للانتباه أن المنصور بنى أيضًا مسجدين فى كلًا من ضاحتى المدينة الناميتين وهما؛ «الكرخ» التى استوعبت الأسواق فى الجنوب و«الرصافة» التى استوعبت قوات الجيش وقصر المهدى فى الشمال الشرقى وعلى ذلك أقيمت صلاة الجمعة فى المسجدين وأصبح مسجد الرصافة هوالمسجد الجامع وبذلك ضمن المنصور حشدًا أقل ووضعًا أكثر قابلية للسيطرة على الحشود.   

تخلى الخليفة عن كل شيء فى نهاية المطاف. ولكن الظروف التى أدت إلى تخليه عن المدينة الدائرية ليست واضحة وقد يكون تصوره للمدينة «كفخ» معمارى غير آمن كان وراء قراره ببناء قصرًا جديدًا له سماه قصر الخلد يقع على نهر دجلة شمال شرق بوابة خراسان. لم يكن قصر الخلد دار خلافة جديد، ولكنه كان جزء من حل وسط كان الخليفة يأمل من خلاله الاحتفاظ بالصورة الرسمية التى أنشأها قصر باب الذهب.  وعندما بدأت بعض المبانى الحكومية فى الظهور حول القصر الجديد انتهت إلى الأبد مركزية المجمع الحكومى الذي تم إنشاؤه فى المدينة المدورة.

ومن الطريف أن قصر الخلد أصبح بعد ذلك المقر الرسمى للعديد من الخلفاء العباسيين إذ كان من الواضح أن المدينة الدائرية لم تعد مدينة، بل مجرد حى فى بغداد الكبرى. كان تطور عمران هذه المنطقة يحدث بالتزامن مع مشاريع البناء التى أمرَّ بها الخليفة. يدعم التطور الكبير خارج المدينة الرأى القائل بأن بغداد الكبرى نمت من خارج المدينة المستديرة حيث بدأت العديد من الأحياء والضواحى المحيطة فى الازدهار حتى قبل الانتهاء من بناء المدينة الدائرية.




وبالفعل فقد تطورت المؤسسات الحضرية فى بغداد بالتوازى مع شكلها العمرانى. ومع ذلك فإننا لا نعرف سوى القليل عن تطور هذه المؤسسات ومنشآتها. شملت هذه المؤسسات ديوان المظالم والوزارة أو هيئة المستشارين وقاضى القضاة. ويبدو أن كل هذه المؤسسات كانت مرتبطة بوظائف الخلافة وبأنشطة بغداد كعاصمة للخلافة العباسية. تضمنت مؤسسات المدينة مناصب المحتسب وعامل السوق وصاحب الشرطة وشيوخ الطوائف وأصحاب الحرف وشيوخ الأحياء السكنية.

لم يكن هناك تمييز واضح فى بداية الأمر بين مؤسسات الخلافة ومؤسسات المدينة فكلاهما احتلا المبانى داخل المدينة ولا يبدو أن العلاقات بين هذين النوعين من المؤسسات كان لهما تأثير كبير على شكل المدينة. فعلى سبيل المثال عندما غادر المنصور المدينة الدائرية للإقامة فى قصر الخلد انتقلت معه بعض مؤسسات الخلافة.  واستمرت مؤسسات المدينة على الأقل لفترة من الوقت متركزة في وسط المدينة. كان لبغداد فى سنواتها الأولى مسجدها الجامع فى المدينة الدائرية وكان لها قاضى واحد فقط يعقد جلساته فى البداية داخل هذا المسجد.  وعلى الرغم من أنه كما رأينا تم إنشاء مساجد أخرى فى أجزاء مختلفة من المدينة إلا أن منصب القاضى ظل يحتفظ به قاضى واحد فقط فى المسجد الجامع حتى الجزء الأخير من القرن التاسع الميلادى.

ولابد أن المنصور قبل نهاية حكمه قد رأى أن بغداد التى تصورها كمدينة دائرية صغيرة والمسماة بمدينة السلام قد طورت لنفسها حياة خاصة بها. ولم تكن بغداد وحدها هى التى تغيرت إذ كانت الخلافة تتغير أيضًا وتحديدًا عندما رسخ الخلفاء أنفسهم كحكام مطلقين ولم يكونوا مستعدين لقبول أى نقد أو تحد لسلطتهم فى الحكم لأنهم اعتبروا ذلك حقًا إلهيًا. كان لهذا تأثير سلبي على الخلافة فيما بعد وبحلول نهاية القرن العاشر الميلادى قسمت معظم بلاد الخلافة العباسية بين الحكام والأمراء الذين أعلنوا استقلالهم عن بغداد. ومع ذلك فقد كان التهديد الحقيقى والمؤثر على شرعية الخلافة العباسية لا يزال ينمو فى أراضى شمال إفريقيا.

قيام الدولة الفاطمية وتخطيط القاهرة

كانت مصر ودول شمال أفريقيا من بين الأقاليم الأولى التى حصلت على نوع من الحكم الذاتى أو الانفصال التام عن الإمبراطورية العباسية التى كانت آيلة للسقوط مع قدوم القرن العاشر الميلادى. وصلت الحركة ضد الخلفاء العباسيين إلى ذروتها فى تونس عندما انفصل عبيد الله بن الحسين المهدى الذى زعم أنه من سلالة بنى هاشم عن الإمبراطورية العباسية وأسس خلافة شيعية جديدة سميت بالخلافة الفاطمية. 

كان الفاطميون عازمين على التحرك شرقًا لتحدى العباسيين. وبعد عدة محاولات جمعت حركتهم ما يكفى من القوة التى سمحت لهم بغزو مصر. اختار المعز لدين الله الخليفة الفاطمى الرابع  جوهر الصقلبي (الذي يوصف أحيانًا بالصقلى لأنه كان فى الأصل عبدًا مسيحيًا مجلوب من جزيرة صقلية) لقيادة قواته فى الحملة على الأراضى المصرية. كان الإخشيديون فى المقابل أثناء تلك الفترة يحكمون مصر حكم ذاتى ولكن يدينون بولاء رمزى للخليفة فى بغداد. وفى عام 358هـ/969م انتصر الفاطميون بسهولة على الإخشيديين واستولوا على مدينتى الفسطاط والقطائع وقد كانت الأخيرة عاصمة الإخشيديين.

بدأ جوهر فور وصوله مباشرة بالبحث عن موقع لتحصين قواته. وبحسب رواية واحدة على الأقل فقد حمل معه بعض التصورات حول بناء عاصمة جديدة تسمى «المنصورية” على اسم مدينة بناها والد المعز لدين الله فى تونس كان قد تخيلها المعز نفسه كمقر لخلافته ومنافسة لبغداد. اختار جوهر موقع المدينة الجديدة فى المكان الوحيد المتاح له إلى الشمال من المستوطنات القائمة وبدأ فى تنفيذ خطته المحددة سلفًا. كانت القاهرة (وهو الاسم الذى سيطلق فيما بعد على المدينة الجديدة) تتبع نفس النمط الموجود فى المدن السابقة التى أقيمت بمحاذاة  النيل. بدأ هذا النمط عام 640م عندما بنى عمرو بن العاص مسجده بالقرب من أنقاض حصن رومانى قديم وأنشأ شمال الحصن مسجد مدينة الفسطاط. وبعد ظهور الدولة العباسية فى وقت لاحق بنى العباسيون مدينة العسكر عام 750م شمال الفسطاط لإيواء العسكر التابع لهم. وعندما أعلن أحمد بن طولون عام 870م الاستقلال الذاتى لمصر عن الخلافة العباسية أسس مدينة القطائع كمقر لحكمه شمال مدينة العسكر. يتوافق اختيار جوهر لموقع القاهرة شمال القطائع على نفس المحور الموازى لنهر النيل الممتد بين الشمال والجنوب الذي ربط المدينة الجديدة بأسلافها. 

كانت الخطوة الأولى التى اتخذها جوهر هى بناء سور المدينة وتحديد البوابات والبدء فى تشييد المبنيين الرئيسيين: قصر الخليفة والمسجد. وتقول الأسطورة أنه فى الأيام التالية لعملية البناء ذهب وفد من زعماء الفسطاط للترحيب واستقبال جوهر الصقلى وقد جدوا أن أساس سور المدينة بأكمله قد تم حفره بالفعل. لكن لا تحتوى المراجع التاريخية والحوليات على أى ذكر لمعماريين أو بنائين قد شاركوا فى عملية البناء مما يدفعنا إلى الاعتقاد بأن جيش جوهر الصقلى كان يضم أفرادًا يمتلكون مثل هذه المهارات المتخصصة. يذكر المقريزى مؤرخ القاهرة الأكبر أن جوهر كان يخطط فى البداية للمدينة كمربع يساوى ضلعه 1200 ذراع. وقد حدد ذلك مساحة إجمالية تبلغ 340 فدانًا منها 70 فدانًا تم تخصيصها لقصر الخليفة و70 فدانًا أخرى للحدائق التى كانت موجودة بالفعل فى نفس المنطقة (البستان الكافوري) وساحات أو رحبات جديدة.  وتم تخصيص المساحة المتبقية على أنها خطط للعشرين مجموعة من القبائل التى كانت تشكل الجيش الفاطمى. 

تشاور جوهر مع المنجمين كما حدث فى بناء بغداد قبل تحديد موقع المدينة الجديدة أو تاريخ تنفيذ خطته. وتشير عدة مصادر إلى أن المدينة سميت فيما بعد «القاهرة» على اسم كوكب مشرق لاحظه المنجمون فى السماء فى تلك الليل. كما أفاد المقريزى أن جوهر بدأ فى تخطيط المدينة مساء يوم الجمعة فى شهر شعبان فى 358هـ/969م وأمر جنوده بالاستمرار بالعمل طوال الليل لأنه كان حريصًا على تنفيذ خططه ولكنه أدرك فى الصباح أن الخطة قد تم تنفيذها مع خطأ قد أدى إلى شكل مستطيل مشوه قليلًا وليس الشكل المربع المخطط له سلفًا. وقرر جوهر عدم تصحيح هذا الخطأ قائلًا إنه «تم وضعه فى ليلة مباركة وأن عدم انتظام شكل المدينة يجب أن يكون سببه منطق إلهي»

من غير المحتمل أنه أثناء التنفيذ كان يمكن أن تكون الخطة مشوهة لدرجة تغيير شكلها المربع الأصلى إلى مستطيل كما يعتقد بعض الباحثين. فالنسبة بين أضلاع المستطيل المنفذ كانت بنسبة 2: 3 وهي نسبة لا يحتمل تحقيقها نتيجة لخطأ ما. كانت الخطة الأصلية أيضًا موضع جدل كبير. ويعتقد مارسيل كليرجيه أن الخليفة المعز قد صمم المدينة بنفسه وزود جوهر بخطة دقيقة ذات أبعاد محددة ومقترحات للتنفيذ. كما اقترح سى جيه هاسويل فى وقت سابق أن خطة القاهرة قد تم تصورها على غرار المعسكرات الرومانية. واقترح باحثون آخرون أن الخطة كانت تهدف ببساطة إلى تكرار شكل المدن الفاطمية مثل المهدية أو المنصورية فى تونس. ولكن لن يمكننا إثبات هذه الافتراضات لأن خطة القاهرة المنفذة تبدو مختلفة إذا ما قورنت بالمهدية.

وسواء تم تصميم القاهرة على غرار معسكر رومانى أو بلدة من شمال إفريقية فقد بدأ جوهر إنشاء المدينة ببناء قصر ومسجد وسور من الطوب الطينى حولهما وسماها المنصورية. ويعتقد أيضًا أن معظم أبواب المدينة الجديدة قد سميت على أسماء أبواب المنصورية فى تونس مما يوفر دعمًا إضافيًا للرأى القائل بأن المدينة قد تم تصميمها على غرار نظيرتها فى شمال إفريقيا. بعد أربع سنوات من الفتح وصل الخليفة المعز إلى المدينة الجديدة وأعلنها عاصمة خلافته. ثم قام الخليفة بتغيير اسمها إلى القاهرة. وقد حرف المسافرون الإيطاليون الاسم لاحقًا إلى الكايرو والذي تحول اللغة الإنجليزية إلى «كايرو». 

كان الخليفة المعز لدين الله عازمًا منذ البداية على إنشاء عاصمة إمبراطورية جديدة ذات حس بالتاريخ لذلك أحضر معه من تونس ثلاثة توابيت تضم رفات أسلافه وأمر بدفنها فى موقع قريب من قصره كأنه أراد بهذا العمل أن يعطى مدينته الجديدة بعدًا تاريخيًا فوريًا له علاقة بالأسرة الفاطمية وادعائها بأنها سلالة محمدية.  قاد الخليفة أول صلاة عامة فور وصوله إلى المدينة وجعل القاهرة هي العاصمة الدينية والفكرية للعالم الإسلامى لقرون قادمة. تم حذف اسم الخليفة العباسى من جميع السجلات الرسمية ومنع ذكر اسمه فى خطب الجمعة وضربت عملة جديدة. وتغير لون العلم بدلًا من اللون الأسود وهو اللون الرسمى للعباسيين إلى اللون الأبيض. ولأول مرة منذ ألف عام أصبحت مصر دولة ذات سيادة برئاسة شخص واحد وهو الخليفة الفاطمى الذى كان قائدًا روحانيًا وسياسيًا لجميع الناس.

العناصر العمرانية للقاهرة الفاطمية

يحتل وصف المقريزى للعناصر العمرانية المختلفة التى تشكل المدينة الفاطمية الجديدة بضع مئات من الصفحات من كتب خصص جانب كبيرًا منها لوصف قصورها. وأضاف أن جوهر وقواته عسكروا جنوب الموقع الذي حدده للقاهرة وأنهم بدأوا على الفور فى بناء أسوار المدينة.  ويشير كذلك إلى أن جوهر بدأ فى نفس الوقت بناء القصر الرئيسى عام 358هـ/969م. ويبدو أن القصر كان يضم عدة قاعات كبيرة قد اتصلت ببقية المدينة من خلال تسع بوابات. ونجد هنا محاولة لإعادة تخيل موقع القصر الذى احتل وسط المدينة . 

ويحد القصر من جانبه الغربى ميدان أصبح محدد الأبعاد بعد إضافة قصر آخر لاحقًا سمى بالقصر الغربى. ويشير على مبارك استنادًا على المقريزى إلى أن الميدان كان مكان يستعرض فيه الخليفة قواته وأنه كان يستوعب 10000 جندي. كان قصر الخليفة معزولًا عن كل الأحياء المحيطة به مثل قصر الخليفة فى بغداد بواسطة رحبات وحدائق وضم البستان الكافورى -وهو حديقة ترفيهية كبيرة تم إنشاؤها فى عهد الإخشيديين- إلى القصر الغربى. كان هذا البستان محاطًا بأسوار وتربطه أنفاق تحت الأرض بقصر الخلافة الشرقى. وظل البستان مخصص حصريًا فى العقود الأولى من إنشائه للخليفة ولعائلته فقط. وعلى الرغم من أن الشكل العمرانى حول قصر الخليفة يبدو غير منتظم إلا أنه يحاكى مع ذلك مفهوم حجب أو انعزال الخليفة عن رعاياه ووضعه فى وسط المدينة وهى سابقة وضعتها بغداد العاصمة الإسلامية المخططة الأولى. 

وأثناء بناء القصر قرر جوهر الشروع فى بناء المسجد الجامع جنوب القصر وفصله بشكل رئيسى عن طريق الرحبة المجاورة لقصره. ويذكر المقريزى أن بناء المسجد بدأ عام 359هـ/970م وأنجز بعد ثلاث سنوات. قاد الخليفة المعز صلاة الجمعة الأولى وألقى الخطبة فى أول جمعة من رمضان عام 361هـ/972م فى المسجد الجامع الذى سميَّ بالمسجد الأزهر. من الصعب معرفة أصل مخطط المسجد لأنه تعرض للعديد من التغييرات على مر السنين. ومع ذلك كان الأزهر طوال سنواته الأولى بمثابة المسجد الجامع الوحيد فى المدينة وأصبح بعد ذلك مكانًا رئيسيًا للدراسات الشيعية فى عهد الخليفة العزيز بالله. 



احتلت الحارات بقية المدينة حول القصر وكانت ذات أحجام مختلفة للغاية. كان فى القاهرة في بدايتها عشرين حارة كل واحدة منها مخصصة لقبيلة من القبائل التى شكلّت الجيش الفاطمي.  كان التوازن الذي تحقق بين تلك القبائل وتمثيلهم فى حكومة القاهرة الفاطمية ذا أهمية كبيرة فى تشكيلها العمرانى. وعلى عكس مدن الحاميات العسكرية المبكرة التى سكنها فى الغالب قبائل من الجزيرة العربية لم تكن القبائل التى سكنت مدينة القاهرة تتكون من مجموعات متجانسة عرقيًا وتحقق السلام الاجتماعى بينها بموجب نظام سمح للمجموعات المختلفة بحصة فى حوكمة المدينة. 
     ولا يبدو أن المدينة الأصلية كمدينة أميرية أو ملكية خاصة كانت تحتوى على أية أسواق رئيسية عند إنشائها إذ لا يوجد فى المراجع التاريخية أى ذكر لمثل هذا النشاط فى سنوات المدينة الأولى. ومع ذلك فمن الممكن أن المدينة كانت تحوي خلال هذه الفترة على مستودعات وأسواق صغيرة لسكان الحارات المختلفة لأنه من غير الطبيعى أن يضطر هؤلاء السكان للخروج من المدينة لتلبية احتياجات التسوق اليومية. وكما سنرى لاحقًا تغير هذا الوضع مع نمو المدينة بشكل أكبر وتطور علاقتها بمدينتها التوأم الفسطاط فى الجنوب. لذلك تبدو صورة مدينة المعز كمدينة ذات شبكة شوارع منتظمة واسعة وساحات مفتوحة كبيرة وهى صورة تختلف اختلافًا كبيرًا عن الصورة النمطية للمدينة الإسلامية 

الشكل العمرانى للمدينة الفاطمية

كانت رؤية المعز لدين الله هى التى صنعت القاهرة، ولكن لم يعش المعز طويلًا ليستمتع بعاصمته الجديدة. عندما توفى المعز فى 365هـ/975م تولى ابنه العزيز بالله الخلافة وحكم أكثر من عشرين عامًا.  كان العزيز من البنائين الكبار وتمت فى عهده إضافة العديد من المبانى المهمة إلى القاهرة. وكان من بينها القصر الغربى وجامع الأنور. كان للقصر الغربى الصغير المعروف أيضًا باسم قصر البحر لقربه من النيل آنذاك أهمية معمارية كبيرة. تم بناء القصر فى البداية كمسكن لإحدى بنات العزيز وحدد القصر فراغ الميدان المركزى للقاهرة الذي سُمى بين القصرين وفصله عن حدائق الخليفة. وعندما تولى المستنصر بالله الخلافة عام 427هـ/1036م وهو نفس عام سقوط الخلافة العباسية قام بتجديد القصر استعدادًا ليكون مقرًا رسميًا للخليفة العباسى المخلوع. ويمثل هذا التصرف محاولة من المستنصر لإضفاء مزيد من الشرعية على الخلافة الفاطمية من خلال إيواء الخليفة المخلوع القادم من بغداد. 

بدأ بناء مسجد الأنور الذي أصبح يعرف فيما بعد باسم مسجد الحاكم خلال فترة حكم العزيز ليكون بمثابة مسجد جديد لاستيعاب صلاة الجمعة والعيد. ويذكر المقريزى أن العزيز صلى فى هذا المسجد قبل أن يكتمل بنائه وعندما مات أكمل ابنه الحاكم بامر الله عملية البناء. تكمن الأهمية العمرانية لهذا المسجد الذي بُنى بجوار بوابة باب الفتوح فى كونه أول مسجد فاطمى تم بناؤه خارج أسوار المدينة الفاطمية. ويشير تشييده الذي استخدم فيه أحجار كانت قد جلبت من معبد مصرى قديم إلى تغيير فى نمط الوعظ الدينى داخل القاهرة إذ تزامن هذا مع إقامة صلاة الجمعة فى أكثر من مسجد للمرة الأولى. وقد استوعب مسجد عمرو فى مدينة الفسطاط الخطبة السنية بينما أقيمت الخطبة الشيعية فى مسجد الحاكم والجامع الأزهر الذي أصبح مدرسة للدراسات الإسلامية. تمت إضافة مبنى آخر مهم إلى القاهرة فى عهد الحاكم بامر الله وهو دار الحكمة أو بيت الحكمة الذي تم شيدَّ شمال القصر الغربى كمركز للعلماء والأدباء. 


فى عام 462هـ/1068م عانت مصر من جفاف شديد وأيضًا من انتشار الطاعون وتفكك النظام الحضرى فى القاهرة وتدهور الوضع لدرجة أن الخليفة المستنصر في ذلك الوقت استدعى بدر الجمالى -حاكمه فى سوريا- لتولى الوزارة وكي ينقذ مصر فى الفترة التى سميت بالشدة المستنصرية.

وكان بدر حاكمًا ورجلا قويًا تمكن من استعادة النظام فى العاصمة وإحياء السلطة السياسية والدينية للخلافة الفاطمية. كما جدد بدر مظهر المدينة العمرانى. شملت إنجازاته توسيع المدينة من خلال بناء سور حجرى جديد وسلسلة من البوابات الجديدة كي تحتوى جميع المبانى التى تم بناؤها خارج السور فى السنوات السابقة. وأصبحت القاهرة في ذلك الوقت مدينة محصنة لأول مرة وهو إنجاز تم تحقيقه فى الأساس بإعادة استخدام الحجر المجلوب من هياكل المعابد المصرية القديمة القريبة من القاهرة والاستعانة بمجموعة من البناة المهرة من بيزنطة.  

وقام بدر ببناء دار الوزارة وهى أيضًا كانت سكنًا للوزير إلى الجانب الشمالى الشرقى من القصر الكبير. وكان هذا المبنى بمثابة المقر الرسمى لجميع الوزراء الفاطميين حتى سقوط الخلافة الفاطمية.

كانت القاهره الفاطمية مدينة مثيرة للإعجاب فى أوج مجدها. وعلى الرغم من أنه لم يكن ينظر إليها منذ البداية إلا كمجمع للقصر الملكى والحاشية إلا أنه سرعان ما تطورت لتصبح مجتمع حضرى كامل. يقدم الرحالة الفارسى ناصر خسرو الذى كان يقيم فى المدينة فى الفترة من 441هـ/1047م إلى 444هـ/1050م وصفًا موجزًا لمدى كثافة النشاط التجارى داخل مدينة التى لم تكن مخططة بحيث يكون فيها أى متاجر عند بدايتها فى 361هـ/969م.  

يذكر خسرو أن عدد المتاجر داخل المدينة تجاوز 20000 شاملة كل أنواع النشاطات التجارية وهو رقم مبالغ فيه إلى حد كبير. كانت كل المتاجر مملوكة للخليفة ويتم تأجيرها.

وكان معظم المستأجرين يقيمون فى الفسطاط ويذهبوا يوميًا إلى محلاتهم فى القاهرة. ولم يسمح لأحد بامتلاك ممتلكات تجارية أو سكنية فى القاهره باستثناء الخليفة وأفراد عائلته.
 
ويمكننا القول أنه خلال فترة الحكم الفاطمى الذى امتد إلى قرنين من الزمان أن المدينتان - القاهرة و الفسطاط - كانتا موجودتين جنبًا إلى جنب. كانت القاهرة أكثر جمالًا وأناقةً عن نظيرتها الجنوبية ذات التخطيط العشوائى. وعندما استولى الأيوبيون فى وقت لاحق على القاهرة فتحوها إلى العوام من السكان الذين كانوا يعيشون خارج أسوارها. وبدأ النمط المعتاد للمدينة المخططة يتفكك ويبدو أكثر شبهاً بجارتها القديمة الفسطاط

عاصمة للخلافة أم عمران السلطة؟

من هنا تبدأ الكثير من التساؤلات هل تتشابه القاهرة مع بغداد بأى شكل من الأشكال؟ هل هناك أى خصائص مشتركة بينهما؟ هل يمثل تخطيطهما مثل عمرانية إسلامية ؟ وهل يعبر هذا التخطيط عن نظام إسلامى خاص من حيث العناصر التركيبية وموقع الأنشطة وعملية البناء والرمزية السياسية؟ يبدو هنا فعلًا أن القاهرة وبغداد تشتركان فى العديد من القواسم المتشابهة.  

فقد تم تأسيسهما كعاصمتين جديدتين لخلافة حاكمة جديدة. بدأت كل من القاهرة وبغداد كمجمعات سكنية كبيرة ومخططة تحتوى على قصر ومسجد جامع وساحة مركزية وأحياء سكنية للقبائل المختلفة التى يتألف منها الجيش. ومن المعلومات القليلة المتاحة نعرف أنه كان لدى المدينتين الكثير من القواسم المشتركة الموجودة فى المدينة الإسلامية النمطية.

ولكن لم يكن لدى القاهرة وبغداد فى أيامهما الأولى وعلى عكس المدينة النمطية حمامات عامة أو أسواق متخصصة أو قلاع دفاعية. ولم يكن لديهم أيضًا طرق وأزقة عشوائية مسدودة وغير منتظمة وكان هيكلهم العمرانى يتوافق مع نمط هندسى للغاية ولكن غيرت التطورات اللاحقة كل ذلك بطبيعة الحال.

ومن حيث موقع الأنشطة احتل قصر الخليفة الذي عمل أيضًا كمجمع حكومى المركز العمرانى لكل من القاهرة وبغداد. كان المسجد الجامع عادةً مبنى جانبيًا ملحقًا بالقصر كما هو الحال فى بغداد أو مجرد مبنى احتل موقعًا قريبًا من القصر كما هو الحال فى القاهرة.

وكان المسجد الجامع بالتأكيد ثانويًا من حيث قربه من المركز البصري للمدينة إذا ما قورن بالقصر واحتلت الأحياء السكنية المحيط الخارجى للمدينتين حول القصر. كما كانت عملية بناء القاهرة وبغداد متماثلة. فقد تم بناء القصر أولاً ثم تم بناء سور يحيط بالمدينة. وفى نفس الوقت تم إضافة مسجد لاستيعاب صلاة الجمعة.

وكان هذا الوضع مختلفًا عن وضع الأمصار المبكر حيث كان المسجد دائمًا العنصر الأول الذي يتم بناؤه بسبب الحاجة الوظيفية له فى حالة استيطان إسلامى مثالى أما فى مدن العواصم استبدل قصر الخليفة بالمسجد كممثل رمزى لحكام جدد وقد قلل هذا من أهمية المسجد البصرية فى المدينة. كان الدين الإسلامى قد مضى عليه مائتى عام وأصبح معظم السكان من المسلمين وربما يكون هذا قد جعل الخلفاء الجدد يشعرون بأنهم بحاجة أكبر إلى إنشاء وتوطيد سلطتهم الجديدة بالإبقاء على الرمزية الدينية للمدينة.

وبالطبع بدأت التغييرات تحدث فى المدينتين قبل الانتهاء من بناء العاصمة الجديدة. كان هناك أولًا عمليات توسيع للقصر أو بناء قصر جديد إما خارج المدينة كما هو الحال فى قصر الخلد فى بغداد أو داخلها كما هو الحال فى القصر الغربى فى القاهرة.  وقد يدل هذا على رغبة الخليفة فى عزل نفسه أكثر عن السكان المحليين.

وكان السوق ايضا عرضة لتغييرات كثيرة ففى بغداد تم نقل الأسواق أولًا من الأحياء السكنية ووضعها فى الأروقة المقوسة التى تفصل بينهم. ثم جرى نقلهم بالكامل فى وقت لاحق الى الخارج فى الكرخ لإخلاء المدينة للخليفة وضمان سلامته. أما فى القاهرة فلم تكن الأسواق مصممة فى البداية كجزء من المدينة وعندما تمت إضافتها لاحقًا تم ابتداع نظام للتحكم فى التجارة والتجار. ولم يُسمح للتجار بامتلاك متاجر داخل المدينة ولكن كان عليهم استئجارها من الخليفة إذ لم يكن لأحد الحق فى امتلاك أى عقار فى المدينة سوى الخليفة وعائلته.  كما تم أيضًا منعهم من الإقامة داخل أسوار المدينة حيث مصدر رزقهم وهو الأمر الذي يمكن الخليفة من ضمان طاعتهم وغرس شعور من عدم الأمان فى حياتهم اليومية.

لا تبدو العناصر النموذجية والترتيبات العامة للعاصمة المخططة مختلفة تمامًا عن المدن الإسلامية الأخرى التى نوقشت سابقًا. لكن القاهرة وبغداد ليستا بالضرورة أمثلة جيدة للمدن الإسلامية.

وكانت هاتان المدينتان اللتان يستخدمهما كثيرًا المؤرخون العمرانيون والمعماريون كمدن إسلامية نموذجية فى الحقيقة مدن فريدة من نوعها فى أنها كانت لفترة طويلة ملاذًا يمكن فيه للخليفة الجديد القادم من منطقة أخرى مع حاشيته أن يفصلوا أنفسهم عن بقية السكان المحليين؛ وبالتالي العيش داخل حياة ملكية منعزلة. وقد تم ذلك باستخدام نفقات باهظة ومداولات عديدة.

وللرجوع إلى بعض الأسئلة التى طُرحت فى بداية هذه المقالة من المهم أن نتذكر أن القاهرة وبغداد ظهرتا كنتيجة لرؤية وإرادة فردية لمبدعيهما الخلفاء. وإذا قبلنا تعريف الإسلام على أنه نظام حضارى شامل قائم على مبدأ دينى فإن الأشكال العمرانية للمدينتين لم تكن تمثل فكر إسلامى محدد أو مُثل تخطيطية مستمدة من الإسلام ويكون هذا صحيحًا بشكل خاص إذا رفضنا فكرة السلطة الإلهية المزعومة التى ادعاها بعض الخلفاء. لذا لا ينبغى اعتبار المدن التى خططها الخلفاء لأنفسهم تمثيلًا صحيحًا للإسلام كنظام حضارى سواء كان دينى أو سياسى. وبهذا المعنى فإن الرمزية العمرانية لشكل القاهرة أو بغداد ‏كعواصم للخلافة ليست إسلامية، بل وربما ليست عربية أيضًا. فهي تعبر في الأغلب عن تطلعات إمبراطورية ‏لهؤلاء الخلفاء.

فمن المهم بالنسبة لنا هنا أن نلاحظ أوجه التشابه القليلة بين مدن ‏المعسكرات والمستوطنات الأولي مثل الكوفة والبصرة والفسطاط ‏من ناحية ومدن العواصم المخطط لها مثل القاهرة وبغداد ‏من ناحية أخرى وخاصة من حيث عناصرها العمرانية والترتيب العام لتلك العناصر فى الموقع. ولكن ربما كانت ‏هذه المدن العسكرية نماذج أولية لمدن العواصم الملكية التى أُنشات فى وقت لاحق مثل القاهرة وبغداد. ولكن ‏في هذه الحالة يجب أن نلاحظ أن موقع العناصر العمرانية الرئيسية وعلاقتها ببعضها البعض فى العواصم كان أكثر تمثيلًا لسلطة الخليفة وسلطة الدولة منه فى مدن ‏المعسكرات الأولى. ويمكن ملاحظة هذه الخاصية أيضًا فى مركزية القصر وتناقص أهمية المسجد كمبنى والتجاهل المستمر لاستقرار السوق والرغبة فى تقييد حركة العامة من الناس فى المدينة. فشكل عواصم الخلافة مثل القاهرة وبغداد كان أكثر تعبيرًا ورمزية عن سلطة الخليفة وكان الهدف الأساسى منها إما تمجيد مؤسسيها وأسلافهم أو تكريس مفهومًا محددًا للسلطة السياسية الدينية ‏وعلاقتها بعمرن المدينة.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــفصل من كتاب Cities and Caliphs «مدن وخلفاء» - دار المرايا