طارق الطيب.. ليالى الفن فى فيينا حازم المستكاوى ومعمار الحروف

حازم المستكاوي
حازم المستكاوي

في أواخر التسعينيات تقريبا سألتقي بحازم المستكاوي وعاصم شرف للمرة الأولى في فيينا. ستكون شرارة الالتفات من الكاتب الكبير صنع الله إبراهيم الذي لفت انتباهي لوجود معرض قريب لهما بالحي التاسع في فيينا والقريب مني. سيكون اللقاء الأول هناك مع جمع كبير من الفنانات والفنانين والمهتمات والمهتمين بهذا الفن القادم من مصر إلى فيينا.

بعد سنوات ليست طويلة سيأتي حازم ليستقر في فيينا لسنوات طويلة. في هذه المدينة سيشكّل مع الفنانة باربارا جراف ثنائيا فنيا في الفن والحياة.

اقرأ أيضًا | «عملك مردود إليك».. رسالة حازم المستكاوي في وداعه للعالم

سألتقي بحازم في مصر مرات وفي فيينا دوما، وسيكون لنا تجمعا عائليا وملتقيات شبه منتظمة، تجمع باربارا وحازم وجاري مروان عبادو الفنان الفلسطيني المعروف وزوجته فيولا وأورسولا زوجتي وأنا. تستمر هذه اللقاءات الخاصة المتبادلة في بيوت كل منا، وتتفرع منها لقاءات كثيرة ضمن مجموعة كبيرة من الفنانين والكُتّاب والأصدقاء من كل أنحاء العالم - تجمعهم فيينا.

سيجمعنا هذا الجو الفني الخاص والنادر، سواء في المعارض الفنية أو القراءات الأدبية أو الحفلات الموسيقية أو حتى في اللقاءات الخاصة التي كان أغلبها يستقر في الحي السابع الذي يسكن فيه مروان وأنا.

نصيب الأسد من اللقاءات يكون في «بيت أمرلينغ»، أو الفنان فريدريش أمرلينج (1803-1887) الذي تحول بيته إلى صرح فني وأدبي لتقديم معارض فنية وقراءات أدبية ونشاطات اجتماعية، ودوره الأرضي قد تحول إلى مقهى ومطعم وبار من أجمل ما يوجد في فيينا.

قبل 17 سنة تقريبا كان لي لقاء جميل في سيمبوزيوم أسوان الدولي، حيث أتواجد هناك بشكل منتظم في فبراير من كل عام، وهي الفترة المتاحة لي من الجامعة في فيينا بين الفصلين الدراسيين. هناك تابعت منحوتات المستكاوي وزملائه، تلك التي كان يعمل عليها في وجود كاهن الفن الأكبر آدم حنين الذي تعرفت عليه وصار صديقا عزيزا، يجمعني اللقاء به سنويا في هذا الملتقى السنوي في فندق بسمة. عشت لسنوات في هذا الجو البديع النادر في متابعة وتأمل عمل الفنانين والفنانات نهارا في الباحة الخارجية للفندق. مازلت أتذكر له هذا العمل الذي انتقل لاحقا إلى المتحف المفتوح الموجود في أسوان ضمن أعمال كثيرة للفنانين المصريين والعرب وغيرهم من مختلف أصقاع العالم.

سنوات رائعة من اللقاءات المستمرة في فيينا تلك المدينة، تحادثنا بهدوء أو بصخب، باتفاق أو باختلاف، وبالإنجليزية أو العربية أو الألمانية أو بالصمت. لكننا كنا نخرج بزخم الروح الفنية والأدبية وبالرغبة في فتح أبواب إلهام مرت بنا في الأحاديث.

سيكون لحازم المستكاوي في فيينا نشاطات كثيرة راقية وسيسطع اسما مميزا وضمن مشاركات مهمة مثل: «متاهة المصيدة»، مركز توثيق الفن الحديث، سانكت بولتن، النمسا. و«صورة ورسائل»، جاليري «أتريوم إد آرته» في فيينا في 2005. و «الوجوه المكتوبة» «روميم بولس»، متحف فايدهوفن- إيبس، في شمال غرب النمسا 2006. و«الجماليات والعلوم» في الأكاديمية النمساوية للعلوم، في فيينا. ثم معرض فردي «أليف بيه»، جاليري أتريوم إد آرتي، فيينا-النمسا. ثم مشروع كِتاب: السويسريون في النمسا، كريستوف بريندل (محرر)، فيينا-النمسا. ثم «الخط»، جاليري أتريوم إد آرتي، فيينا-النمسا. ثم «الهيكل واللامادية»، كونست-فيريان كيرنتين - جمعية الفنون كارينثيا، كلاجنفورت-النمسا.

ثم «لافتات الزمن الأقل - معرض معاصر في إشارة إلى أوتو نيوراث» (بيت الفنانين)، فيينا-النمسا. ثم «رسم! رسم! (بيت الفنانين)، فيينا-النمسا. ثم «ترانسالبين- فنانون من فيينا»، فيزارت، زيورخ- سويسرا. ثم «فن/قماش - مادة/مادة»، بدروم فيينا، فيينا-النمسا.

تعرضت فقط لما تعلق بفيينا من أعمال ومشاركات الفنان حازم المستكاوي بشكل حي، وهي مشاركات غزيرة لم يهتم بها الوسط الفني في مصر أو العالم العربي كالعادة.

من بين الأعمال التي ذكرتها سابقا، جمعنا جاليري أتريوم إد آرته Atrium ed Arte في فيينا، في معرض وقراءة أدبية، والجاليري يقع في الحي الثامن الذي يتوسط المكان بين الحي الذي يسكن فيه حازم والحي الذي أسكن فيه.

وهذا الجاليري الذي تمتلكه الفنانة السويسرية سيلفيا جروسمان المسؤولة عنه وعن برامج المعرض، والمعرض تأسس في عام 1996 وكان يقيم ما بين أربعة إلى ستة معارض للفن المعاصر كل عام، وتتخللها قراءات أو حفلات موسيقية أو فعاليات مرتبطة بأعمال الفنانين العالميين المعاصرين مع الاهتمام بالأدب والمساهمات الموسيقية إلى جانب الفنون البصرية.

أتجه المستكاوي في الفترة الأخيرة لفكرة العمل على مواد أخف في الوزن، فلم يعد العمل النحتي على الحجر يناسب انتقالاته المتعددة بسبب صعوبة التعامل مع الأعمال النحتية الثقيلة جدا من الحجر بالنقل إلى مسافات بعيدة. كانت فكرة صائبة منه في التحول إلى هذه الطريقة الفنية باستخدام الورق المقوى والكرتون وربما الخشب ومواد أخرى متعددة خفيفة الوزن سهلة النقل، ومن ناحية أخرى استطاع أن يبدع عمله الفني بشكل ساحر بجمع عمله الفني المركّب داخل حيز ضيق متداخل بفنية عالية تمكّنه من الفك والعرض بيسر.

كما اهتم مؤخرا بالحروف العربية بشكل إبداعي متميز وفائق، كذلك بأعمال فنية ذات رموز فلسفية لكن في جدة ورؤية جديدة مبتكرة.

حين أصدرت سيلفيا جروسمان عبر جاليري أتريوم إد آرته بمناسبة معرض «ألِف بيه» كتابا ضخما في 270 صفحة من الحجم الكبير جدا اسمه (und) ومعناها بالألمانية (و)، كانت لي مشاركة في هذا الكتاب بنص باللغة الألمانية أهديته إلى حازم المستكاوي. وكانت لنا قراءة موازية لافتتاح المعرض مع مجموعة من أدباء فيينا المعروفين. هنا نصي بالعربية:

نخلة ‏ ‏في فيننا
يمكنكَ أن تعبر حارات ضيقة ملويّة
بألف عام وعام مطويّة 
وتدخل من أبواب عتيقة خشبيّة
وتنظر من طاقات منحوتة
وتحمل في رأسك أحجارا من الأهرامات

ثم تعبر رملا وبحرا
‏وفي رأسك نواة نخلة
من ألف عام وعام
تغرسها في دفء قلبك
تعبر بها إلى هذا البر المائل نحو البحر

ثم تعيد النخلة
من صَوبة رأسك وقلبك
إلى مرج وسط شبيهات
عليها تمور

ثم تحرر النخلات
راقصات في الفراغ
فارعات في الوسط
فندور 

ثم تتأملها
فتجلس
تقف
تدور
تنحني عليها
فتروح وتعود

ثم تتعمد ظلا لهن
صورة تقرؤها عيون لا تنام
عند عبور الضوء
على منحنى الحرف
فتجعل حائطا يضحك وحائطا يبكي
وآخر ينتظر

ثم ‏تعيد كل السموق
إلى صندوق
إلى رحم من دفء
يسكن إبطك عند المسير

يمكنك أن تريح رأسك لحظة
لتسمح للذكرى أن تمر
بأحمال نسيتها
داخل أصلاب الجرانيت
ودون أن تدري يعلو هرم
تبتسم
فيأتي هرم
تفكر
فيخرج هرم
تودعه في نواة زيتون أو تمرة

يمكنكَ أيضا أن تستريح
‏من كل ضيق الحارات
 وأثقال الأبواب
وظلال الطاقات
لأنك زرعت النواة
في مدينة بلا نخيل!

وأخيرا تعبر كل مدار الشمس
بخطوه اليد إلى الظل
فتتأمل بسمة أصابعك المرهقة
تقول: «لكم تستحق كل هذه النوايا أن نحيا!»

(فيينا في 25-5-2005)

وأتفق مع المستكاوي في نظرته للتصنيفات النوعية للمعارض كالرسم والنحت والتصوير. ربما الفن العالمي والأوروبي تحديدا أصبح يزيل تلك المسافات، وتجميد التصنيفات التي رآها المستكاوي رُأي العين هنا في فيينا وتعامل معها بهذه الحرية القصوى التي تمنح للفن أبعادا أسمى.
بل كان مساره في تجربته الفنية قريبا من الهندسة المعمارية، فاتجهت فلسفته النحتية إلى فكرة «معمار الحرف» بعد عمله الدؤوب على «معمار الفكرة الفنية»؛ فأصاب بجعل الرؤية البصرية تتجه إلى عوالم أرحب وأجمل.

ثم قرر حازم قبل عشر سنوات مغادرة فيينا والعودة إلى مصر بصورة نهائية، فأصبحت المتابعة بيننا فيما يتاح عبر الانترنت.
سيظل غياب حازم المستكاوي فجوة كبيرة في فن فريد وفي ما تمنينا وانتظرنا من أعمال قادمة، لكن ما قدمه من إنتاج غزير استثنائي يكفينا، رغم أنه لم يكن مرئيا بالشكل الذي يستحق. لكنه سيكون متاحا أمام الأجيال القادمة الواعدة التي تبحث عن الكنوز المنسية والمخفية.
وتحية من القلب لك يا حزّومة!