القارئ الكبير أحمد محمود على البنا: تقدير والدى لقراءتى وصلنى بعد وفاته بثلاثين عامًا!

لا أنسى رحلة «أبو ظبى».. ورأيت تسجيلات الشيخ فى كوريا الجنوبية
لا أنسى رحلة «أبو ظبى».. ورأيت تسجيلات الشيخ فى كوريا الجنوبية

ينساب صوته رقراقًا كنسيم الصيف، يبدأ هادئًا، ثم يعلو بثبات، ثم ينطلق فى ملكوت الوجد من تجليات التلاوة التى تأخذ بالألباب وكأنه يقرأ فى السماء، تمامًا كتجليات والده؛ إنه الشيخ أحمد محمود على البنا، الذى يحكى عن بداياته القرآنية، وأبرز مواقفه مع والده القارئ الكبير.

يؤكد الشيخ أحمد البنا فى البداية أنه لم يكن يتوقع أبدًا أن يكون قارئًا مثل والده، رغم انبهاره بأبيه القارئ الكبير؛ ويقول إن القصة بدأت معى ومعى إخوتى ونحن صغار، ونظرًا لانشغال والدى بالسفر المتكرر والحفلات أحضر لنا شيخًا يعلمنا القرآن بالمنزل، وكل فترة يتابعنا ويسألنا عن جودة حفظنا، ونصيبى أنى كنت سريع الحفظ، وكان يُعطى من يحفظ مكافأة عشرة قروش أو خمسة عشر قرشًا، وهذا فى الستينيات كان مكافأة مجزية ومُشجعة جدًا.

فى صحبة الشيخ

ويضيف: بعدها أنهيت الخاتمة حفظًا مع الشيخ معوض، رحمه الله، ومن توفيق الله أننى كنت متعلقًا بالذهاب مع والدى إلى الحفلات، فيبتسم ويأخذنى معه، ووجدت إحساسًا داخليًّا يدفعنى إلى الذهاب ورؤية أبى وهو يقرأ والناس حوله فى كل قرى ومدن مصر، كمستمع ومشاهد فى البداية، ثم تعلمت قيادة السيارة، وعندما يغيب السائق أقود سيارته، وكنت أشاهد كيف يستقبله الناس بترحابٍ شديد، وكيف يجلس بهدوء وسكينة على دكة القراءة مع انبهار الناس بتلاوته وملبسه وهندامه المنمق، ورغم أننى كنت أقلده كثيرًا فإننى لم أظن يومًا أننى قد أصبح قارئًا، حتى نادانى ذات يوم وقال: «أنت عمّال تزن فى البيت، اقرأ لي!»، فقرأت وأنا أشعر بالخوف الشديد، وبدأت بالاستعاذة بصوت عالٍ، فقال لي: قف! كيف تبدأ عاليًا هكذا، وإلى أين تذهب بعد ذلك؛ عليك أن تأخذ الصوت بهدوء وتبدأ من الأسفل إلى الأعلى؛ وكان هذا هو الدرس الأول.

عم سعيد الفراش!

ويشير الشيخ البنا إلى أن والده كان له سمّيعة وليس مستمعون فقط، يتبعونه أينما ذهب، وأخبرنى أحدهم بأن الشيخ كانت له إذاعة فجر قبل رمضان الأخير، وكان معه مبتهل اسمه عم سعيد الفراش والتقطا معًا عدة صور، وذهبنا إلى الرجل فى طنطا لنحصل على هذه الصور، واستقبلنا استقبالًا حافلًا، إذ كان من المحبين لوالدي، وظل يحكى لنا وأحكى له عن تلاوات والدى وأسراره فى القراءة؛ لأننى تلقيت عنه المقامات وكنت أسأله فيها، وحضرت معه تسجيل المصحف المرتل كاملًا لإذاعة القرآن الكريم، وكذلك المصحف المجود لشركة صوت القاهرة؛ ومن فضل الله أن والدى كان يتفاءل بوجودى معه فى التسجيلات، وكان يقول لى إن الله يوفقه حينما أصاحبه إلى الاستديو؛ وعندما قرأت أمام عم سعيد أثنى عليَّ وأخبرنى بضرورة إكمال مشوار والدي، لأننى أشبهه كثيرًا فى الشكل وفى خامة الصوت، وعندما يسمعك الناس سيقولون: رحم الله الشيخ محمود.

ويواصل الشيخ البنا قائلًا: عملت على استذكار القرآن الكريم؛ ثم بدأت أقرأ فى مسجد الشيخ البنا بقرية شبراباص، مركز شبين الكوم، منوفية، وبدأ الناس يتوافدون لسماعى كل جمعة، ولمست منهم انبهارًا بصوتي، خاصة أنهم لم يعلموا أن للشيخ البنا ابنًا يقرأ القرآن، ثم توسع الانتشار وأتتنى دعوة من دولة قطر لإحياء ليالى رمضان بالمركز الإسلامى بلندن، التى تكررت الزيارات إليها كل عام، ومعظم الدول العربية، وباريس، وإيرلندا، وكوريا الجنوبية التى رأيت فيها تسجيلات والدى كاملة، وقابلت «سمّيعة» له هناك؛ لكن أصعب رمضان كان فى أبوظبى لأنه تم استقبالى بحفاوة كبيرة، وكأنهم يستقبلون الشيخ، رحمه الله، ورغم مرور سنوات على وفاته فإن حزنى تَجدد لأن هذا المكان كان آخر مكان قرأ فيه، وعندما ذهبت إلى المسجد وجدت أغلبيته من المصريين فهدأت نفسي، وذهب عنى الحزن حينما وجدت أحد المستمعين بآخر المسجد يقول بصوتٍ عالٍ: «الله يرحم أبوك يا شيخ».
بعد ثلاثين عامًا

ويكشف الشيخ أحمد البنا مفاجأة عن رأى والده فى قراءته فيقول: كنت أعتمر منذ ست سنوات تقريبًا وجاءنى أحد المحبين بحديث مسجل لوالدى مع إذاعة بغداد، لم أسمعه من قبل، وعندما استمعت إليه وجدته يجيب عن سؤال عن أبنائه ويذكرهم واحدًا واحدًا، حتى جاء اسمى فقال: «إن أحمد صوته حلو وفنان، وأحب أن أسمعه»، ووجدت دموعى تنهمر، لأننى سمعت التسجيل فى 2018م تقريبًا، ووالدى توفى فى 1985م، وهى المرة الأولى التى أسمع فيها رأيه فى تلاوتي؛ وكان هذا بعد وفاته بوقتٍ طويل.

ويتابع: أما عن تفاعل الجماهير مع والدي، فعندما ذهبت إلى إسكتلندا، وكان رئيس الجالية هناك «مستر جاهين» وأغلبهم من باكستان، وكان محبًا لوالدى جدًا، ولديه كل تسجيلاته، كان يقول لى إن لدينا قراء فى باكستان، ولكن المصريين يملكون احترافية عالية فى قراءة القرآن.