خواطر الإمام الشعراوي .. الطهارة والتطهر

الإمام الشعراوي
الإمام الشعراوي

يقول الشيخ الشعراوى فى خواطره حول الآية 222 من سورة البقرة: «وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِى الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ» : حين تقرأ «هُوَ أَذًى» فقد أخذت الحكم ممن يُؤمنُ على الأحكام، ولا تناقش المسألة، مهما قال الطب من تفسيرات وتعليلات وأسباب نقل له: لا، الذى خلق قال: «هُوَ أَذى». والمحيض يطلق على الدم، ويراد به أيضًا مكان الحيض، ويراد به زمان الحيض. وقوله تعالى عن المحيض إنه أذى يهيئ الذهن لأن يتلقى حكما فى هذا الأذى، وبذلك يستعد الذهن للخطر الذى سيأتى به الحكم.

قد جاء الحكم بالحظر والمنع بعد أن سبقت حيثيته. إن الحق سبحانه وتعالى وهو الخالق أراد أن تكون عملية الحيض فى المرأة عملية كيماوية ضرورية لحياتها وحياة الإنجاب.

وأمر الرجال أن يعتزلوا النساء وهن حوائض؛ لأن المحيض أذى لهم. لكن هل دم الحيض أذى للرجال أو للنساء؟ إنه أذى للرجال والنساء معا؛ لأن الآية أطلقت الأذى، ولم تحدد من المقصود به. والذى يدل على ذلك أن الحيض يعطى قذارة للرجل فى مكان حساس هو موضوع الإنزال عنده، فإذا وصلت إليه الميكروبات تصيبه بأمراض خطيرة.

والذى يحدث أن الحق قد خلق رحم المرأة وفى مبيضيها عدد محدد معروف له وحده سبحانه وتعالى من البويضات، وعندما يفرز أحد المبيضين البويضة فقد لا يتم تلقيح البويضة، فإن بطانة الرحم المكون من أنسجة دموية تقل فيها نسبة الهرمونات التى كانت تثبت بطانة الرحم، وعندما تقل نسبة الهرمونات يحدث الحيض. والحيض هو دم يحتوى على أنسجة غير حية، وتصبح منطقة المهبل والرحم فى حالة تهيج، لأن منطقة المهبل والرحم حساسة جدا لنمو الميكروبات المسببة للالتهابات سواء للمرأة، أو للرجل إن جامع زوجته فى فترة الحيض. والحيض يصيب المرأة بأذى فى قوتها وجسدها؛ بدليل أن الله رخص لها ألاّ تصوم وألاّ تصلى إذن فالمسألة منهكة ومتعبة لها، فلا يجوز أن يرهقها الرجل بأكثر مما هى عليه.

إذن فقوله تعالى: «هُوَ أَذًى» تعميم بأن الأذى يصيب الرجل والمرأة. وبعد ذلك بين الحق أن كلمة (أذى) حيثية تتطلب حكما يرد، إما بالإباحة وإما بالحظر، وما دام هو أذى فلابد أن يكون حظرًا. يقول عز وجل: «فاعتزلوا النساء فِى المحيض وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ» والذى يقول: إن المحيض هو مكان الحيض يبنى قوله بأن المحرم هو المباشرة الجنسية، لكن ما فوق السرة وما فوق الملابس فهو مباح، فقوله الحق: «وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ» أى لا تأتوهن فى المكان الذى يأتى منه الأذى وهو دم الحيض. «حتى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ الله». و(يطهرن) من الطهور مصدر طهر يطهر، وعندما نتأمل قوله: «فَإِذَا تَطَهَّرْنَ» نجد أنه لم يقل: (فإذا طهرن)، فما الفرق بين (طهر) و(تطهر)؟ إنّ (يطهرن) معناها امتنع عنهن الحيض، و(تطهرن) يعنى اغتسلن من الحيض؛ ولذلك نشأ خلاف بين العلماء، هل بمجرد انتهاء مدة الحيض وانقطاع الدم يمكن أن يباشر الرجل زوجته، أم لابد من الانتظار حتى تتطهر المرأة بالاغتسال؟. وخروجا من الخلاف نقول: إن قوله الحق: (تطهرن) يعنى اغتسلن فلا مباشرة قبل الاغتسال.

ومن عجائب ألفاظ القرآن أن الكلمات تؤثر فى استنباط الحكم، ومثال ذلك قوله تعالى: «إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِى كِتَابٍ مَّكْنُونٍ لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ المطهرون» «الواقعة: 77-79».

ما المقصود إذن؟ هل المقصود أن القرآن لا يمسكه إلا الملائكة الذين طهرهم الله من الخبث، أو أن للبشر أيضا حق الإمساك بالمصحف لأنهم يتطهرون؟ بعض العلماء قال: إن المسألة لابد أن ندخلها فى عموم الطهارة، فيكون معنى «إِلاَّ المطهرون» أى الذين طهرهم من شرع لهم التطهر؛ ولذلك فالمسلم حين يغتسل أو يتوضأ يكون قد حدث له أمران: التطهر والطهر. فالتطهر بالفعل هو الوضوء أو الاغتسال، والطهر بتشريع الله، فكما أن الله طهر الملائكة أصلا فقد طهرنا معشر الإنس تشريعا، وبذلك نفهم الآية على إطلاقها ونرفع الخلاف.

وقول الحق فى الآية التى نحن بصدد خواطرنا عنها: «حتى يَطْهُرْنَ» أى حتى يأذن الله لهن بالطهر، ثم يغتسلن استجابة لتشريع الله لهن بالتطهر. «فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ الله» يعنى فى الأماكن الحلال. «إِنَّ الله يُحِبُّ التوابين وَيُحِبُّ المتطهرين» وأراد الحق تبارك وتعالى أن يدخل عليك أنسا، فكما أنه طلب منك أن تتطهر ماديا فهو سبحانه قبل أيضًا منك أن تتطهر معنويا بالتوبة، لذلك جاء بالأمر حسيا ومعنويا. وبعد ذلك جاء الحق سبحانه وتعالى بحكم جديد، هذا الحكم ينهى إشكالا أثاره اليهود.

وقد كان اليهود يثيرون أن الرجل إذا أتى امرأته من خلف ولو فى قُبلها بضم القاف جاء الولد أحول. (القُبل) هو مكان الإتيان، وليس معناه الإتيان فى الدبر والعياذ بالله كما كان يفعل قوم لوط. ولّما كان هذا الإشكال الذى أثاره اليهود لا أساس له من الصحة فقد أراد الحق أن يرد على هذه المسألة فقال: «ِنسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أنى شِئْتُمْ وَقَدِّمُواْ لأَنْفُسِكُمْ واتقوا الله...».