تحية واجبة.. فى‭ ‬غيابها‭ ‬الحضور‭ ‬الدائم

صورة التخرج من الجامعة ـــ ١٩٦٠
صورة التخرج من الجامعة ـــ ١٩٦٠

تعود بى الذاكرة إلى فترة ما بين 1982و1984 عندما كنتُ طالبة ماجستير فى قسم الأدب الإنجليزى والمقارن ب الجامعة الأمريكية. كانت الدكتورة سيزا تشترك مع الدكتورة فريال غزول فى رئاسة مجلة ألف التى كانت قد وُلِدَتْ حديثًا. ولأنى كنتُ مساعدة للمُحرِّرة لفترة عامين فقد كنتُ ألتقى بالراحلة سواء فى مكتب رئيسة التحرير، الدكتورة فريال غزول، فى الدور الأول من مبنى التحرير آنذاك، أو كنتُ أزورها بتكليف من الدكتورة فريال لأخْذِ مُسَوَّدَات المجلة، وكثيرًا ما كانت تدعونى للجلوس فى بيتها الأنيق، وكانت تلك الزيارات ودعوتها لى لقراءة بعض المقالات ومراجعتها تحت إشرافها، بمثابة أولى خطواتى فى التعرف على الأدب المقارن وإعادة علاقتى باللغة العربية التى كانت قد ضَعُفتْ كثيرًا خلال سنوات الدراسة بالجامعة، حيث كان يتم التركيز فى تخصصنا على اللغة الإنجليزية وآدابها. وكانت الدراسات المقارنة آنذاك – ولا سيما فى قسمنا – شبه منعدمة.

لقد لمستُ بشكل مباشر العمل التحريرى القيم الذى كانت هى والدكتورة فريال تقومان به، ووقفتُ على الدقة المتناهية التى كانتا تحرصانِ عليها فى إخراج المجلة على أكمل وجه؛ مِمَّا جعلنى أتخذ القرار بأن أختار الأدب المقارن مجالاً للتخصص. و كنتُ دائمًا أتأمل فى اختيارات الدكتورة سيزا لذوقها المتميز سواء فى ترتيبها لمنزلها، أو فى ملبسها، أو فى اختيار مواضيع بحثها، فأجد تكاملاً ملحوظًا بين ذوقها فى أمور العيش و ذوقها الأدبي. فشقتها فى الطابق الثالث من بناية ذات طراز معمارى أوروبى فى حى الزمالك، والتى أقامت فيها لعقود، يتناغم فيها الأسلوب الأوروبى فى التأثيث مع اللمسة الإسلامية المتمثلة فى أعمال النحاس وغيرها من المنمنمات الشرقية الجذابة. وكنتُ دائمًا ألاحظ أن اهتمامها بأناقتها، وبتفاصيل بيتها، وبأصناف النباتات الجميلة التى كانت ترعاها فى منزلها، لا يقل أهمية، بالنسبة لها، عن الحرص على انتقاء مواضيع أبحاثها، ومشاريعها النقدية المتنوعة.

فكما تناولت سيزا أعمال كبار الكتاب من أمثال نجيب محفوظ، وإدوارد الخراط، وجبرا إبراهيم جبرا، وصُنْع الله إبراهيم، والطيب صالح، اهتمت بدراسة الأجيال الأصغر من أمثال هيفاء زنكنة، وهدى بركات، وليلى الشربيني. كما تنقَّلتْ فى أبحاثها القيمة بسلاسة بين دراسة النص القرآنى والمقارنة بين أمهات الكتب للطبرى والزمخشرى فى التراث العربي/الإسلامي، وبين رموز الأدب الغربى وأدبائه أمثال بلزاك، فلوبير وبروست وغيرهم كثر.
 
ومِمَّا هو جدير بالملاحظة اهتمام الدكتورة سيزا قاسم والدكتورة فريال غزول وغيرهن مِمَّن لا يتسع المجال للحديث عنهن الآن، بإتقان عدة لغات أجنبية إلى جانب اللغة العربية. فسيزا قاسم كانت تتقن الفرنسية والانجليزية إلى جانب العربية، وهو ما أتاح لها أن تتعمق فى النقد الأوروبى وتستوعب قضاياه ومناهجه،  وذلك من خلال القراءة المباشرة التى مكَّنتها – على سبيل المثال – من تعريف القارئ العربى بعلم السيميوطيقا بشكل مُعَمَّق وبسلاسة تثير الإعجاب.

اقرأ أيضاً  أنور مغيث  ..النقد بروح إنسانية

وإذا كان لى أن أختم هذه الكلمة القصيرة بتحية لهذه الراحلة العظيمة؛ فلا أجد أفضل من تلك العبارات التى قالتها رضوى عاشور فى تحية أستاذتها لطيفة الزيات والتى استعارتها سيزا قاسم من رضوى كيما تحيى بها رضوى قبيل رحيلها بشهور والتى ترجمتها سيزا آنذاك على النحو التالي:

«يطول الكلام هنا عمَّن كان لعبوا دورًا فى حيواتنا، الذين أيقظوا فينا جذوة البحث عن المعرفة، الذين غرسوا فى قلوبنا بوصلة دلتنا على الطريق، الذين أضاءوا أيامنا وأرقوا ليالينا، طرحوا علينا أسئلة لم نستطع الإجابة عليها.»

وأنا بدورى أستشهد بتلك السطور تحية  لأستاذتنا الدكتورة سيزا قاسم والتى غرست حب المعرفة، ونمته فى أجيال من تلامذتها ومحبيها.

هل يمكن تجاوز الحزن عن فقدان شخص عزيز بالكتابة عنه؟
هل يمكن أن نجد الكلمات الدالة على حزننا وحدادنا عن أيقونة ثمينة فقدناها؟
قد تجمعنا الكتابة للحديث عن شخص غال يشكل غيابه حضورا ممتدا فى سيرورة تأويلية لما خلفه من آثار وأعمال. فالمؤلِّف لا يموت كما ادعت ذلك البنيوية، وإنما ينبعث من رماده كطائر الفينيق بفعل القرّاء المفترضين والمحتملين. الدكتورة سيزا قاسم علامة أو بالأحرى ظاهرة سيموطيقية، لأنها تسكن التأويل والفعل القرائي، ولا تنمحى فى الغياب، لأنها وإن ماتت بيولوجيا فإنها حية ثقافيا، إذ عَبْر الموت تنتعش الحياة الرمزية، وتتجدد الذات بالقراءة والتلقى الدائمين. فبالموت نتحرر من قفص الجسد، وننطلق فى فضاء المعنى الأرحب والأوسع. وبالكتابة تغدو العالمة سيزا قاسم شفرة مرنة مشحونة بدلالات لا متناهية لأنها كائن سيميائى يراهن على إبداعية القارئ المفترض وشبكاته التأويلية التشييدية؛ فالفرد لا يملك القدرة على إبداع علامات سيميوطيقية، لكنه بالمقابل قادر على شحن هذه العلامات بدلالات خاصة به فى مختلف صيغ الخطاب.

إن الأستاذة سيزا قاسم منعطف تاريخى حاسم فى تجديد النظر فى آليات التأويل والدرس السيميائى فى الأدبيات العربية، هذا المنعطف لا يمكن تجاهله أو التغافل عنه، إذ هو الذى مكننا من حجز تذكرة فى قطار السيميائيات، لأن السيميائيات -كما يقال- قطار يمر على الدوام، ركب من ركب، ونزل من نزل. فهذا القطار فى حركة دؤوبة منذ فجر التاريخ، والعلامات البارزة الدالة على محطاته هى أسماء لامعة من قبيل: أفلاطونPlaton)، وأرسطو)Aristote)، سان أوغسطين)Saint Augustin)، وأبيلاغ وغوجير باكونG.Bacon) )وأوكام (W.Ockham)، وفرانسيس بيكونF.Bacon)، )والنحاة المنطقيين لبور رويالPort Royal)، )وجون لوكJ.Locke) وليبتنزG.W. Leibniz)  ) وبيركليG.Berkeley)، )وهاريسZ.Harris)، )وكوندياك (B.Condillac) وهيجلF.Hegel) وبيرس)S.Peirce)، )وسوسيرF.de Saussure)، )وفقيدتنا سيزا قاسم. إن التركيز على الأستاذة سيزا قاسم فى هذا المقال تفرضه المناسبة، والمناسبة شرط - كما يقال - ولأن سيزا قاسم كذلك لم تكتف بالتلقى السلبى للمنجز السيميائى الغربى وإنما كانت تنتقد وتحاور وتستدرك، لأنها تدرك بأن قطار السيميائيات لا يتوقف مادام هناك قارئ يرى الكون الظاهر والمرئى من خلال الصور والعلامات. .

تسعى الأستاذة سيزا قاسم إلى جعل الفرد يمتلك كفاءة سيميوطيقية لكى يتحرر من الحالة الطبيعية، ويكتسب صفة سيميوطيقية تجعله قادرا على فهم ما يحيط به بوصفه علامة ثقافية لا تحيل إلا إلى نصوص غائبة. وبهذه القدرة على التأويل والتواصل يتسامى الفرد عن الأشياء وعمائها وسديميتها ليحقق كينونته الإنسانية.


إن سيزا قاسم مثل الأثر علامة أو ظاهرة سيميوطيقية؛ إذ فى غيابها الحضور الدائم، وفى ما خلفته من أعمال ودروس وأفعال وسلوكيات محاولة لقهر الزمن والتغلب على نيته التدميرية، إذ ليس هناك شكل واحد للحياة، لأن الكائن السيميائى ليس شخصا واحدا وإنما هو طبقات دلالية متعددة لا متناهية، فقد يفنى الجسد ويبقى الأثر القاهر لوهم الحضور الكلى الدال على الغياب المنفلت من سلطة الجسد/ اللفظ، والمترحل عبر وسائط قرائية دلالية تتحول فى كيميائها الأشياء إلى علامات؛ فالموت ينتصر علينا حينما لا ننفصل عن الأشياء، لكننا نقهره حينما ننتقل من وضعية الشيء النثرى إلى علامة وأثر شعريين يقرآن ويؤولان من منظور القارئ الضمنى الذى سوف يفك شفراتهما ضمن عالم الإرادة والتأويل والتقويم.


إن حرص الأستاذة سيزا قاسم على شحذ كفاءة القارئ السيميوطيقية هو رغبة فى تحرير الإنسان من سلوك القطيع وأخلاقيات العبيد ومن سلطة الميتافيزيقا: ميتافيزيقا المرجع والأصل والقصد والحقيقة الموضوعية المطلقة المتعالية عن الشرط الإنساني؛ فالكائن السيميوطيقى كما نستلهمه ونفهمه من مشروع الأستاذة سيزا قاسم يتحدى خطاطة الحداد الخطية الآتية:
الصدمة
الرفض
الحزن
الغضب
الخوف والاكتئاب
القبول
الصفح
البحث عن المعنى والانبعاث من جديد
استعادة الهدوء والسلم الداخلي
(رسم لمراحل الحداد مستمد من أعمال Kubler-Ross)
يظهر هذا التحدى فى تجاوز القارئ السلبى الذى يستسلم لميتافيزيقا الحضور إلى الرهان على قارئ سيميوطيقى ذى كفاءة موسوعية يستحضر فى تأويلاته رموز النصوص وممكناتها وهوامشها ومضمراتها وبياضاتها؛ فالقارئ السيميوطيقى لا يقف عند صدمة فقد المعنى وإنما يتجاوز حالة الفقد إلى حالة بناء الدلالة وتشييدها، وإعادة التوازن المفقود بصفة مؤقتة قابلة للتأجيل.

لعل هذا هو الدرس السيميوطيقى الذى يتردد صداه فى هذه اللحظة، لحظة الغياب/الحضور لظاهرة سيميوطيقية تتحدى الموت اسمها سيزا قاسم الأستاذة المعلمة الأم.