أنور مغيث  ..النقد بروح إنسانية

سيزا قاسم مع حفيدتها
سيزا قاسم مع حفيدتها

 أهم ما يلفت النظر فى الإسهام الفكرى للدكتورة سيزا قاسم هو تفردها العلمى المتنوع.. فهى تولج فى دروب النقد الأدبى وفلسفة اللغة والبحث فى التراث. والمثير أن فى كل هذه الجوانب نسمع لها صوتاً لم نعهده من قبل. لقد تميزت الدكتورة سيزا بأنها من الأشخاص القلائل الذين جمعوا بين الاعتزاز بتراثنا العربى الفكرى والأدبى ووضعوه فى مكانة عالية وبين تقديرها للنظريات الأدبية والفلسفية الأوروبية الحديثة. راهنت على أن استخدامنا لهذه المناهج الحديثة عند عودتنا لزيارة تراثنا الماضى سوف يطلعنا على قيمة هذا التراث وجواب التراث.

مع تبحر سيزا قاسم فى مدارس النقد الحديث نلاحظ أنها تجنبت التحيز الايديولوجى والتعصب لمنهج محدد. أعمالها تحمل متنوعة ومختلفة بعضها يندرج فى إطار النقد الأدبى مثل بناء الرواية أو فى البحث فى التراث مثل طوق الحمامة أو فى فلسفة اللغة مثل كتاب القارئ والنص ولكن فى جميع هذه الحالات يصعب علينا التنبؤ بالطريقة التى سوف تتناول بها الموضوع.

اقرأ أيضاً| تاريخ العميد فى مجمع الخالدين

ليس لدى سيزا منظومة منهجية مبلورة سلفاً مكونة من مقولات وخطوات تطبقها على النص المدروس ولكنها فيما يبدو كانت تترك النص نفسه يملى عليها المنهح الملائم للكشف عن دلالته العميقة .

ولهذا نجدها أحياناَ تستخدم المقاربة البنيوية وأحياناً أخرى تلجأ إلى الهرمينيوطيقا وأحياناَ تستعين بمفهوم البيئة أو السياق السوسيولوجى لنشأة النص. إنها تقبل على النص بقراءة منفتحة وتترك للنص إمكانية أن يطرح عليها المناهج الملائمة لتناولها وهو ما يجعل قراءتنا لنصوصها مفيدة نظراً لما تحتويه من معارف ومتعة نظراً لما تدخره من مفاجآت.

فلو نظرنا على سبيل المثال إلى كتابها بناء الرواية الذى يتناول ثلاثية نجيب محفوظ والذى تقدمه على أنه بحث فى الأدب المقارن، لوجدناه زاخراً بالعلاقات التى تنسجها سيزا بين تخصصات الأدب والتاريخ وعلوم اللغة والفلسفة. فعند تناولها على سبيل المثال لمفهوم الزمن نجدها تنطلق من التمييز المألوف فى النقد الأدبى بين الزمن الواقعى والزمن الروائى والخاص.  

لكنها تضفى عليه بعداً فلسفياً بتبنيها لتمييز الفيلسوف الفرنسى برجسون بين الزمان والديمومة حيث يكون الأول تتابع موضوعى دقيق نستخدمه لفهم العالم الخارجى أما الثانى أى الديمومة فيتعلق بالتجارب الشعورية الداخلية للذات.

ولكى نقف على خصوصية إبداع نجيب محفوظ فى التعبير عن الزمنين تطرح أمامنا أولاً المؤلفة نماذج للروايات الأنهار أو ما يعرف بروايات الأجيال، أى تلك التى تتعلق بمسيرة عائلة على مدى طويل من الزمان فتقدم لنا نماذج  من هذه الأعمال الأدبية الضخمة عند العديد من الأدباء العالميين حيث  تظهر الرواية فى صورة مجلدات متتالية بلغت إحداها مع الأديب الفرنسى جول رومان سبعة وعشرين مجلداً وهى رواية رجال الإرادة الطيبة.

أما عن تقنيات التعامل مع الزمن فى السرد الروائى فتقدم لنا نماذج منها فى روايات مارسيل بروست وبلزاك وفلوبير وزولا وجلزورذي، وهو ما يعطينا إحساساً بأن سيزا لا تقدم لنا قراءة فى أدب نجيب محفوظ فحسب بل تفتح أمامنا أبواب الأدب العالمى على مصراعيه، فنحن أمام بانوراما تعرض فيها أهم الأعمال لأبرز أعمال الروائيين العالميين. هذا الموكب العظيم للأعمال العالمية الكبرى يأتى للاحتفاء بإبداع نجيب محفوظ وإبراز قيمته ويأتى أيضاً لإمتاعنا نحن القراء.

كذلك فى تناولها للمكان فى الرواية وطريقة تعامل محفوظ معه وبيان الفروق بينه وبين أدباء عالميين آخرين نشعر بأن هذه المقارنة لم تأت لإعلاء طرف على الآخر ولكن للشعور بعظمة الأدب الروائي. ويعكس هذا التناول تصورها لرسالة الأدب المقارن فهى ليست أسيرة لأى خصوصية قومية لكنها محاولة لمد الجسور مع الآداب الإنسانية من أجل فهم أفضل لجوهر الإنسان.

هذه الروح الإنسانية الرحبة وهذا الاعتزاز بثقافتنا العربية نجدها موجودة أيضاً فى كتبها النظرية مثل كتاب القارئ والنص والذى يندرج تحت تخصص فلسفة اللغة حيث نلمح فيه ميل سيزا قاسم إلى توضيح المفاهيم والمصطلحات غير المألوفة من خلال أمثلة من حياتنا المعاصرة ومن تفاصيل الحياة اليومية. فهى حين تريد أن تتناول فى هذا النص قضية جوهر اللغة فإنها تستعين بتشومسكى الذى يجد هذا الجوهر متمثلاً فى كيفية إنتاج جملة صحيحة نحوياً. كما تستعين بالطبرى الذى يراه فى القدرة على البيان التى تتيح للبشر التواصل فيما بينهم. وتستبقى كلا الجانبين: الجانب الإنتاجى والجانب الوظيفى. ولتوضيح معنى القراءة تقسمها إلى أربع درجات متتالية بنيوياً هى الإدراك ثم التعرف ثم الفهم ثم التفسير.

ولتوضيح مدى اتساع مفهوم القراءة تعرض لكتاب رولان بارت امبراطورية العلامات والذى حول فيه الشعب اليابانى بأسره إلى نص يسعى إلى قراءته من خلال العلامات المميزة للشعب اليابانى مثل طريقتهم فى التحية والأزياء الخاصة والابتسامات، نجدها تقدم أيضاً ما يقابل لهذه الظواهر فى حياتنا اليومية المعتادة .بمثل هذا التناول تنجح سيزا قاسم من شرح النظريات الحديثة فى اللغة وفى نفس الوقت تجعل النص أليفاً قريباً من تفاصيل حياة القارئ.

كانت سيزا تنفر من عرض النظريات المجردة إذ كانت ترى أن أقرب طريق كى تصل هذه النظريات إلى القارئ هو تطبيقها على نصوص عربية مألوفة لديه. فهى  تشرح لنا معنى السيميوطيقا بمثل بسيط: عندما أرى امرأة تسير فى الطريق ترتدى جلباباً أسود وعلى رأسها طرحة سوداء فإننى أعرف أنها فلاحة، أما إذا قلت: هذا الزى يدل على الطيبة والبساطة والصبر ومشاركة المرأة لزوجها فى الكفاح وتحمل مسؤلية أعباء الأسرة فأنت هنا تجاوزت حدود السيميوطيقا وانتقلت إلى الهرمنيوطيقا أى من إدراك العلامات إلى تأويلها. وبين أسماء تشومسكى وفوكو وبارت وحتى أغنيات جون لينون نجد أسماء الزركشى والسيوطى واستعادة الجدل الدائر حول قراءة القرآن الكريم فى تراثنا الفكرى ما بين القراءة دهرا والقراءة الصامتة وبين الترتيل والتجويد ومناقشة مفهوم القراءة بمعنى الفهم والتفسير.

هذه القدرة على إنتاج نصوص علمية وفى نفس الوقت ممتعة فى قراءتها ومشحونة بحب الإنسانية تدفعنا إلى البحث عن السر فى تمكن سيزا قاسم من إبداع هذه النصوص الفريدة.

يمكننا بالطبع أن نرصد إلمام سيزا بالأدب العالمى وسعة اطلاعها على النظريات الفلسفية واللغوية المعاصرة وإتقانها العديد من اللغات ومنهجها العلمى، ولكن قبل كل هذا توجد مجموعة من السمات الشخصية التى تتسم بها سيزا وهى شغفها الشديد بالبحث والمعرفة، فنحن حين نلتقى بها نجدها لا تتحدث معنا عما أنجزته ولكن عما تنوى إنجازه وعن مشاريعها المستقبلية وترحب بالنقاش حولها مع الزملاء والأصدقاء كوسيلة لبلورتها على نحو أفضل.

كانت إنسانة نبيلة تحمل هموم أصدقائها وزملائها وتحثهم على مؤازرة بعضهم البعض. ولم تكن تسعى إلى أى إشادة أو إطراء أو حتى الحصول على جوائز. كان ما يرضيها هو أن تنجز ما اعتبرته مهماً بالنسبة لثقافتنا العربية المعاصرة وتراه أصبح متاحاً فى أيدى الناس.