‬سلمى‭ ‬مبارك.. السلسلة الذهبية

سيزا قاسم مع زوجها الراحل
سيزا قاسم مع زوجها الراحل

ارتبطت ب الدكتورة سيزا قاسم من خلال علاقتى بأمينة رشيد. فعن طريق أمينة عرفت سيزا قاسم عام 2000، عندما اختارتها للمشاركة فى لجنة مناقشة رسالتى للدكتوراه. على مدار سنوات كانت تجمعنا اللقاءات فى مؤتمرات أو ندوات، لكن العلاقة لم تتوطد إلا بعد مرض أمينة الأخير وتواصلنا فى السنوات الأخيرة لمتابعة مستجدات حالتها الصحية. وقد لعبت سيزا قاسم دورا جوهريا وحاسما فى تيسير وترتيب أمور أمينة رشيد الحياتية فى السنة الأخيرة من عمرها على وجه الخصوص، رحمهما الله.

آخر مرة سمعت فيها صوت دكتورة سيزا قاسم كان يوم 2 يناير 2024، وكنت قد دعوتها للاحتفال بعيد ميلاد أمينة رشيد وهو احتفال نظمته مجموعة من أحباء أمينة يقرؤون فيه صفحات من مذكراتها ... طلبت قبلها من دكتورة سيزا مشاركتنا هذا اللقاء بمقدمة تلقيها عن أمينة ووافقت على طلبي.

اقرأ أيضاً | خيري دومة.. سيزا قاسم ونيكوس كازانتازاكي

لم تكن المرة الأولى التى أطلب فيها من سيزا قاسم مشاركتى الكتابة أو الاحتفال بأمينة، بل كانت المرة الثالثة. فى المرة الأولى شرفتنى بكتابة مقدمة لكتاب «أمينة رشيد أو العبور إلى الآخر»، كان بها قدر من التعبير عن الذات لم تبح به من قبل على حد قولها.

المرة الثانية قدمت مداخلة فى يوم الأدب المقارن الذى نظمه قسم اللغة الفرنسية وآدابها بجامعة القاهرة،  فى 2022 تجديدا لذكرى أمينة، كانت عبارة عن قصيدة لصلاح جاهين قرأتها بصوتها الجميل. ثم المرة الثالثة كانت لاحتفالية عيد ميلاد أمينة فى 1 يناير 2024...

انتابنى شعور بأن دكتورة سيزا لم تكن مرتاحة تماما لهذه المشاركة، لكنها أكدت لى المشاركة وقالت لى أنا لا أتأخر أبدا عن أى مشاركة تتعلق بأمينة. حدثتنى عن الفكرة الأساسية التى ستتناولها فى مقدمتها، وهى فكرة براقة تدور حول مفهوم السلسلة الذهبية وهو مفهوم مستمد من التراث الإسلامى ويعنى رواة الحديث النبوى الذين لا يرقى الشك إلى روايتهم. لكن المعنى الذى شرحته لى دكتورة سيزا فى هذا اليوم أثناء حديثنا التليفونى يشكل إعادة تعريف للمفهوم، حيث يعبر عن الشخصيات التى تترك إرثها الفكرى فيتلقفه التلاميذ ويعقدون به حلقة جديدة فى نفس السلسلة، حاملين الإرث ومطورين إياه.

قالت إنها تعتبر نفسها مع أمينة رشيد فى رباط تشكل حلقاته سلسلة ذهبية، وأنها بشكل شخصى ترى عملها الفكرى فى سلسلة عقد أولى حلقاتها طه حسين. كانت الفكرة متفردة، طازجة. فعبرت عن سعادتى الكبيرة بها. وكنا على موعد

. لكنها فى اليوم الموعود، اتصلت بى وقالت لى إنها تشعر بتعب كبير، وقالت :«أنا كبرت أوى يا سلمى أنا  تعبانة أوي، أنا تعبانة أوي». وأخذت فى الاعتذار كثيرا عن عدم مشاركتنا اللقاء. وفى اليوم التالى أعادت الاتصال بى واعتذرت مجددا

. كانت آخر مرة أسمع فيها صوت سيزا قاسم وبعدها ببضعة أيام قليلة جاءنى خبر وفاتها.

أفكر فى هذا المفهوم الذى منحتنى إياه: السلسلة الذهبية، وأرى تلك السلسلة قد تمتد بين الأستاذ وتلاميذه بشكل طولى أو بين الزملاء والأصدقاء الذين يجتمعون حول نفس القيم الفكرية والعلمية والإنسانية بشكل عرضي. السلسلة الذهبية هى التى يجب أن نتمسك بها ونحرص على ألا تنفرط حلقاتها.

السلسلة الذهبية تضمن تواصل المعرفة والعلم مهما تناثرت حولها قطع المعادن الرخيصة. فى أوقات عصيبة مثل تلك التى نعيشها، لا يظهر الأفق، نعقد حلقات السلسلة الذهبية، نشكل حلقاتها، ونتشبث بها، فتحمينا من التيه والضياع حتى ينقشع الضباب. رحمة الله على سيزا قاسم وعلى أمينة رشيد وعلى أساتذتنا الذين شكلوا سلسة الذهب وأورثونا إياها.