منى الشيمى.. يوسف كمال فى رواية أخرى

يوسف كمال فى رواية أخرى
يوسف كمال فى رواية أخرى

تعالى التنبيه: «على الركاب المسافرين إلى سالزبورج التوجُّه».. جررتُ حقيبتي، وقد سمحوا، لصغر حجمها، باصطحابها إلى الطائرة، مشيتُ بضع خطوات، وانضممتُ إلى طابور التفتيش النهائى. من الصعب تصديق الحظ الذى حالفنى، لأكون الآن فى طريقى إلى النمسا: فتح الأجواء أمام الطيران، وإرسال فرديناند الدعوة باسم مركز الفنون فى ستوربل، على الرغم من انتهاء فترة ترؤسه له، الحصول على نتيجة مسحة الـ PCR السلبية، وموافقة السفارة على منحى التأشيرة بلا تعقيدات، كل هذا مع توافر مبلغ من المال بالمصادفة، قمت بتحويله إلى يوروهات، وبقليل من الاقتصاد، سيغطى النفقات حتى العودة!

قبل بضعة أشهر كنتُ أدور فى متاهة، وأفكِّر فى إيقاف البحث عن الأمير يوسف كمال، لكن الأمر انفرج فجأة، بعثورى على مقالة طويلة عنه لكاتبة اسمها: ليون سترازيك، منشورة فى موقع بيبرس مجازين، على الرغم من كونها باللغة الألمانية التى لا أعرفها، وصورة الخديو عباس حلمى الثانى المصاحبة لها، وجعلتنى لأسبوعين، أشعر أنها مثل معظم المقالات: منسوخة من مقالات أسبق، ولا تحمل معلومات دقيقة، إلا أننى، وفى لحظة إلهام، أدركتُ أن ما تحتويه، هو ما أبحث عنه نفسه. ألححتُ على محمد؛ ابني، الذى يجيد الألمانية، فى ترجمتها، وكان حدسى صحيحًا. فيما بعد بحثتُ عن الكاتبة على الفيس بوك، للدهشة وجدتها بسهولة، وأوصلتنى لاحقًا بمصدر معلوماتها: فرديناند جوتس؛ ابن أخي: هوبير جوتس؛ خادم يوسف كمال الخاص، والذى لم يعِش معه الفترة الأكثر غموضًا، ما بعد يوليو 1952 فحسب، بل قبلها بكثير.

اقرأ أيضاً| طيور مهاجرة: لماذا أصبح حُلم الشباب هو الهجرة؟

احتضننى الكرسى وربطتُ الحزام، فيما عجلات الطائرة تفارق ممر الإقلاع. سفر خارج مصر أخيرًا بعد توقف حركة الطيران حول العالم، يعنى الخروج من فقاعة الكآبة الجمعية، وهروبًا مؤقتًا من ملاحقة أخبار موسم احتجاج سبتمبر والقبض العشوائي. ساعات خمس فى الجو، ثم ليلة فى أوتيل التشتات هوفيرت. ترجم محمد لى الكثير من الجمل إلى الألمانية، قد أحتاجها إذا ضللت الطريق! سجلتها فى نوت الموبايل، على الرغم من نظرته التى كانت تتهمنى بالجنون، للجرى فى بلاد الله، لخلق الله، بحثًا عن بطل رواية.

ثلاث سنوات فى البحث! عشرات الكتب ومئات من فناجين القهوة. جمعتُ الكثير عنه من ثنايا التاريخ، لكن أشياء تبقَّت جعلت بعض المعلومات غير منطقية أحيانًا، متناقصة فى أحيان أخرى! ظللت بحاجة إلى حلقات وصل، تخلق مما جمعته حياة.

أحكمتُ وضع الكمامة على فمى وأنفي، على الرغم من اختناقي، وكرَّرتُ بلع ريقى كل بضع ثوانٍ، كى لا أشعر بألم الأذنين، لاختلاف ضغط الهواء قبل وصول الطائرة إلى مسارها فوق السحب.. تذكَّرتُ تفاصيل المكالمة التى أجريتها منذ أسبوعين مع حفيد الخديو إسماعيل. دقَّقتُ الرقم فظهر اسمه على ترو ـ كولر: البرنس عباس حلمى الثالث اندهشتُ، التطبيق جاسوسى، يدخل هواتف الآخرين ويعرف بأى اسم يسجِّلون الأرقام! لن يتخلَّى عن إحساس الإمارة، إذا كان كثيرون لا يزالون يمنحونه إياها، على الرغم من مرور سنوات طويلة على ترك عائلته الحكم!

لن أقول: سموَّك!. همستُ لنفسي، ثم سخرتُ من الهاجس، لا بد أننى لا أزال أحمل جينات أجدادي، من استعبدهم الوالي: محمد على وخلفاؤه مائة وخمسين عامًا!
قطع أفكارى قيامه بالرد. حيَّيته فأجاب: «أهلا بك»بأرستقراطية لم تؤثر فيها تقلُّبات الزمن. عرَّفته بنفسي، وكان على علم مسبق باتصالي، من صديقة صحافية أجرتْ معه حوارًا من قبل. لم يكن متحمسًا، مع هذا بدأتُ الأسئلة:
«ماذا فعل الأمير يوسف كمال بعد يوليو 1952؟”
قال: «فور رحيله من مصر اتجه إلى سويسرا. لم تكن معه أى أموال، حدث أمر عجيب، أرسلت جامعة ليدن إليه أحد موظفيها، عندما علموا بحركة الضباط، ليبلغه أنهم اتخذوا قرارهم بإعادة المبلغ المالى الكبير الذى سبق وأهداهم إياه لتجهيز «المجموعة الكمالية”، بعد أخذ تكلفة الطباعة فقط، وكانت بنسبة 20% من مجمل المبلغ. صارت لديه ثروة لم تكن فى حسبانه!»

قرأتُ أن الأمير طبع: «المجموعة الكمالية لجغرافية مصر والقارة الإفريقية” فى ليدن بهولندا! أرجأتُ التفكير فيما قاله، سألته: «هل دبَّر من تلك الأموال مكانًا يعيش فيه؟» جاءت المفاجأة الثانية: «لا.. كان لديه باتلر نمساوي، من مدينة ستوربل، ولأن للأمير تصرُّفات تتسم بالغرابة أحيانًا، قرَّر فى وقت أسبق من حركة الضباط، أن الباتلر صار عجوزًا ويجب أن يحال إلى التقاعد، وضع له مبلغًا من المال فى مؤسسة للتأمين على الحياة هناك، ثم أعاده.. بعد لجوء الأمير إلى سويسرا بفترة قصيرة جاءه الباتلر، وقال إنه أسَّس بالمال بيتين: واحدًا صغيرًا له ولعائلته! أما الكبير ففى انتظار سموه!»

تساءلتُ: «ما كل هذه المنح الربانية؟! إنصاف ليس لأحد من البشر قدرة على مصادرته» تنبَّهتُ، وسألته عن سر عدم زواجه كما جاء فى المقالات التى كُتِبت عنه. أجاب: «تزوَّج الأميرة شيوه كار ابنة عمه» قلت، لأصحِّح المعلومة: «لا، تزوجتْ شيوه كار خمس مرات، يوسف كمال ليس واحدًا منه...
قاطعني: «آه، أنت تعرفين أكثر منى» اندهشت من رده! شعرت بفتوره مرة ثانية! قلت: 
«سؤال أخير.. أين دفن؟»
«فى ستوربل أيضًا»

كنتُ قد قرأت خبرًا يقول: إن جثمانه سيصل القاهرة ليدفن فى الإمام الشافعي. فى اليوم التالى ذهبتُ هناك، ظللتُ أسأل عن مدفنه، لكن كل من لجأتُ إليهم سألوني: «ما اسم غفير الحوش؟» الغفير أهم، يعيش ويختلط بالباقين. يومذاك عدت من دون الوصول إلى شىء.
«هل سموك متأكد؟»
رد بثقة:
«دفن فى النمسا»
أنهيتُ المكالمة، وبحثتُ فى الملف الذى جمعته من أرشيف الجرائد، حتى عثرتُ على الخبر، الأهرام بتاريخ: الاثنين 7 فبراير 1976: «يصل إلى القاهرة صباح يوم الخميس جثمان الأمير السابق يوسف كمال الذى توفِّيَ فى لبنان، وقد وافقت الجهات المختصة على دفنه فى القاهرة، فى المقبرة التى كان قد أعدَّها لنفسه فى الإمام الشافعى!»
لبنان، أم النمسا؟
معلومتان خاطئتان واثنتان غير مؤكدتين!!
استرجعتُ المعلومات التى جمعتُها عن الحادث الذى نتج عنه عداء بين فرع يوسف كمال وفرع الخديو إسماعيل، وقيام الأخير بتهميشه والتضييق عليه، بعد أن كان على وشك حكم مصر. كان ذاك فى ليلة عيد الفطر 1858. تلقى الأمراء ورؤساء النظارات دعوة من الوالى سعيد، للاحتفال فى سرايا القبارى بالإسكندرية. بعد انتهاء الوليمة فجرًا اتجه المدعوون ومعهم ولى العهد الأمير أحمد رفعت، جد يوسف كمال، سيرًا على الأقدام إلى محطة سيدى جابر، ليأخذوا القطار عائدين. كان قد مضى على تشغيل خط الإسكندرية ـ القاهرة عامان. أرسل إلى رئيس مصلحة السكة الحديد، من يرجوه أن يوفر عليه مشقة النزول فى كفر الزيات، وأن تنتقل العربة التى يستقلها، إلى العبَّارة التى ستحملها إلى كفر العيص بالبر الثاني، وهو على متنها، لأن المسافة بين العربة والعبَّارة كانت كبيرة، والأمير يريد تجنُّب الزحام!

أما الأمير إسماعيل أخوه الأصغر فتخلَّف عن السفر بعد أن شعر بالتعب، ونصحه الطبيب بالبقاء فى الإسكندرية.
ظُهر اليوم أعلِن عن سقوط العربة فى الماء وغرق ولى العهد أحمد رفعت. تم إخطار الوالى سعيد، وتوجَّه رئيس مصلحة السكة الحديد إلى موقع الكارثة. استُجوِب عالم بريطانى كان يتطوَّع بالمشاركة فى عمليات التحميل والتفريغ، وكان يقطع النيل على العبَّارة ذهابًا وإيابًا. استُجوِب أيضًا وكيل المحطة، ورؤساء فرق العمال، وكانت النتيجة: شجع الأمير من داخل عربته العمال على الدفع، وقدم لهم البقشيش بمناسبة العيد، فحمَّسهم بريق القطع الذهبية وكثرة عددها، وأدَّى التهافت من أجل دفع العربة إلى زيادة سرعتها بشكل كبير، إضافةً إلى الرياح الشديدة، فتدحرجت خارج أسوار العبَّارة ووقعت فى النيل.

ورأى الجميع أن التحقيق دقيق ونهائي، وعندما قرأ الوالى سعيد التقرير، لم يشكَّ فى أنها محاولة اغتيال مع أن الشك كان من طبعه.
كانت تلك أول حادثة قطارات فى العالم!