صدوق نورالدين.. النوم إلى جوار الكتب: تلوينات الحكاية

 صدوق نورالدين.. النوم إلى جوار الكتب: تلوينات الحكاية
صدوق نورالدين.. النوم إلى جوار الكتب: تلوينات الحكاية

أسئلة التجربة الأدبية
1
تتفرد التجربة الأدبية للكاتب العراقى لؤى حمزة عباس (1965) بالتنوع. فالبدايات تأسست انطلاقا من الإبداع فى جنس القصة القصيرة : «على دراجة فى الليل»(1997)، «العبيد» (2000)، «ملاعبة الخيول»(2003)، «إغماض العينين»( 2008)، «حامل المظلة»( 2015)، «قرب شجرة عالية» (2017) و»مرويات الذئب» (2019). بيد أن ما يلاحظ عن هذه البدايات:

أ/ التراكم المتحقق على مستوى المنجز فى جنس القصة القصيرة. وهو ما يقود إلى القول بأن لؤى حمزة عباس من حيث اختيارات الإنجاز، يولى الأهمية لما يمثل الجنس الأصعب كتابة، وأقصد القصة القصيرة.

ب/ إن ما يترتب عن الملاحظة الأولى، انخراط الكتابة القصصية لدى لؤى حمزة عباس فى التجريب الفنى والجمالى نحو ما طالعنا فى كتابات إدوار الخراط، يوسف الشاروني، إلياس فركوح ومحمد زفزاف على تباين واضح بين هذه التجارب.

ويمكن الاستدلال بالتحديد الأجناسى للمجموعة القصصية «ملاعبة الخيول»، إذ حدد ميثاق القراءة فى «طفولات قصصية». والأمر ذاته بالنسبة لمجموعة «العبيد» التى صنفت فى «كتاب قصصي».

اقرأ أيضًا| محمد أسامة.. عالم يطنّ فى أذنى: تأمل على أعتاب الروح

إذ عوض التحديد المألوف «قصص» مثلما هو الجلى فى بقية الآثار، يتحقق التنويع بغاية الإضافة، والتجديد بهدف خلق تلق مغاير لما يتم إنجازه، ولئن يظل السؤال: إلى أى حد سيجد التوجه الأدبى المغرق فى تجريبيته صداه لدى القارئ؟ 

ت/ الاستمرار كما يشير إلى ذلك البعد الزمني: من (1965) إلى (2015). بيد أن ما يحيل على الاستمرار، التراكم الذى يخول إمكان تشكيل تصور نقدى عن المنجز القصصى كما ورد فى التجربة الأدبية للقاص لؤى حمزة عباس.

على أن الامتداد بالتجربة الأدبية على المستوى السردى تحديدا، سيتمثل فى الكتابة الروائية التى راكم فيها لؤى حمزة خمس روايات: «الفريسة» (2005)، «كتاب المراحيض»(2007)، «صداقة النمر» (2011)، «مدينة الصور»(2011).

«حقائق الأشياء الصغيرة» (2020). فالكتابة الروائية توسيع للممارسة السردية، وتجسيد للكفاءة الأدبية الإبداعية فيما يتعلق بالتخييل السردي.

والأصل أن الموازاة بين الممارسة فى جنسين إبداعيين سرديين طالعنا فى أكثر من تجربة إبداعية عربية، كمثال لدى محمد خضير، فؤاد التكرلي، أحمد خلف، غالب هلسا، إدوار الخراط، عبد الكريم غلاب، محمد عز الدين التازي، محمد زفزاف، محمد صوف وغيرهم.

بينما نجد أن ثمة من المبدعين من كرست أسماؤهم فى جنس القصة القصيرة فقط، وأمثل بثلاثة أسماء مغربية : القاصان الراحلان إدريس الخورى ومحمد إبراهيم بوعلو، إضافة لأحمد بوزفور الذى برع فى كتابة القصة القصيرة دون إمكان تجاوزها للممارسة الروائية.

يتمثل الشق الثانى من التنوع فى صورتين: تتعلق الأولى بالباحث و الدارس الجامعى الأكاديمي. وترتبط الثانية بالكاتب المتأمل فى واقع الأدب والكتابة.

يبرز الأستاذ لؤى حمزة عباس الباحث الجامعى انطلاقا من آثار أدبية أولت العناية والاهتمام للتراث الأدبى القديم، فى محاولة لترسيخ القراءة المغايرة التى تركز على مساءلة النص الأدبى بهدف استكشاف خاصاته الأدبية والجمالية بعيدا عما درجت عليه الكتابات الكلاسيكية التى تغلب السياقات التاريخية والاجتماعية دون إيلاء النص الأدبى المستحق تفسيرا وتأويلا.

هذه الصورة الأولى تطالعنا فى الكتب التالية «سرد الأمثال» (2003)، «سلوان السرد»(2008) و»بلاغة التزوير»(2010).

إذ من خلالها يتضح بأن الأستاذ لؤى حمزة عباس ينتصر للمناهج الحديثة فى الممارسة البحثية والنقدية. وأما الكاتب المتأمل الذى يصدر عن انطباعات وليدة التخييل والتخيل، فتتأسس الكتابة لديه على القراءة المفتوحة التى تعتمد بنا منهجها من داخلها بعيدا عن أية صرامة ودقة، وإنما هى وليدة لحظة القراءة فى علاقتها بالذات.

إنها سيرة ثانية تستكمل المعنى الوارد على مستوى السرد: قصة و رواية. ويتجسد هذا فى الكتب التالية: « المكان العراقى جدل الكتابة والتجربة»(2009)، « الكتابة إنقاذ للغة من الغرق»(2014) و«النوم إلى جوار الكتب»( 2017). والملاحظ أن لفظ الكتابة يرد مباشرة فى العنوان الأول والثاني، وأما فى الثالث فيشار إليه ككل من خلال الكتب.
             
حكاية القراءة والكتابة
تتباين الصيغة المعتمدة فى كتاب «النوم إلى جوار الكتب» (2017)عما سبق وطالعنا فى الكتابة النقدية المنجزة بخصوص لطفية الدليمي، صفاء ذياب، عزت القمحاوي، بثينة العيسى، حسن مدن، عبد الجبار الرفاعى وماهر البطوطي.

فمرجعية الكتابة القصية تظل حاضرة. فالأستاذ والكاتب لؤى حمزة عباس يؤسس بناء حكايته انطلاقا من وقائع ذاتية تنتج معنى بأن ما يقرأ سيرة ذاتية صرف، لولا أن ما يكسر الاعتقاد الانتقال من هذا المستوى إلى ثان يمثل فيه الحديث عن شخصيات أدبية وفنية ربطتها والذات علاقات تأثر وتأثير. وهو ما أشار إليه المؤلف بالتداخل بين الخاص والعام. الخاص بما التاريخ الشخصى الذاتي، والعام كتوثيق دقيق عن المرحلة التى عاشت الذات تفاصيلها. من ثم، فإذا كان الأمر يتعلق ب:

« ليست سيرة الكاتب، على ما يظن، سوى رحلته من الكتب.» (ص/10) 
فإن الأمر ينفتح ليتجاوز الرحلة والكتب، إلى الرحلة الموازية وشخصيات طبعت المرحلة بآثارها، وكأن التدوين لا ينحصر فقط فى جانب من سيرة الذات، وإنما فى تفاعلاتها وهذه الشخصيات، وبالتالى فى كتابة تفصيل أو حيز من حياتها. وبهذا يكون التلقى أمام جزء من سيرة ذات، وسيرة الغير منظورا إليها من خلال الذات.

لا تختلف بدايات العلاقة والكتاب وما سبق وتعرفنا عليه لدى الأستاذ عبد الجبار الرفاعي، علما بأن الظاهرة المتمثلة فى كون نواة هذه العلاقة وليدة مرحلة التعليم والتعلم تكاد تكون عامة بالنسبة لجميع الأدباء والكتاب. فميلاد القراءة لدى الأستاذ لؤى تأسس انطلاقا من الأدب العربي، ليمتد فيشمل الآداب العالمية فى روائعها الخالدة. إنه التكوين الشمولى الجامع بين المرجعية الأصل، وما ترتب، بحكم ارتكاز الميلاد على جنس الرواية، إلى القول المتداول المعروف بأن فن الرواية يظل غربيا ككل:

«بعد العودة إلى الدراسة سأل مدرس العربية الطلاب عن الكتب التى قرأوها خلال العطلة الصيفية، كانوا فى المرحلة الأخيرة من الدراسة المتوسطة نهاية سبعينيات القرن الماضي، لم يرفع سوى عدد قليل من الطلبة أصابعهم، وكان واحدا منهم. اقترب المدرس وسأله كما سأل الطلاب من قبله، كان قد قرأ كتبا بقى فى ذهنه منها بعض روايات خليل جبران ونجيب محفوظ ورواية صغيرة واحدة لإرنست همنغواي.» (ص/11) 
على أن البدايات _ وإن جسدت مرحلة من الماضى _ فإن الحاضر فى ضوء كونه التجسيد الفعلى للكتابة والتدوين يطرح سؤال الجدوى من الأدب، وما اعتبر _ إذا حق _  فى زمن «جون بول سارتر» دعوة إلى الالتزام والتعبير عن قضايا الواقع الاجتماعية والسياسية والثقافية. فالكاتب وفق رؤية الأستاذ لؤى _ والمثقف عموما _ لم يعد يسهم فى عملية البناء وفق ذات الوظيفة التى عرف بها وأوكلت له. والأصل أن مؤسسة الكاتب فى العالم العربى ليست ذاتها فى الغرب، حيث _ وبالضبط_ يلعب الجهاز الإعلامى دوره فى الانتصار للكاتب والمثقف على تباين وتفاوت الاهتمام بين دول الغرب والمسألة الثقافية:

«..فلا الأدب اليوم هو أدب ما قبل قرن من الزمان ولا العالم..» (ص/14)
«..ثمة غياب مزدوج يعيشه الكاتب اليوم، لا الأدب وحده، مع تراجع موقعه فى عملية (البناء) وغياب قدرته على إدراك دوره النقدى وهو يعيش كما يعيش أى فرد آخر، عالم تهدد السكين فيه حبل السرة بين الثقافة والحياة.»(ص/14).

وأرى فيما ذهب إليه «غابريال غارسيا ماركيز» من تحديد لمفهوم الالتزام فى ضوء الراهن، التصور الموضوعى الذى يعيد للأدب صورته الحقة. وهو تصور أورده المؤلف فى هذا السياق:

«على الأديب الملتزم أن يكتب جيدا، ذلك هو التزامه.» (ص/14).
إن حديث البدايات والتساؤل لاحقا عن جدوى الأدب، يستدعى وبالارتباط إثارة المفهوم الذى تحدد فى ضوئه صورة المكتبة باعتبارها الحياة الثانية للشخصية بما تضمه وتحويه من مؤلفات مرآة التكون والتكوين.

وبالتالي، فهى على السواء ما يقود إلى الحكم على الشخصية وتقييم فكرها و ما تقدم على إنجازه من آثار أدبية دليل الحكم على الشخصية وتقييم فكرها وما تقدم على إنجازه من آثار أدبية هى دليل استمرارها خالدة وجوديا.

فمن المكتبة الصندوق الذى يخفى ويستر، إلى المكتبة الرفوف حيث الترتيب والكشف عن الحقيقة، حقيقة ما يقرأ وما يمتلكه الكاتب من جواهر أدبية تؤالف بين أفانين التراث القديم والحديث:

«المكتبة نفسها صورة للمعانى الخفية وراء كل كتاب من كتبها، جنة المعانى البعيدة وفردوس الوساوس والأحلام.»(ص/12) 
« والمكتبة بهذا المعنى هى الحياة التى تولد فى ركن ملجأ تحت الأرض، تأوى كتبها إلى صندوق عتاد برفوف خشب اعتاد الجنود أن يرتبوا فوقها الكتب التى يأتون بها بعد الالتحاق من إجازاتهم الدورية.» (ص/12).

 
ب_ يجسد الإيقاع الثانى من حكاية القراءة والكتابة _ كما سلف _ ، العلاقة التى وصلت الذات والأسماء العلم فى الأدب والفن. هؤلاء، مثلوا للأستاذ لؤى حمزة عباس رموزا تماهت الذات وآثارهم التى ستظل خالدة تستحضرها الذاكرة بقوة كى لا تسقط فى النسيان. على أن من خلال الاستحضار، يتحقق التوثيق لمرحلة فى تاريخ الغناء العربى إن لم نقل فى تاريخ الصوت المطرب.

من ثم جاءت حكاية «عشق السيدة» التى أعدها من أهم ما كتب عن «أم كلثوم»، لتسهم فى إنتاج معنى العلاقة والصوت. العلاقة التى تستعيد فيها الذات تفاصيل حياتية لعب فيها الصوت دوره فى التأثير عليها نفسيا و وجدانيا بل فى ولادة أحاسيس بقيمة وأهمية الفن فى حياة الإنسان. فإذا كانت الحكاية تكتب لتقرأ، فالصوت يسمع فى حال الغناء، وثم التكامل بين القراءة والسماع:

«إنما هو زمن الحكاية حينما تصبح الحكاية ذكرى، وتصبح الذكرى عزاء، أو ما يشبه العزاء، زمن يستعاد عبر الصوت، وبالصوت يكتب حكايته مثلما حكيت من قبل، بما فى طياتها من مواجع وأحزان». (ص/47).

«مع أم كلثوم يلتقى التاريخان العام والخاص، يتضافران ويتواشجان، يعيدان بلقائهما سرد وقائعنا الشخصية منها والعامة، يكتبانها على نحو جديد بعد أن يدور الزمان دورته، وتغرق فى نهره أحلام وتفسيرات ودعاوى وأفكار، يظل الصوت وحده مئذنة من ذهب». (ص/ 50).

وبالتأسيس على الصوت، تحقق التعرف على المحيط الذى أسهم فى إبرازه وإعلانه للوجود، أو الذى شاركه جماليات الغناء والكلمة فى مرحلة لا يمكن أن تتكرر: أحمد رامي، إبراهيم ناجي، محمد القصبجي، زكريا أحمد، الشيخ أبو العلا، رياض السنباطي، محمد عبد الوهاب، محمد الموجي، بليغ حمدي، بيرم التونسي، مرسى جميل عزيز وأحمد شوقي. 

وتتوسع الحكاية تنويعا باستجلاء العلاقة التى تصل اللوحة بالحكاية، أو الحكاية باللوحة انطلاقا من المنجز الجمالى للفنان العراقى فيصل لعيبي. فمن خلال التأمل الذى يصدر عن الأستاذ لؤي، فإن الفنان فيصل يتفرد بحكى حكايته داخل منجزه، أى أنه يصوغ سيرته الذاتية فى اللوحة/اللوحات التى يقدم على إبداعها. وهنا تحاور الذات، الذات. يحاور الحرف، اللون، فى محاولة لقراءته والاستمتاع بالمعنى المعبر عنه ذاتيا و واقعيا بالاعتماد على الذاكرة وتداخل الحلم بالخيال :

«فالحكاية مازالت تلقى ظلالها على مجمل أعماله، على اختلاف مصادرها وتباين تقنياتها، وتشغل موقعا شديدا فى عالمه». (ص/ 55).
« إنها قراءة حسية إلى حد بعيد، متعية إن أمكن تقترحها اللوحة بناء على صلتها بالحكاية وهما يواصلان النظر لواقع صعب بتحولاته العنيفة ومآلاته المأساوية التى لم تمنع الفنان من تنمية أحاسيسه وتطوير آليات متعته ابتداء من قوة اللون وصفائه وجلاء موضوعاته وهو ينشد عالما ظاهرا، نقيا، كامل النور، يكسر الكثير من حدة الواقع وظلام مروياته، كأنه يعيشه للمرة الأولى، فالذاكرة لا تستعيد فى لوحة فيصل لعيبى فحسب، بل تبتكر مستثمرة طاقة الخيال لاقتراح مساحة حلمية تخترق الواقع لتعيد بنائه من جديد.» (ص/57).
 
ت _ يبرز أثر الفقدان فى هذه الحكاية الممتدة امتداد الحياة، بتذكر الغيابات التى طالت أدباء وكتابا ربطتهم قرابات والأستاذ لؤى حمزة عباس، سواء من خلال منجزهم الإبداعي، أو عن قرب. من ثم جاء استحضار هذه الشخصيات مطبوعا من ناحية بالحسرة والألم، وأخرى بتعداد الخاصات الجمالية والفنية التى ميزت كتاباتهم الإبداعية وجعلتهم يتفردون، ويلفتون النقد الأدبى إلى قوة تجاربهم. ونجد من هؤلاء : بدر شاكر السياب، محمود البريكان، محمود عبد الوهاب، فؤاد التكرلى وحسين عبد اللطيف. وإن مثل هؤلاء الأدباء _ وبحق – (وجوه المكان)، فإن المؤلف يستدعى على السواء إبراهيم أصلان فى تجربته الإبداعية الرائدة، ولاحقا رائد الرواية العربية نجيب محفوظ فى نصه العصى على التجنيس «أحلام فترة النقاهة»، ومحمد خضير  من خلال «أحلام باصورا». 

ولقد حرصت فى هذا الجانب من الحكاية المرتبط بالفقدان، على الاستشهاد بالخاتمات النهائية التى يغلق بها الأستاذ لؤى مرثياته لهذه الشخصيات الأدبية، مادام أن بلاغة التكثيف فيها قوية. يقول عن إبراهيم أصلان:

«هل وصلت أول النهار يا إبراهيم، هل أعطيت للصبى ما أعطيت، وهل أغلقت حقا من خلفك الباب؟» (ص/69)

وعن محمود عبد الوهاب :
«محمود، الآن ميت، وأنا فى البيت وحدى منذ أيام، أواصل القراءة، تعاودنى خطاه البطيئة المتمهلة، يعاودني، فى لوعة السؤال، صوته». (ص/72).

وأما عن حسين عبد اللطيف فيختم كتابته هذه بالقول:
« الشاعر الآن يغمض عينيه، وقد انتهى حفل الألعاب النارية محققا رجاءه الأخير: 
« هل سمحت لى بإطفاء السراج
فراشتى العزيزة 
أريد أن أخلد إلى النوم.» (ص/79)
     
 2 
أ _ يتحقق الحديث عن رائد الرواية العربية نجيب محفوظ انطلاقا من آخر أعماله الإبداعية «أحلام فترة النقاهة». فمن خلال تأمل قصير شكل إضافة للحكاية المنسوجة من لدن راويها المبدع لؤى حمزة عباس يتم الحديث عما أدعوه ب «فن الاستقطار». فالرائد نجيب محفوظ فى تجاربه الأخيرة أسهم فى إنجاز آثار أدبية انطبعت بالتكثيف والاختصار. ونمثل _ إذا حق التسمية _ بثلاثية «أصداء السيرة الذاتية»، «أحلام فترة النقاهة»، « أحلام فترة النقاهة الأحلام الأخيرة». واللافت كون الأستاذ لؤى قد بنى تأمله على استدعاء المتحقق فى تجارب محفوظ السابقة، وما انتهى إلى إنجازه فى المراحل المتأخرة من حياته، وكأنه يؤسس لمقارنة تستحضر السابق واللاحق على السواء. والأخير، إنصات للذات واختزال للزمن وبلاغة فى القول. إنه الاستكمال لمرحلة أدبية ممتدة بامتداد الزمان والمكان.

غير أن التحديد الأجناسى الدقيق يصعب تثبيته، من ناحية لكون نجيب محفوظ لم يحدد الجنس الذى ينجز فى ضوئه، وإنما اكتفى بالقول «أحلام». وفى سياق هذا التحديد الواسع يستدعى الخيال، التداعى والاستحضار. وهى «مفردات» تتأسس على جمالية القول الأدبى ولا تخطئه:

«فى «أحلام فترة النقاهة» يختار نجيب محفوظ أن ينصت لتجاربه، ويستقطر أيامه فى لمح خاطف متأملا ما تبقى بين يديه وقد ألفتا صناعة الجمال على امتداد ما يقارب القرن من الزمان.» (ص/ 65).

« إنها (أحلام) تغتنى وتضاء بمهارة صاحبها، وتتوهج وتسمو بقدرته على اختراق الحواجز الزمانية منها والمكانية، وعبور الموانع والمحددات، ليبتكر نجيب محفوظ فى أحلامه سبيلا للوصول إلى الذات، ذات الكاتب، وهى تقف فى محطتها.

الأخيرة حيث ترى الجموع و لا تراها وحيث تسمع الأصوات و لا تسمعها.» (ص/65)
ب _ يمثل القاص والروائى العراقى محمد خضير فى هذه الحكاية، تفصيلا لعلاقة الكتابة بالحلم. فالأستاذ لؤى يستجلى العلاقة انطلاقا من كتاب «أحلام باصورا»، حيث يذكر بما عبر عنه خضير من كون المرجعية الأساس المعتمدة فى إبداعه الحلمى ترتهن لما جاء به نجيب محفوظ. من ثم، فإن خضير بكفاءته الأدبية العالية يتمم المعبر عنه لدى محفوظ. فثنائية رحلة الحياة/ رحلة الكتابة، توازى رحلة الواقع/ رحلة الخيال (مدن الواقع/ مدن الخيال حسب «كالفينو). وذلك من منطلق كون كل كتاب هو كتاب أحلام، مثلما أن كل حلم نواة لكتاب كما يرى الأستاذ لؤي. ف «باصورا» تستعاد واقعيا وحلميا. وفى الاستعادة تتخيل أمكنة أخرى وأزمنة يختزلها الزمن الواحد. وتحضر أسماء تعرفتها الذات بالمعاشرة، الصداقة ونوعية الاهتمام: بدر شاكر السياب، سعدى يوسف، محمود عبد الوهاب، محمود البريكان ومهدى عيسى الصقر.
«الطريق إلى باصورا أطول الطرق المؤدية إلى مدن العالم القديم» (ص/ 91)
«..إنها مدن القول المخبوءة فى كل سطر، مدن الحلم التى رويت ، قبل ذلك، مرات، وستروى، بعد ذلك، مرات.» (ص/92)
على ألا يتم الغفل عن كتاب نواة _ إذا حق _ : «بصرياثا». فمحمد خضير  حسب هذا، كاتب الأمكنة واقعيا وخياليا. 
   
 3  
يقود ما جئنا عليه فى هذه الكتابة الأدبية النقدية إلى القول:
_ إن الأستاذ لؤى حمزة عباس فى مساره الأدبى الثري، يتفرد بالتنوع من حيث الممارسة فى حقل الكتابة. إذ يوازى بين البحث وفق مقتضيات الدرس الجامعى الأكاديمي، والإبداع و التأمل على مستوى الكتابة فى جنسين أدبيين: القصة القصيرة والرواية. 
_ إن كتاب «النوم إلى جوار الكتب»، سيرة ذات فى علاقاتها التى نسجتها والكتب مبكرا، إلى الانفتاح على العالم الفنى ممثلا فى الغناء والتشكيل. والملاحظ بخصوص هذه السيرة دقة الاختيار لما يجدر الحديث عنه. وهو التجسيد الدقيق لصورة القارئ الذى خبر ويخبر عالم الثقافة والأدب والفن.
_ يستكمل الكتاب/ السيرة، المنجز الذى أقدم عليه لؤى حمزة عباس فى كتابه «الكتابة إنقاذ اللغة من الغرق» (2014). وهو ما يستلزم إضاءة فى صيغة ملحق عنه بهدف تشكيل صورة جامعة عن العلاقة والقراءة إلى الكتابة الأدبية.