محمد أسامة.. عالم يطنّ فى أذنى: تأمل على أعتاب الروح

محمد أسامة.. عالم يطنّ فى أذنى: تأمل على أعتاب الروح
محمد أسامة.. عالم يطنّ فى أذنى: تأمل على أعتاب الروح

«تصاعد أنفاسى إليك عتابُ
وكل إشاراتى اليك خطابُ 
وإن لاحت الأسرار فهى رسائلٌ،
فهل لرسالاتِ المُحب جواب؟!
فليتك تحلو والحياة مريرة
وليتك ترضى والأنام غضابُ».

بالرغم مما رأيته من اختلاف حول نسبة تلك القصائد وقصتها؛ فالبعض يميل لكونها من تعبيرات «العشق الإلهى»، فيترددون لنسبها إما للعارفة رابعة العدوية، وإما لعمر بن الفارض. والآخر يفطن بأنها مجرد رسالة ألقاها الشاعر والفارس أبو فراس الحمدانى مسترضيا ابن عمه سيف الدولة حتى يرق لحاله ويسعى لفك حبسه. وكلاهما يرسم قصيدته وفق ما يرى.

لكن لو تأملنا الأبيات أكثر، نجد تقاربا قويا لم يوقفه الاختلاف بين مقامات الحوار -مناجاة إلهية، أو عتاب بشري- فكلا التأويلين يوصلنا لحالة شبه ثابتة عن المتكلم والمناجي، تصور إلينا ضياعه فى عالمه. وتنقل شعوره بالخوف من سرعة الحركات حوله حتى زمنه، والتى تتجمع عليه لتكون طنينا ذا نغمة تزيد إحساسه بالثقل واليأس. ونرى من خلال ذلك فراره وانزوائه عن الناس -برغبته أو مكرها عليها-، تاركا خيطا من زفراته المتعبة يعبر عن حاجته لوجود رفيق يفهمه، وينعم برسائله حتى وإن أظلمت الدنيا.

اقرأ أيضًا| شوبنهاور.. السعادة والنيرفانا

تأتى المجموعة القصصية «عالم يطن فى أذني» للكاتبة مروة مجدي- والصادرة عن دار نيسان للنشر مطلع هذا العام- مكملة لدواوينها الشعرية الثلاثة «ربع قرن لاقتناص تنهيدة- زهرة محاربة - طيف عابر يحاول أن يشب» فى وصف تلك الحالة وتجسيد لقطاتها المترددة بين تحطم الذات والآمال المبنية عليها، نتيجة عبث الحياة بأرواحهم التى لا تود سوى الدفء كما بقصة «فأر تجارب» ثم اليأس نتيجة مزيج من خذلان من احتمت بهم الشخصيات، والخيبة من اختلاف النظرة حوال الأشياء لتصل لدرجة عدم الفهم، كما فى قول الراوية بقصة «السباحة فى الشوربة» ردا على حب الأقارب للحم الأرنب: كيف تنسبون الذبح لفعل الحب.

وأيضا نسج ذلك المزيج بقصص «أندروفوبيا، نصف إنسان، معالى السفيرة، مقايضة، كل شيء على ما يرام، والسباحة فى الشوربة» الدافع إلى التقوقع والانعزال، وتصوير شخصيات القصص وهى تائهة أمام مفترق طرق تبعا لذلك كما بقصتى «اللاوجهة، وخيانة كيوبيد»، إما نازعة لحظات التهشم والتمزق تلك، ورميها فى خانة اللاوعى حتى وإن كانت مسببا لنتيجة أشد صدمة كقصة «أندروفوبيا» وما وضعته الكاتبة من جمل اعتراضية على بعض المشاهد.

وقصة «عالم يطن فى أذني» بإيمان الكاتب بأنه مجنون لن يصدق أحد استبصاره لبواطن الناس. وكذلك قصة «مصر شو» من خلال شخصية «الإعلامى ضامر سري» واسمها العجيب، لكنه متسق بما يقول ويردد وأيضا كما وصفه راوى القصة.

وإما أن تتشبث أكثر بماضيها مبطنة قسوة الصدمة التى أصابتها ومقللة من حدتها فنجد بقصص «الصالون، رائحة، سفر، شمل مبعثر» تتفق فيها الشخصيات على الاستعانة بالماضى لتقليل حيرتهم وتقبلهم للواقع، فصوره بطل قصة «شمل مبعثر» دم من القلب -أى المخفى والمضمر- إلى الكف-أى المشاهد- تخفيفا لصدمة موته، وصنعاه بطلتا قصتى «رائحة» و«الصالون» كهدنة مؤقتة بين حكم الواقع وحياتهما العرجاء التى تحتاج لمن يسندها بالحكايا والاستماع، ووالدفء المنبعث حتى من الأوامر والنواهي؛ فهو ما يحجزها عن حاضر يشبه البحر، ساحب وغادر بمرتاديه، وفق ما تظنه أيضا بطلة قصة «البحر لا يسع غرفتي».

 وللمفارقة هى الحيلة التى هيأتها الكاتبة على شكل يتناسب مع طفل أراد أن تبتسم معلمته بقصة «انتصار بسمة». فكان تشبهه بابنها الراحل طوق نجاة ترائى لها، ينشلها من مرار حاضرها، فانفرجت شفتاها، ليظفر بابتسامة صافية.

وإما بسلوك درب تعتبره الكاتبة -فى ظنى لارتباطه بشيء مقدس كعلاقة الكعبة المشرفة ببطل قصة «سفر»- من أرفع الدروب وأعلاها. فتتعضد قصص «سفر، الغريب، الملاعين، كالابالا، ويستمر اللقاء» مع الأبيات السابق ذكرها، فى صنع صورة تعبر عن حالة التسامى المتبناة من رأى الكاتبة فى خلع أثقال النفس -والذى يدعم ما ذكرته بديوانها «طيف عابر يحاول أن يشب « بقصيدة فراق الوصول «فارق نفسك وتعالِ» وأيضا قصيدة ذات مفقودة بديوان «زهرة محاربة» «روحى فوق ترابى تناشدنى السرعة»- والابتعاد عن دوامة شهواتها كقصة «نبيذ لم يعد يسكر»  ومن ثم الاعتماد على وصل من نوع خاص خفيف، وقوده براءة خالصة تنبع من براءة الأطفال بقصص «على الناصية، نصف إنسان، كروان، حجر يذوب، انتصار بسمة».

فتغمر أبطال القصص طاقة كبرى، تمكنهم من التسلل بين الحقائق والمسلمات أو نزعها تماما، دون الالتفات لمسافات ولا عقبات، متسلحين ببراءة وصفاء هادئ، يوصلهم ببساطة إلى نقطة ضوء فى ظلمات أنفس من يواجهوهم «كما قصتى حجر يذوب وكالابالا» حتى  أنفسهم «كقصة خيانة كيوبيد». بل ويعززون من قوتها ويآزونها فى صراعها مع الظلمة، حتى تخرج كانبلاج الفجر، كما قصتى «ويستمر اللقاء، وكالابالا».

وإن نظرنا مجملا، فإننا نستكشف تقاطعات عديدة بين تلك المجموعة، والدواوين الشعرية الثلاثة التى صاغتها «مروة مجدي». فتظهر فى المجموعة أحيانا قصائد من ديوان «طيف عابر يحاول أن يشب» مثل «زلازل الروح، فراق الوصول، قلب غير قادر على احتواء بعوضة، فطام مبكر من الأحلام، رائحة غيابك». وأحيانا أخرى قصائد من ديوان زهرة محاربة مثل «ذات مفقودة، كرة، تراب يودع جسده، قتل حلال». وأيضا من ديوان ربع قرن لاقتناص تنهيدة قصائد «كرة، سعادة لأول مرة بالفشل، ربع قرن لاقتناص تنهيدة من العالم».

ربما ما لا يعجبنى فى بعض قصص المجموعة كثرة استخدام المجازات والتعبيرات البلاغية القوية. التى ربما لا تتناسب مع طبيعة القصص، والتى توقفنى قليلا من التعايش والتأثر بها. لكن ربما تلك المجازات تمثل تمهيدا لربط القصص بالدواوين الشعرية فضلا عن أنها تمثل بصمة للكاتبة ذات الطابع الشعري.

وفى ذلك يعد مقبولا؛ لأن فيه إكمالا للمشروع الأدبى المراد نقله، بالتخفف -بتعدد رواة القصص والشخصيات وتنقل الأصوات-من كشف الذات والتبعية لها المعروفة بقصائد النثر.

وتأكيدا فى إيجاد حل وسط بين الذات ونظرائها التائهين الباحثين فى ضباب عالمهم المشوش بالزيف والحيل، عن ذاتهم. الغارقين فى تجربتهم بين تعثر وصمود، علهم يجدون أنصافهم فيقتنصون تنهيدة راحة من العالم.

ومن ثم ينطلقون أحرارا وقد تفسخت أثقالهم، تاركين أثرا لعابر آخر ربما مسته محاولة -ملعونة بمقاييس الدنيا- ليترك خوفه ويشب. فيجيب رسالات المحب، متبعا إشارته