شربل داغر.. أجمل كتبى ما لن أكتبه!

شربل داغر
شربل داغر

عباس ثائر

حين أُنهى حوارًا ما يتلبسنى بعده صمتٌ لمدة ليست بالقصيرة، ربما لأن الشاعرَ إذا ما أخذ دور الصحفى وبدأ يحاور مُبدعًا تجده يصبح ثرثرًا إذ إنه يقول كلّ ما يُحظر قوله فى القصيدة، ثم يأخذ قسطًا من الصمت، القسط هذا، أنفقُ شيئاً منه أفكر فى المُحاوَر لمَ أرهقته، ربما استنزفته؟ لكنى قط لم أفكر بذات الأفكار وأنا أحاور الكاتب والمفكر الشاعر المترجم اللبنانى شربل داغر، رجل نهر يدفعك لتغترف منه دون أن تسأل هل سينخفض منسوب الماء عنده؟ رجل يدفعك لأن تنتهزه حتى آخر كتبه، هو الآتى من وطى حوب -قضاء البترون- شمال لبنان، يحمل للناس على ما يربو الثمانين كتاباً، كتبه فاقت عمره بستةِ أعوام، وهو الكاتب الذى تتسابق مؤلفاته مع سنى عمره. بعد الحرب الأهلية فى لبنان حمل أرزه ولغته وكتابه الوحيد وسافر لباريس، حصل على الدكتوراه من جامعة السوربون بعد عام من صدور مجموعته الشعرية الأولى فتات البياض فى العام 1981 كانت أطروحته الألى حول «الشكل- المضمون فى القصيدة العربية الحديثة» ثم لم يكتفِ عاد فى العام 1996 ليحصل على الدكتوراه مرة أخرى ولكن هذه المرة حول «الجمالية فى العربية» سجلها فى باريس لكنه نقلها للجامعة اللبنانية ليتخرج من وطنه. عمل أستاذًا فى جامعة البلمند فى لبنان، وكان صحفيًا يكتب بالعربية والفرنسية فى بيروت وباريس ولندن، سيرته حافلة بإنجازات لا يمكن حصرها بصفحة «وورد بقياس A4» توسعت فى الحوار معه لكنى اضطررت أن أجعله بهذا الشكل والحجم لدواع صحفية (شربل داغر «مجموعة أنوات فى كاتب واحد»، حسبما وصفَه أحد الكُتاب. فإذا كان الشعرُ شغفَه الأول، «والأبعدَ فى بداياته» حسب لفظه، فإنه جمعَ إليه، وإلى كتابة الرواية، الدرسَ المنهجى للأدب -بين شعر ورواية- وللفن الإسلامى، والعربى الحديث -بين فلسفة وتاريخ- واللغة، فضلًا عن التاريخ السياسى المتأخر).

الشعر والرواية والنقد بنوعيه الأدبى والفنى وأدب الرحلات والترجمة وأدب السيرة، هذه المساكن الكثيرة كلّها قد استوطنتها، ودون شك سبغت بالشاعر أكثر من سواها. أيُّهم كان قادرًا على تحملك، وكنت الأقدر عليه؟ وأى المساكن تختار لو أردت أن ترتاح من التنقل بينهم، ولمَ؟
هذا صحيح، جميل للغاية الحديث عن «المساكن»: سأعتمدها من اليوم وصاعدًا. كما راقنى، فى سؤالك، أنك لا تتساءل عن سبب هذا التنوع.. لعلى توسعت فى مساكنى، ربما أكثر من غيرى. إلا أن هذا التوسع ليس بغريب عند أدباء قدامى أو معاصرين. إلى ذلك، لا يسعنى القول إن الشعر هو من قادنى إلى هذه المساكن، أو أننى أقمتُ فيها بهوية شعرية مخفية. فبين هذه المساكن حدود معلنة، جرى التصريح بها، مع الإقرار بأن هواء الشعر قد يتسلل من مسكن إلى آخر.. لو كان لى أن أختار بين المساكن لقلت فى إجابة تلقائية: إنه مسكن القصيدة، مسكن الكائن. إلا أن جوابى يكمن فى مساكن أصبحتُ متيقنًا، مع تقدم العمر، من أننى لن أقوَ على بنائها، ولا على الخطو فيها، فكيف على سكنها.

وهى ليست مساكن بينة الحدود والهوية بالتالى، بل هى مساكن هوائية، مما لا يحط فى خطة، فى أرض، ما دمت أتيقن، مع اتساع المعرفة بالكتابة، بأن هناك ما لا قدرة للكتابة على تصوره، فكيف على التكفل به.



لا يغيب عنى كونى أعمل مع جملة صانعين آخرين، ما يجمعنى ويقيدنى بالضرورة بثقافة مشتركة، مهما تحدثت عن اشتغالى الخصوصى فيها. وهذا يعنى أن بعض ما لا أجده فى كتابة غيرى، لن أجده فى كتابتى بالضرورة، من دون أن تكون هوية الغائب معروفة، أو ممنوعة الظهور.

اقرأ أيضاً| يعقوب الشارونى.. مات الولى وبقى المقام

أقول هذا، لأننى أتحقق أكثر فأكثر من غياب «النفَس النقدى» الذى أعلنَ طه حسين عن الحاجة إليه فى البحث. ولأننى أتحقق من نقصان الحاجة إلى العربية الكتابية، ومن القبول المتعاظم بثقافة «ما ورد»، وكما ورد.. لا أريد تعداد المعايب، أو الأعطاب، أو الممنوعات، وإنما أريد التشديد على حاصل هذه العوامل على إمكانات الكتابة، بما فيها عندى. أجمل كتبى هو الناقص، غير الممكن، غير المتاح، وهو ما أتشوق إليه، و.. لن أكتبه. 

اصطلحت على قصيدة النثر «القصيدة بالنثر» وأنك قد جربت واقترحت نماذج لبناء «القصيدة بالنثر» على درجة من الاختلاف مع نماذج أخرى لشعراء قصيدة النثر، أى أنك جددت فى قصيدة النثر، وخرجت عن اشتراطات سوزان برنار. ما المعايير الفنية التى اشترطتها لكتابة مثل هذه القصيدة، من أين ابتدأت وكيف انتهيت؟ وهل ترى أن بعد هذا التجديد سيورد تجديد آخر، بعبارة أدق ما القصيدة الآتية بعد القصيدة التى اقترحتها؟



الظريف هو أن أحد الشعراء كتب عن قصيدتى أنها «قصيدة ما بعد قصيدة النثر»، فأجبتُه ضاحكًا: «وماذا لك أن تقول عمن سيكتب قصيدة بعدى، وتختلف عن قصيدتى؟». هذا الترابط، والانقطاع، باتا صفة لازمة فى ظواهر الثقافة والفن والأدب، وهى قد بلغت مؤخرًا نوعًا من التخمة، بل من الانسداد، مثل الكلام عن: «ما بعد بعد الحداثة».. إلا أن هذا يشير، من جهة خفية، إلى أن الثقافة باتت تشترط بصورة مزيدة التجديد فى مقوماتها، وما يعنى الاشتداد فى المنافسة بين المجموعات وبين الأفراد.

هذا ما أصابنى فى شعرى. هذا ما تحققتُ منه غير مرة، عندما كنتُ أعدُّ مختارات لشعرى، فكنت أراجع كثيرها، وأتنبه إلى تبدلات أكيدة فيها. لن أقدم على تقسيمها إلى «مراحل» أو «أنماط».

هذا ليس عملى، ولا يعنينى تمامًا. فهناك خيارات أُقدمُ عليها، فى قصيدة، أو فى مجموعة، فى نوع من الهجس، من الميل، من الإلحاح، الذى يقود التعبير وفق هذه الأشكال البنائية. مثال: خفَّ كثيرًا، فى شعرى الأخير، نوع القصائد الطويلة، لصالح قصائد قصيرة. مثال آخر : مالت قصائد، فى مجموعات مختلفة، إلى بناء معنى لا يتكشف إلا فى مقبله، لا فى مسبقه، فيما تتعين قصائد متأخرة فى أبنية متوازية أو تراكمية بما يحدث الدهشة، المسبوقة، أى التى تم التمهيد لها.

مثال أخير: لا يفارقنى، منذ شعرى الأول، فى قسمه الباريسى، الهوس بعالم القصيدة الغامض والشهى، بل أصبحت القصيدة أقرب – بكلام بسيط – إلى «الموضوع» الشعرى الأثير فى شعرى، حتى إن الناقد التونسى د. مصطفى الكيلانى، عندما خصنى بكتاب دراسى لشعرى، أطلق عليه: «شربل داغر: الرغبة فى القصيدة».

هذا ما أنشغل بدرسه أكثر من دارس، واصطلحوا على تسميته بـ«الخطاب الواصف» للقصيدة. كلامهم هذا يستقى أسانيده من مفاهيم سارية فى مناهج اللسانية الحديثة، إلا أن تفسيره، فى شعرى، يطمح إلى غير ذلك.

أن تكون القصيدة «موضوعًا» ملحاحًا، فهذا يعنى العودَ، والطرقَ، والعزم، من دون أن أقوى على فتحها. الوقوف أمام باب القصيدة يضعنى فى علاقة وجودية معها، ومع الوجود نفسه.

يضعنى أمام ما يمكن أن تتوصل إليه القصيدة، من دون أن تتوصل إليه فلسفة، أو معرفة، أو أحاسيس. واشتهاء القصيدة، بهذا المعنى، هو اشتهاء المابعد، أى الذى لم يكن فى سابق، أى المقبل فى هيئة، فى ملامح، لها قوة البناء وإن فى هواء. ولهذا كتبتُ فى نهاية كتابى الأخير عنها: «القصيدة بالنثر مشروع للمستقبل».

قرأتُ مرة، أن الخيال النقدى يخلق نصًا شبحيًا. هل حدث أن تداخل الخيال النقدى بالخيال الشعرى، وخرجت بنص أكاديمى يقف على حافة جانب منه نقد والآخر شعر؟ كيف تخرج من دار النقد أثناء الكتابة الشعرية أو العكس كيف تخرج من الشعر عندما تكتب نصًا نقديا؟ أصحيح أن الشعر يمدُ أنفَه فى كلّ شىء؟

فى هذا قولٌ كثير، ويحتاج إلى استبيان. يعنينى، بداية، القول إن الخيال ليس من خاصية الشعر وحده، بل هو من خاصية العلم، والبحث أيضًا. يكفى أن نفكر فى المغامرات الإنسانية الكبرى: الطيران، «اكتشاف» الكرة الأرضية، غزو الفضاء، الإنسان الآلى، الذكاء الاصطناعى وغيرها، وفى أنها ما كانت، فى منطلقها، فى عدد من تشكلاتها، سوى صور الخيال وتحققاته المادية. لهذا فإن الأشباح لا تعدو كونها خيالات أجسام تتجه نحو التاريخ. أما عن الشعر والنقد، فالعلاقة طبيعية بينهما، بل أقول : إن الخيال يغذى النقد، مثلما النقد يغذى الخيال. فنحن حين نقرأ، نتخيل، ونعاين، ونصاحب، ونحزن للفراق. ونحن حين نتخيل، نكتب من دون ألفاظ.

وهو بعض ما يقع عليه الشاعر والباحث : كل ينظر إلى الآخر، ما دامت عملية البحث تنقب، وتفحص، ما هو غامض ومركب فى القصيدة. هذه أحوال طبيعية، من الشراكة اللازمة، من «البصبصة» التلقائية بين أن تكون أمام الكاميرا (وفق استعارة معروفة فى عالم السينما)، أى أن تكون الممثل، وبين أن تكون «خلف الكاميرا»، أى أن تكون المقرر فى ما للصورة أن تكون عليه، وأن تنتهى إليه.

فكيف إذا كان الشاعر، مثل بعض الممثلين، مخرجًا وممثلًا فى العمل عينه ! لهذا لا يمكن الحديث عن خروج أو ابتعاد بالضرورة، حتى لو لم يُصدر شعراء وشعراء بحوثاً وكتبًا فى نقد الشعر.

ففى عمل الشاعر على قصيدته، فى «الضبط والربط» (وفق عبارة عربية قديمة)، بعضُ عمل الدارس، إذ يعمل على «تحسين» نصه، على معاينته كتابيًّا وثقافيًا، قبل أى أمر آخر. هذه عمليات طبيعية، تلقائية، مشتركة، ولازمة عند شعراء كثر. هذا ما يصيبنى بدورى مع الانتباه إلى الأمر التالى والحاسم : فى البحث، أتخير قضايا، إشكاليات، كما أعمل على تدبر منهج ومقاربات لها، ما يعنى أن عمل البحث مسبوق، وله مقادير من الضبط، التى تبعده – عندى – عن أن يكون الغرفة الخلفية لشعرى.

ومن يعد إلى مجموع بحوثى وكتبى فى درس الشعر، يتحقق من أنها لا تتناول حقبة موافقة لحقبتى، ولا لشعراء مزامنين لى. فأنا لم أدرس أبدًا القصيدة بالنثر فى جيل السبعينيات (مثلما أطلق على مع غيرى فى لبنان وخارجه)، إلا فى دراسة أو دراستين فى الأكثر.

يضاف إلى هذا، أننى طلبت «خطة» فى درس الشعر العربى الحديث، قامت على مسعى «تحقيبى»، يتحقق من التغيرات البنائية فى هذا الشعر، بين «القصيدة العصرية» و«القصيدة المنثورة»، و»القصيدة بالنثر»، بلوغًا إلى «كيان النص»... هذه اشتغالات دارسٍ فى الشعرية، ومسندة إلى التعيين التاريخى. مع هذا، لا أتوانى، فى شعرى، عن أن تكون لى نظرة فاحصة، نقدية بالطبع، إلى ما أكتبه. غير أن هذا التفقد بات محدودًا فى شعرى الأخير، إذ إننى قلما أعيد النظر فيه، أو أصححه.

هذا لا يعنى أن قصيدتى كاملة الأوصاف، بل يعنى، فى ظنى، إن مجموعة من العوامل الشعرية كما النقدية، باتت متشابكة فى طويتى، ما يشير إلى عيش فى الشعر ومعه، إلى ميلانات فيه، سابقة ومحصلة، ومتحققة بالتالى. 

كتابك «القصيدة بالنثر: البناء والشرعية»، حددت فيه مسألتين أساسيتين لقبول القصيدة فى الثقافة العربية: الأولى صعوبة دراستها وعدم توافر بناء منهجى لدرسها، والمسألة الثانية شرعية القصيدة فى النظر النقدى العربى. الى أى مدى تعيق هذه الصعوبات تقدم القصيدة والنقد الذى يصاحبها؟ هل لنا كعرب أن نجد تأصيلًا تاريخيًا وحضاريًا لها؟ أو جغرافيًا لو تغاضينا عن العربية وعدنا لمن سبقنا فى السكن على أراضينا من الأقوام القديمة؟

 تمام. هذا ما توصلتُ إليه قبل مباشرة الكتابة فيه، بل كان الدافع لكتابته. فقد تحققتُ، فى ما أقرأ وأعاين، من توافر عدد بالغ من الكتب النقدية فى هذه القصيدة، لا سيما فى العقدين الأخيرين، ولكن من دون أن تستجيب بالضرورة إلى ضوابط الدرس. فهى، فى عدد منها، تباشر الدرس من دون منهج أو مقاربة معلنة، بحيث يقوى الدارس على مساءلتها، وعلى النقاش معها استنادًا إلى ما التزمتْ به. وهى، فى عدد منها، تنطلق من مسلمات مضمرة غالبًا، على أنها واجبة ولازمة وصحيحة، من دون أن تضعها على المحك.

وهى، فى عدد منها، تكتفى بجوانب محدودة فى بناء هذه القصيدة، أو فى تجلياتها، من دون أن  تلم ببناء القصيدة العام. وهى، فى عدد منها، تنطلق من «صفات» أطلقتْها سوزان برنار، من دون أن تراجع هذه «الصفات»، لا فيما قاله النقد الفرنسى وغيره فيها، أو أن تتحقق من مدى سلامة هذا التعيين فى قصائد مختلفة ومتخالفة بين بودلير ورامبو ولوتريامون، على سبيل المثال لا الحصر. إن هذه التحققات، التى توصلتُ إليها، دعتنى إلى كتابة كتاب ثان فى هذه القصيدة، على أن أتوكل فيه بمعالجة المسألتين المشار إليهما فى سؤالك: بناء المنهج المناسب له، وهو ما عرضته بتوسع، على أنه معروض للدرس والنقاش بطبيعة الحال. وهو منهج استخلصَ بناء هذه القصيدة فى «مستوياتها» الأربعة، كما حددتُها وعرضتُها.

هذا ما تكفل به المنهج فى درس مدونة واسعة من القصائد، ذات تمثيلية راجحة. كما توقف الكتاب لمساءلة «شرعية» هذه القصيدة فى النقد العربى القديم، إذ لا يزال هذا الأمر مستعصيًا بل مستحيلًا عند خصوم هذه القصيدة. ما يكتفى به هؤلاء هو تحكيم القصيدة بالنثر على ضوء العروض، وجعلها بالتالى خارج الشعر، بل خارج الشعرية. طلب كتابى الوقوف عند مدونة النقد العربى القديم وأحكامه ومعاييره، وسؤالها عما إذا كانت تقبل بشعرية القصيدة الناشئة أم لا تقبلها. ولقد خلصت فى هذه المسالة الثانية إلى خلاصات قد تصدم الكثيرين من خصومها، وهى أن هذه القصيدة «تغني» و»تزيد» على الشعرية العربية. 

الإيقاع الداخلى فى قصيدة النثر متقطع فى وجوده، كما تقول. ما الداعى اذن من زج هذا الاصطلاح فى قصيدة النثر، أعنى الذين زجوه عنوةً؟ وماذا نقول لدارسى الإيقاع الداخلى فى قصيدة النثر؟ ماذا نفعل أمام ما لدينا من دراسات أكاديمية وكتب حول هذا الموضوع؟ وما الذى نفعله بكل ما نملك من رسائل ماجستير وأطاريح الدكتوراه؟

هذا «الإيقاع الداخلي» خرافة متأصلة فى درس هذه القصيدة. خرافة تعود، فى بعضها، إلى أن بعض قصائد بودلير وغيره فى الشعر الفرنسى، فى النصف الثانى من القرن التاسع عشر، عول على بعض التلاقيات والتنافرات الصوتية، الدالة كذلك على بعض دلالات القصيدة. وهو ما توقف عنده بعض النقد.. إلا أن النقد، بما فيه الفرنسى، لم يجد سوى بضعة أمثلة، ومحدودة، من دون أن تكون متبعة، فى قصيدة أو أكثر.

هذا ما خلصتُ إليه فى درس الإيقاع الداخلى المفترَض فى قصائد أولى من هذا النوع، إذ لم أجده، وإذا كنتُ وجدتُ بعض تحققاته، فإن هذه لم تشكل نسقًا متبعًا فى القصيدة الواحدة. بالمقابل، توصلت إلى استخلاص تجليات أخرى للإيقاع، وهى تقوم فى تشكلات الجملة، أو المقطع، أو بين مقاطع القصيدة الواحدة. على أن الدرس المناسب يتعين، قبل أى شيء آخر، فى الخروج من المنظور العروضى صوب «الموسقة»، الظاهرة والخفية والمتقطعة، تبعًا للقصائد. هناك تجليات إيقاعية «مموسقة» فى القصيدة بالنثر، لكنها لا تشكل نظامًا مثلما هو عليه النظام العروضى، على أى حال.

لعل بعض النقاد العرب دافعوا عن وجود هذا الإيقاع الداخلى، فى نوع من الدفاع المستتر أمام نقمة العروضيين، وتنكرهم لشعرية القصيدة بالنثر، إلا أنهم يتناسون أن هذه القصيدة طلبت الخروج الحر والتام والناجز من العروض، واجترحت شعرية مختلفة، بما فيها فى الإيقاع. 

ترى أن اختلافًا بين القصيدة المنثورة والقصيدة بالنثر، وأن بدايات محمد الماغوط وأنسى الحاج فى القصيدة المنثورة وليست القصيدة بالنثر التى تُرجمت خطأ قصيدة النثر على حد وصفك. بم تختلف القصيدتان عن بعضهما؟ وكيف تصف القاعدة الأساسية للنصين؟

هذا ما عاينتُه، وتحققت منه، فى درس التاريخ الثقافى والشعرى لكل من القصيدتين. وهو ما تحققت منه لدى الشاعرين، بين ما كتباه فى مجلات أدبية لبنانية مختلفة، وبين ما لبثا أن كتباه فى مجلة «شعر»، تحديدًا منذ العام 1957، وبالتوقيت نفسه بين الشاعرين. هذه النقلة أكيدة، وهى لا تعدو أن تكون، فى جوانب منها، نقلة بين صيغة أميركية لهذه القصيدة، وبين صيغة فرنسية. وهى نقلة تشمل أكثر من التجربتين والشاعرين. فمن يعد إلى القصيدة المنثورة فى تجلياتها الأولى يتنبه إلى أنها كانت تصنع، فى واقع الأدب، خروج النثر من «ديوانيته» القديمة، ومن صحفيته الناشئة، صوب نثرٍ لينِ العبارة، خيالى البناء، وفردى النبرة (بما فيها عند المنفلوطى، أو عند مى زيادة).

لهذا كانت القصيدة المنثورة افتتاحًا يتعدى الشعر واقعًا، ويواكب ما أسماه طه حسين ومحمد حسين هيكل «ثورة النثر». ومن يدرس هذه القصيدة فى إنتاجاتها المتنوعة والمتعددة، بين بيروت ونيويورك والقاهرة وبغداد وغيرها، يلاحظ أنها تستجمع أنواعًا كتابية تتعدى القصيدة نفسها. لهذا يتوجب درس هذه القصيدة، بوصفها تجليّا لثورة النثر، كما قلتُ، وامتحانًا لقدرات التخييل الممكنة بالنثر. ولهذا يتوجب كذلك فحص تجاربها فى تمايزاتها، وتولداتها المختلفة.

وقد تكون تجربة الشاعر المصرى حسين عفيف، هى من أنضجها شعريًا، على الرغم من رومنسيتها المتشربة لغنائية الشاعر الهندى طاغور. هكذا أعتبرُ القصيدة المنثورة طورًا تاريخيًّا فى الشعر العربى، واعدًا ومرتبكًا فى الوقت عينه. ولهذا قطعتْ القصيدة بالنثر معها، وأدخلتْ الشعر العربى فى طور آخر: طورٌ ليس له إنجازاته المخصوصة وحسب، وإنما باتت له تأثيرات، فى بناء جديد للشعرية العربية، تبلغ غيره من تجارب الشعر العربى الحديث.

بصفتك ناقدًا، ما المعيار النقدى الذى تتعامل على وفقه مع أدب السيرة؟ هل يخضع نقد السيرة لذات المعايير النقدية التى تُحاكم بها الأجناس الأدبية الأخرى؟ ولمَ هذا الإقصاء الأكاديمى والأدبى لأدب السيرة، أى أنها تكاد تكون مندثرة لولا وجود بعض الكتب القليل هنا وهناك؟

 السيرة الذاتية نوع من أنواع السرد، ومن السرد الحديث تخصيصًا. لهذا ما يسرى من قواعد فى درس السرديات يسرى على درس السيرة الذاتية، مع الانتباه إلى عوامل مختلفة فيها : المؤلف هو حكمًا الشخص الأول والسارد فى السيرة؛ وما حدث له فى حياته هو مجموع الوقائع فيها، على أن يتقيد بما هو عليه أدب البوح : الصدق فى النقل، وعدم التزوير أو الاختلاق. 

أما عن الإقصاء، فهو ليس بدراسى أو أكاديمى، بل هو أدبى. فمَن أقدمَ من الأدباء العرب على كتابة سيرته الذاتية، لا يتعدى العشرة. حتى من كتبها، أخل عمدًا ببعض قواعدها: طه حسين، فى «الأيام»، يسرد بلغة الغائب، بدل السارد المتكلم؛ وتوفيق الحكيم، فى «عصفور من الشرق»، يتحدث عن سيرة محسن، لا عن توفيق الحكيم. سؤال: لماذا لم يُقدم شعراء، مثل نزار قبانى أو محمود درويش أو أدونيس وغيرهم عن كتابة سيرهم؟ أيكفى القول عند الأول منهم كتابه: «فصتى مع الشعر»؟ أيكفى عند الثالث منهم الحديث عن: «سيرة ثقافية»؟ لأذهب أبعد فى التقصي: هل نجد سيرًا ذاتية لمشاهير العرب: من أم كلثوم إلى محمد عبد الوهاب وفيروز وعبد الحليم حافظ وفاتن حمامة وغيرهم؟ لماذا هذا التجنب؟ أليست لهذا التجنب خشية خسارة مفترضة لجزء من جمهور «النجم» بدل زيادته؟ وممَّ تعود أسباب الخشية؟ أتعود إلى عدم تكفل «النجم» بحياته، كما كانت، فى نوع من الرقابة المسبقة، التى تجعل «النجم» جسمًا غير مادى، غير منفصل عن المجموع الاجتماعي؟ هناك اسئلة مزيدة، والداعى إليها هو أن للسيرة الذاتية جانبًا اجتماعيًا يُتوخى من الأدب، من السيرة الذاتية، وهو إعلاء صورة المؤلف فى سيرته، وفى أدبه. فلماذا يتنكب الأدباء والمشاهير العرب عن هذه؟ ألا يعود هذا إلى خشية اجتماعية فى أساسها، أى مخافة فقدان الأديب والنجم لصورة مرتضاة من الجمهور، وإن قامت على الستر الأخلاقي؟
 
فى السرد الشعرى، أو القص الشعرى، تتدفق السيرة أيضًا، كأنك تستعير من الكاتب شربل داغر ما يحتاجه الشاعر شربل داغر فى قصيدته لتصبح مختلفة عما جاء به جيله، لا سيما فى كتابك: «أيها الهواء، يا قاتلي». ترى أترافقك السيرة حتى فى الشعر؟ هذا الكتاب ذاته محمل بقصائد تأملية وفلسفية بل حتى نفسية. ما الذى تضيفه الفلسفة للشعر؟ وهل بمقدور الشعر التأملى أن يثبت ويعلق مقابل الشعر الذى أداته اللغة فحسب؟

ما تشير إليه ممكنُ الحدوث، ما دامت للشاعر، بوصفه كائنًا، حياةٌ يشير إليها، يعود إليها، وبشكل معلن: إن هذا الكتاب الشعرى ينطلق، فى واعزه، من حدث كبير، هو انفجار المرفإ فى بيروت، ومن مفاعيل «الكورونا» على حياتى وحياة غيرى بالطبع.  إلا أن هذا الواعز، أو الدافع، لا يكتب ما جرى، ولا يستعيده بأى حال. فما كتبتُه، فى قصائد الكتاب، يتعين ابتداء من شارع طفولتى الذى تطاير مع الانفجار، لا لأصف ما جرى، بل لأتحقق من امتحانات اللحظة التى أعيشها : فى القصيدة.


هذا يعنى حكمًا، أو يشتمل على إحالات، أو يقود إلى معايشات أو تأملات، إلا أن ما يتجلى فى القصيدة يبقى رهين لحظتها، من جهة، وانبنائها المخصوص، من جهة ثانية. لهذا لا أتفكر فلسفيًّا فى هذه القصائد، وإنما تكون لحظة كتابة القصيدة لحظة انوجاد، على ما فيها من زحمة التضافر والتشابك. الفلسفة ليست القصيدة عندى، ولا تفضى إليها. إلا أن ما يشغلها، ينبعث من القصيدة، ويتمدد فيها، ويجعلها تمضى فى تجوالها الحر، إلى حيث لم يكن الحدث، ولا الفكرة. 


قد يكون التأمل أقرب وصف لما يجرى فى القصيدة، إلا أنه لا يؤدى تمامًا ما يجرى فيها، وما يتجلى فيها. فما تنهمُّ به القصيدة، قصيدتى، نوع من الانهمام المصحوب بالعزم، فلا يستكين لخلاصات، وإنما ينشغل فى ما لا يعرفه، فى توقده الذى يلمع فى عتمة مقيمة. ما تطلبه قصيدتى هو هذا اللمعان فى أرق المعنى، ما ليس مسبوقًا بالتالى، وعابرًا فى الوقت عينه.

ما الذى توصلت اليه عند دراستك القرآن، وهل يصح أن نحتكم اليه لغة ًإذا ما حدث خلافٌ لغوى بين أهل اللغة والحديث وحتى الأدب؟ حدثنا عن رحلتك مع هذا الدرس؟