إبراهيم فرغلى: دور الروائي ليس إعادة صياغة ما يقوله المؤرخ

إبراهيم فرغلي
إبراهيم فرغلي

الروائى الكبير إبراهيم فرغلي، صاحب مشروع إبداعى متميز، يعكف عليه من سنوات طويلة بدأب وإصرار، تتميز أعماله بالتفرد، لا يشبه أيا منها الأخرى، حتى العناوين نخبوية بعض الشيء وهو ما يمنحها بعضا من الاختلاف عن العناوين الشائعة للروايات. فى روايته الجديدة «بيت من زخرف» يكتب عن زمنين مختلفين بينهما ألف عام مستعيدا الفيلسوف الأشهر ابن رشد، فى تناص بين حكايتين وحبكة مضفرة بعناية عن قيمة العقل وأهمية التفكير الحر الذى لا ترهِبه الأيديولوجيات.
عن روايته الجديدة، وأسباب اختياره ابن رشد بالذات أساسا لهذا العمل، وحدود الواقع والخيال فيما كتب، ومجموعته القصصية التى انتهى منها، كان لنا معه هذا الحوار.

بداية.. هذا الإهداء إلى روح نصر حامد أبو زيد ما مغزاه؟
بطبيعة الحال المفكر الراحل نصر حامد أبو زيد أحد أعلام الفكر الحر فى مصر ممن تعتز بهم الثقافة العربية والمصرية، وبدوره الرائد فى تثوير حقل الدراسات الإسلامية وخصوصا فيما يتعلق بإسهامه فى إضاءة حقل دراسة تفسير النصوص، وتأسيسه نظرية الهرمونيطيقا (أو نظرية التفسير) مستعيدا مصطلح الهرمونيطيقا القديم الذى بدأ استعماله فى دوائر الدراسات اللاهوتية ليشير إلى مجموعة القواعد والمعايير التى يتبعها المفسر لفهم النص الدينى خصوصا الكتاب المقدس، وهو المصطلح الذى اتسع مفهومه فى تطبيقاته الحديثة، بحيث انتقل من مجال علم اللاهوت إلى دوائر أكثر اتسـاعًا تشمل كافة العلوم الإنسانية؛ كالتاريخ وعلم الاجتماع والأنثروبولوجية (علم الإنسان) وفلسفة الجمال والنقد الأدبى والفلوكلور، والقضية الأساسية التى تتناولها الهرمنيوطيقا بالدرس هى معضلة تفسير النص بشكل عام، سواء كان هذا النص تاريخيًا، أم دينيًا. وهذا صلب اهتمامات ابن رشد فى أفكاره حول التأويل، وضرورة التسلح بالمنطق العقلانى ومراعاة السياقات التاريخية. كما لا يخفى عليك أن محنة نصر أبوزيد وما تعرض له فى التسعينيات يذكرنا بمحنة ابن رشد فى زمنه بشكل من الأشكال. 

اقرأ أيضًا| النيويورك تايمز تتبَّع رحلة إيمان مرسال إلى عنايات الزيات

ما حدود الواقع والخيال فيما كتبت؟ هل المخطوط حقيقي؟
أنا من أنصار مزج الواقع بالخيال بشكل عام فى أغلب نصوصي، ولا أعتقد أننى تجاوزت ذلك فى هذا النص رغم أنه قد يندرج فى إطار الرواية التاريخية، ولأن النص يتراوح بين مرحلتين تاريخيتين تعود الأولى لزمن ابن رشد فى زمن الموحدين بالأندلس نهاية القرن الحادى عشر تقريبا، بينما الثانية تحدث فى الزمن الراهن، فمن البديهى أن القصة التى تتناول الزمن المعاصر خيالية بالكامل، وأما الزمن التاريخى فمزيج من الواقع التاريخى والخيال.



وأعتقد أن دور الروائى ليس إعادة صوغ ما يقوله المؤرخ وتكراره،بل بث الروح فيه أولا، وملأ الفجوات التى لا تتضمنها المدونة التاريخية، بمعنى آخر على الروائى أن يبدأ من حيث انتهى المؤرخ لتفعيل دور النص الروائى فى الإحاطة المحايدة بالحدث التاريخي، وإعادة شرح هذا الحدث فى ضوء محاولة فهم السياق العام والمرحلة التاريخية التى يتناولها. والمخطوط بالتالى الذى يتضمن عشيقة ابن رشد هو مخطوط خيالى تماما.

«زياد» نموذج متكرر للشاب المتطرف.. لماذا يقع الشباب فى براثن هذه الأفكار السوادء ويتصرفون بشكل متماثل تقريبا؟
زياد ليس نموذجا متكررا فقط، بل هو نموذج للتطور الجينى للأفكار الأصولية حين تتنقل من تربتها الأساسية وتنتقل للآخر. بمعنى آخر، هناك ظاهرة تتعلق بالعرب والمسلمين الذين يعيشون فى الغرب سواء كمهاجرين أو كأبناء من الجيل الثانى أو الثالث الذين تناوشهم أسئلتهم حول هويتهم، ويبدأون بالتشبث بهوية تعود للثقافة الأصلية، ولكنهم يستقونها من أيدى جماعات متطرفة وتقدم لهم باعتبارها صحيح الدين، أو يتلقونها مترجمة، وهو ما يتسبب فى خلق حالة تشوش فى الفهم والهوية معا، وزياد أحد نماذج هذا التشوش، بين نماذج مختلفة لمن يتلقون الدين الإسلامى مترجما سواء فى أوربا أو أمريكا أو آسيا. وهو نموذج رأيناه خلال فترة الحرب فى سوريا مثلا أو مع ظهور الدواعش.



الانتصار للعقل أحد نتاج أفكار ابن رشد المهمة.. هل نحن بحاجة لاستعادة فكر هذا الرجل؟
ابن رشد، فى تقديري، واحد من أهم العقول العربية، وأحد المفكرين والفلاسفة الكبار وليس مجرد فقيه أو شارح لنصوص أرسطو كما يحب البعض أن يصفوه، وخصوصا من المتيمين بالمتصوفة، وهو كان معروفا عنه التشكك الشديد فى مذاهب المتصوفة، خصوصا فى فكرة الوصول لإجابات الأسئلة بالتأمل والخلوة وما شابه. هو كان رجلا شديد العقلانية فى كافة المجالات التى عمل بها، فقيها وشارحا ومفسرا لأرسطو أو حتى طبيبا. ومع شديد الأسف نحن لا نعرف شيئا عن الرجل سوى بعض القشور المتداولة، أما أفكاره وتعليقاته المهمة فى شروح ارسطو، لأنه كان يتخذ من الشروح ذريعة لعمل نقد اجتماعى وسياسى فى أوضاع المجتمع الأندلسي، فلم يصلنا منها شيء.

وبالتالى من المؤكد أننا فى حاجة شديدة لاستعادة ابن رشد الحقيقى الذى تسببت أفكاره فى خلق ونقل التيارات العقلانية لأرجاء أوروبا بل ولها دور مؤسس فى الإصلاح الدينى الكنسى واليهودى عندما استخدمت أفكاره فى إيطاليا وفرنسا بعد تجاوز مرحلة التشدد الكنسى الذى قاده توما الإكوينى فى البداية قبل انتشار المدرسة الرشدية فى الغرب لاحقا. كما أن معاصره اليهودى موسى بن ميمون، والمعروف فى الغرب باسم ميمونيز، أسس مدارس الإصلاح الدينى اليهودى وخلصها من التشدد مستفيدا من أفكار ابن رشد.
 
أعمالك كلها لا تشبه إحداها الأخرى، كل عمل كيان قائم بذاته.. هل يعنى هذا أن الفكرة هى التى تفرض نفسها عليك؟
عادة ما أكون قد انشغلت بفكرة أو أكثر تناوشنى خلال الفترة التى أقترب فيها من الانتهاء من نص من النصوص، لكنى أترك نفسى حتى أجدنى مدفوعا لاستكمال إحداها. بالمناسبة خلال فترة توقف وحيرة فى بناء رواية «بيت من زخرف»، كانت ناوشتنى فكرة رواية قارئة القطار، فاستكملتها، ثم عدت لهذا النص، وهو التوقف الذى توصلت بسببه لإعادة البناء بالشكل الذى خرجت به، بعد أربع محاولات كانت الأولى نص تاريخى تقليدي، ثم أضفت له جانبا فانتازيا، ثم توقفت، وحتى توصلت لفكرة المخطوط والبناء الذى نشرت به. 



اتجهت لكتابة رواية ذات منحى تاريخى هذه المرة؟
أعتقد أن الرواية التاريخية ناوشتنى من قبل فى «قارئة القطار»، لكن بشكل غير تقليدى تماما، وبلمسة من الفانتازيا. وأعتقد أن العالم كله وليس العالم العربى فقط يمر بمرحلة تاريخية فاصلة فى الوقت الراهن، بمعنى أنه من الواضح تماما أن العالم اليوم على حافة تغييرات ضخمة فى أنماط السياسة والاقتصاد الراهنة بسبب التحول من عالم القطبين ثم القطب الواحد إلى عالم جديد متعدد الأقطاب بعد دخول الصين وعودة روسيا، وسقوط دول كبيرة فى العالم العربي.

وتغير خارطة القوى الدولية عموما. وفى مثل هذه الظروف المعقدة وتأثيراتها البالغة على المفاهيم والهويات لا بد من العودة للتاريخ. لكن العودة للتاريخ بأى معنى؟ ليس لاستعادة حكايات من زمن ما، بل إعادة قراءة التاريخ وفهمه بشكل حقيقي، فكم تبين لنا اليوم أننا صدقنا الكثير من الأكاذيب باعتبارها تاريخ، وكم صدقنا شعارات الغرب عن الديمقراطية والحرية ثم تبينا أنها مجرد شعارات لتمكين رأس المال الغربى من الهيمنة على العالم. كما أن الاقتراب من التاريخ يجعلنا نواجه عددا من الظواهر وبينها مثلا من الذى يكتب التاريخ، وكيف نحاول التحقق من الحقيقة. اطلب اليوم من عشرة أشخاص أن يقدموا لك وثيقة حول وقائع 25 يناير التى لم يمر عليها أكثر مما يناهز الخمسة عشر عاما وتأمل كيف يمكن أن تختلف الحكايات ووجهات النظر عن حادث «تاريخى معاصر». 

عدت للتاريخ فى قارئة القطار لتأمل فكرة الهوية المصرية، وفى بيت من زخرف عدت للتاريخ من أجل إعادة اكتشاف جذور العقلانية فى تراثنا العربى وكيفية استعادتها فى حياتنا المعاصرة. 

ما هى القراءات التى اعتمدت عليها فى كتابة النص؟ 
بطبيعة الحال قبل الشروع فى كتابة النص كان على القراءة ليس فقط فى سيرة أو تراث ابن رشد وعصره، وهذا استغرق منى وقتا طويلا لأنى قرأت سيرته فى نسخ عديدة للعقاد ولطفى جمعة وفرح أنطون ثم عابد الجابري، وثم قرأت كتابين من كتبه الرئيسة مثل فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من اتصال، ومقتطفات من كتاب وأيضا اطلعت على تهافت الفلاسفة للغزالى ورد ابن رشد عليه فى تهافت التهافت ومقتطفات من ترجمات شروحه لأرسطو وغير ذلك.

لكن لم أكتف بالقراءة عن ابن رشد، بل تاريخ الأندلس بشكل عام، كيف بدأ ومن أسسه ليس فقط من فترة الفتح الإسلامى على يد طارق بن زياد، بل وأساسا مع تأسيس الدولة الإسلامية فى الأندلس على يد عبد الرحمن بن معاوية الأموى 756م فى الأندلس وأجزاءٍ من شمال أفريقيا، وكانت عاصمتها قرطبة، ثم تحولها إلى خلافة بإعلان عبد الرحمن الناصر لدين الله، فى 929م لنفسه خليفةَ قرطبةَ، بدلًا من لقبه السابق أمير قرطبة، وهو اللقب الذى حمله الأمراء الأمويون منذ أن استقلَّ عبد الرحمن الداخل بالأندلس. تأسست هذه الدولة نتيجة سقوط الدولة الأموية فى المشرق على يد بنى العباس، الذين لاحقوا، بعدَ قيام دولتهم، بنى أمية.وكان من بين هؤلاء عبد الرحمن الداخل، الذى فرَّ إلى الأندلس، وأعلنَ استقلاله بها.وعرف باسم «عبدُ الرحمٰن الدَّاخل»، كونه «دخل» (أى هاجر) إلى الأندلُس، ومُنذ أن تسلَّم الحُكم حتى دخل المسلمون فى الأندلس فى عهد جديدقائمٍ على أُسس سياسيَّة بعيدةٍ عن العنصريَّة والقَبليَّة، وإحلال سُلطة الدولة، مُمَثَّلَةً فى الأمير، محل سُلطة القبائل، وبدأت الأندلس تسير فى طريق اكتساب الحضارة. ثم تتبعت مراحل هذه الإمارة التى مرت بعد التأسيس والتفوق الحضارى بفترات ضعف عرفت باسم ملوك الطوائف حتى تمت محاولات استعادة السيطرة وتوحيدها على يد المرابطين الذين حكموا واستحوذوا على أجزاء من المنطقة المغاربية وأسسوا مراكش عام 1062. ثم جاء الموحدون، وهذا الزمن الذى عاصره ابن رشد، فى عام 1145 (ابن رشد ولد فى 1126). 

لا يملك القارئ إلا أن يعجب بشخصية «لبنى».. من أين استقيتها؟
فى التاريخ الأندلسى هناك عدد من نماذج النساء الأندلسيات اللائى عرفن بأنهن شاعرات أو نساخات ارتبطن بالنخبة، وبينهن لبنى القرطبية وهذه شخصية لا علاقة لها بزمن ابن رشد فهى أسبق عليه، فقد توفت فى عام 984 ميلادية، ويقال أن اسمها لبنى بنت عبد المولى، هى كاتبة (أى ناسخة) الخليفة الحكم المستنصر بالله، وكان يثق فيها كثيراً حتى أنه أسند لها التوقيع عنه. فى الأصل كانت فتاة من العبيد من أصل إسباني، أصبحت فيما بعد سكرتيرة الخليفة فى قرطبة. كانت خطاطة جيّدة ونحوية وشاعرة، ماهرة فى الحساب مشاركة فى العلم. وهى تجسد نموذجا تكرر فى تاريخ الأندلس ومن هذه الشخصية وغيرها تخيلت شخصية لبنى فى النص أو عشيقة ابن رشد كما اقترحت.

هل قمت بأى وسائل أخرى غير القراءة لمعاينة أو معايشة التاريخ الذى تناولته؟ 
نعم، زرت الأندلس مرتين، الأولى للاطلاع على ثلاث مدن رئيسية وهى قرطبة وإشبيلية وغرناطة، لأن الكثير من الآثار الأندلسية لا تزال موجودة مثل المنطقة التاريخية القديمة والجامع الكبير فى قرطبة، وكذلك بعض الآثار فى إشبيلية، ثم غرناطة لأن ابن رشد كان قصدها عدة مرات.

وأما المرة الثانية فخصصتها فقط لقرطبة ثم مدينة أليسانة التى نفى إليها ابن رشد خلال المحنة. وأيضا زرت مكتبة دير الإسكوريال فى مدريد للاطلاع على بعض المخطوطات الأصلية المتاحة لابن رشد وأغلبها بخط نساخ من معاصريه.
 
«بيت من زخرف» عنوان ثقافى نخبوي.. ماذا قصدت به؟
العنوان دائما أصعب شئء وغالبا ما يكون هناك عنوان رمزى أعمل به خلال الكتابة حتى يتبلور العنوان النهائى للنص. وكان يتراوح بين «عشيقة ابن رشد»، «أفيرويس»، لكنى فكرت فى أن البيت الذى قضى فيه ابن رشد محنته وتخيلت أن تكون تلميذة من تلميذاته قد قررت أن تعيش معه خلال تلك المحنة سيكون بالنسبة لها بيت الأحلام، لأنه يجمعها مع رمز ثقافى كبير ومعلم ووجدت فى عنوان «بيت من زخرف»، ما يحقق الفكرة. 

بعد هذا الجهد المرهق فى هذه الرواية الضخمة.. هل تبلور لديك مشروع عمل روائى جديد؟
أحيانا يشعر المرء بعد كتابة نص كهذا أنه اكتفى من الكتابة. ولكن فى الحقيقة لا تزال لدى أفكار تناوشنى وأترك نفسى حتى أرى أيها سينادينى ويتمكن من اجتذابي، ولكنى انتهيت من مجموعة قصصية أعمل على مراجعتها النهائية من فترة، ربما تكون فاصلا ضروريا بين مشروعين روائيين.