يعقوب الشارونى.. مات الولى وبقى المقام

يعقوب  الشارونى
يعقوب الشارونى

أحمد عبد النعيم

يبقى فى عمر الزمن مساحة من الونس الإنسانى نتمنى السكن والراحة فيها قد نبحث عنها ونفقدها ولكن يأتى من يرشدنا إلى ركن الأمل ويبقى حارس بوابة الونس.. هو الولى صاحب الكرامات ونحن دراويش الذكر.. لحظات انسانية حية نعيشها ولا نبرحها يأتى الحارس يدلنا إلى الطريق ولا يهدأ باله الطيب حتى نصل ويفتح شباك الأمل ليصل التلميذ إلى الهدف

 الشارونى جاء يمسح عنا خطايا كثيرة.. أراد أن نخرج بأدب الطفل من مكانه الضيق سواء فى تراث ننقله دون تدخل أو أفكار تقليدية بمفردات أجيال سابقة.. وقف وحده يحارب طواحين سذاجة السرد النمطى ويبرح إلى منطقة يدركها وحده.. يبنى سفينه النجاة لأجيال قادمة كنا نستعجب من همه رجل فى التسعين يجلس فى الصفوف الأخيرة يسمع شهادة طفل حول كتاب جديد يدون فى ورقة مشروعه القادم لا يهمه أبدا ان يجلس على منصة التتويج إنه صاحب مشروع خاص.. عايشت الشارونى ثلاثين عاما ذهبت إليه شاباً فى العشرين يتحسس الطريق تصورت أننى أمام شيخ كبير أخذ من الدنيا الكثير واراد الهدوء وراحة البال زاده التشبع من متع الحياة وأنهكته المعارك الكلامية مسحت التخيل السابق بمجرد الجلوس فى مكتبه العامر بأخر مجلدات الحياة قررنا معا ألا نفترق اجتمعنا بإرادة واحدة نسأل ونتحدث يوميا.. أذهب إلى بيته نراجع بروفة كتاب جديد نتكلم وعند ساعة الاستئذان تكون شنطه الشارونى العامرة بالكتب والمراجع واخر الدراسات والجوائز القادمة ومشروعة القادم ولاينسى أن عليه أن يسير نصق ساعة بعد إصابته بداء السكر اللعين.. نسير معا حتى سينما فاتن حمامة ويتأكد من مرور ربع ساعة والعودة بنفس العمر الزمنى بعدها يحدثنى وصلت صديقى العزيز.. نعم أستاذى الفاضل.. الآن فقط أستطيع النوم.. تلك مشاعر الأستاذ.

فى عام 2019 أكمل الشارونى عامة التسعين تملكتنى رغبة الاحتفاء بالرجل لماذا لا نقدم له باقة من زهور العالم خاطبت الأصدقاء فى كل مكان فكان الاحتفاء بعدد خاص من جريدة أخبار الأدب يتصدر الغلاف صورة الشارونى وعطر محبة كلمات تسبقها مشاعر حية من الهند والصين وإيطاليا وجميع الدول العربية.. صدر العدد فرح به وأشترى عدداً كبيراً من النسخ تملكته ابتسامة رضا لم تبرحه أبداً وهو يمسك بالقلم ويرسل لى نبضات وجدانه الراقى (لكى ألخص لك ما غمرتنى به من صدق المشاعر وعمقها ، لا أستطيع إلا أن أقول إنك حفرت فى حياتى اللحظة الثالثة التى لن أنساها ، بعد تشجيع مدرسى فى المرحلة الابتدائية الأستاذ عبد الحق عام 1941 ، ثم تقدير الزعيم عبد الناصر وهو يسلمنى الجائزة عام 1960 إن حماسك لإصدار هذا العدد التذكارى الرائع من أخبار الأدب ، الذى كشف لى ما لم أكن متنبهًا إليه من أثر تركته لدى أصدقاء أعزاء من مصر ومن مختلف أرجاء العالم العربى ، واهتمامك الوافر بإقامة حفل التكريم بالمجلس الأعلى للثقافة، قد أشعرنى ، للمرة الأولى فى حياتى ، أن لا شىء يعلو فوق حب الآخرين وتقديرهم ، وأن هذا – فى النهاية - هو أثمن جائزة حصلت عليها – أو يمكن أن أحصل عليها - خلال سنوات عمرى  .أكرر لك الشكر والتقدير ، وأتمنى لك دوام الصحة والعطاء).

لم يسكن إلى الراحة والهدوء وصخب الحياة إلا عندما ضرب داء كورونا اللعين الحياة لتصاب بالشلل التام.. يهدأ الشارونى ويطل على العالم من بلكونة الدور الثانى بحى المنيل وسماعة التليفون نتحدث السابعة مساء وحتى ميعاد نومه.. أدركت ربما للمرة الأولى أن الرجل ينتظر شيئاً ما.. لم نتحدث أبدا عن الموت انه دائم الحياة ركن الموت قليلا وأراد أن يعيش أطول.. سمح لى فقط بالزيارة نربط معا خيوط البقاء كنا بالماضى نراجع بروفات الكتاب والآن نراجع ما بقى من لحظات العمر.. هل يأس الشارونى أبدا لم أسمع منه يوما قرار الرحيل هو يقرأ ويكتب ويداوم على المراسة نفكر معا فى باب جديد لمجلة الطفل يفرح وأنا أجالسه نحكى مواقف طريفة أحيانا يسمع نكتة ونعيدها كلما سمح الزمن بمساحة من الضحك.. وأخيرا أراد الجسم الصلب أن يتمرد على صاحبه ويفرض عليه مساحة سرير بمستشفى خاص.. اختار صديقى العنيد البقاء وحول حجرته إلى مكتبه وأقلام وأدوات الحياة.. رفض أن يراه أحد مريض فقط اختارنى وابنته للونس والحياة وكلما طلب صديق الزيارة يبتسم للتأجيل وعندما يلح فى الطلب يؤكد انه قريبا سوف يعاود نشاطه ولا أنسى كلماته (عندى ابن مهاجر فى امريكا وابن هنا اسمه أحمد).

الشارونى شخصية معرض الكتاب هذا العام كلمات حملها بريدى الإلكترونى طبعت الورقة، دقائق كنت أمام حجرته بالمستشفى ابتسم وارتدى نظارته الطبية يقرأ ويعاود القراءة أراقب الأستاذ تملكنى رغبة السؤال.. أخيراً يا أستاذنا وفى نفس اللحظة استقبل على تليفونى مكالمة من مدير النشر بالهيئة العامة للكتاب بالتهنئة وضرورة تحضير عدد من الكتب لإعادة الطبع.. أعادت المكالمة الشارونى خمسين عاما جلس يكتب اسماء الكتب ويتذكر دور النشر ومدة العقد لكل كتاب وضرورة إعادة مراجعة النصوص واتصل بسكرتيرته الخاصة تحولت الحجرة إلى خلية نحل كلنا نعمل لتحضير المطلوب.. هنا اقترحت على الأستاذ كتاب (فى محبة الشارونى) يكتب الجميع شهادات عنه.. لم يتحمس لحظات حتى بادرته لماذا.. هل تعتقد انى استحق.. اندهشت ولكن هى طبيعة الشارونى التى أعرفها.. بدأت فى مراسة الجميع أيام قليلة وكانت شهادات ستين مبدعاً من سكان كوكب الأرض على مكتبى ارتبها وادون الأسماء حتى كانت البروفات الأولى تسكن حجرته امتد به العمر أياماً ليتأكد أننا نحبه ونقدره.. هل اختار الموت بعد أن أدرك ان رسالته وصلت.. اختار الراحة أخيرا وبقى المقام الذى بناه نزوره ونطلب بركة عتباته.. 

اليوم هل نعود من وداعة لنكتب عنه كلمات فقط ابداً لقد رأيت الحزن يسكن عيوناً طالما رأت الرجل الطيب يجلس يبدع ويناقش يذهب إلى آخر قرية فى محافظة بعيدة ليسمع مبدعاً جديداً يكتب ويسجل كلمات لشاب صغير يتلمس أرض الإبداع مرتجلا بلا زاد غير محبه الشارونى.. بقى الأثر الطيب. 
اتفقت مع صديقى الذى اختار الفراق أن أسجل له ندوات معرض الكتاب القادم وأعرضها بحجرته إذا تعذر عليه الحضور كنت دائما أحافظ على مساحة من البعد كتعليمات الأطباء حتى جاء اليوم الذى طلب منى (أحمد ممكن اسلم عليك).. هل هى النهاية ياصديقى اليوم أمد يدى اتلقى فيك العزاء الكل يتحدث عنك بود وحنين وطاقة أمل رغم الفراق.. اخترت الونس بعد أن مهدت لنا الطريق وصنعت لنا مساحات من البراح نتحرك بها بحرية سمحت لنا بالتجوال فى عالمك دون قيد تركت فينا «حتة» من تجليات الشارونى الإبداعية.. ارتاح ياصديقى بقى هناك مريدين للمقام.