بعض من جرائم الاحتلال الإسرائيلى.. حرب غزة والسعى لمحو الرواية الفلسطينية

قلعة برقوق
قلعة برقوق

يستمر اقتلاع الشعب الفلسطيني من أرضه وإبادته هدفاً استعمارياً للاحتلال، لأجل ألا يبقى صوت ومكان وهوية تنادي: «أنا فلسطيني وأريد أرضي» ولم تكن البيوت والمكتبات والمساجد والكنائس والإرث التاريخي والحضري والثقافي لغزة آمنة، الأمكنة الأثرية والإنسانية التي كتبْ بها الفلسطنينيون تاريخ بلادهم وهويتهم في فلسطين المحتلة، الأمكنة الشهيدة في غزة الماطرة بالحرب دخلت «الزمن المفقود» فآلة الاستعمار وحرب الإبادة لا تتوقف عند البشر بل تمتد إلى التراب والحجارة والماء حتى السماء محشورة في ذات الحصار. علماً بأن سياسة التدمير والاغتيالات الإسرائيلية دمرت أكثر من 200 موقع تاريخي في القطاع.

على مستوى المكان مع بداية أهوال الحرب الإسرائيلية على غزة، دمرت طائرات الصهيونية «مركز رشاد الشوا» الموقع الثقافي الذي يُسجل في العصر الفلسطيني كأول مركز ثقافي يُبنى في فلسطين، المكان الثقافي الذي يضم مسرحاً كبيراً، وقاعاتٍ ثقافية للفعاليات، والندوات، والورش الإبداعية، والمؤتمرات المحلية والدولية، يقع المركز في «حي الرمال» بمدينة غزة، هذا المكان يحمل معه زمناً من الإرث البشري والثقافي، إن خصوصية المركز الذي يضم في داخله مكتبة عامة للجميع، بهدف وضع المعرفة وتحريرها من خلال توفير الكتب في متناول السائل، والقارئ والباحث والأكاديمي والكاتب.. حتى يبقي الإنسان الفلسطيني في تواصل مع حضارته المعرفية والتاريخية ومع العالم الخارجي يستقبل ويرسل في شراكة فكرية ثقافية متفاعلة، مما جعل هذا المركز محطة للتواصل والتخاطب بين غزة والكون.

اقرأ أيضًا | اسمها باللاتينية «الوردة الجميلة»: مدينة رشيد تكشف أسرار الحضارة المصرية

إن هدف تدميره الذي تم في نوفمبر 2023 من خلال قصفه بطائرات الاحتلال، واضح ولا يختلف عن سياسة الاغتيالات وحفرياتها الكارثية. من أجل مسح التفاعل الفلسطيني في غزة مع الوعي والأنشطة والعالم الذي من خلاله يشاهد حقيقة مدينة غزة.

في حي الدرج لا يزال «سباط العلمي» شاهداً على جريمة وقعت في دهاليزه وجسده التراثي الحيّ، ولم يستثنى من جرائم الاحتلال وجنوده، تم تدميره بالكامل، وأهل المكان في مسار الوقت: يحملون الخيام والرحيل إلى رفح حيث اللجوء جنوباً، كتبْ الدكتور أباهر السقا «سباط العلمي: معلما آخر من معالم المدينة، واحداً من المعالم التاريخية والأثرية المهمة في غزة الشاهدة على العمارة الإسلامية في العهد العثماني، بُنى في القرن السابع عشر ميلادي، عمره أكثر من450 سنة، رُمم من قبل مركز إيوان في 2003، وجرى تحويله لمركز ثقافي في حي الدرج، بُنى كغالبية البيوت الغزية والمناطق الساحلية في بلاد الشام بحجر رملي».



كما طالت الآلة الاستعمارية «أرشيف غزة المركزي» هذا الدليل التوثيقي على الشواهد وحركة العمران الأثرية والحضارية، هذا الأرشيف كان مصدراً مهماً للمعلومات عن مدينة غزة، ويضم تاريخ المدينة وسكانها، ولأنه أرشيف يحافظ على الذاكرة وحمايتها تم قصفه وتدميره بالكامل، وذلك ضمن سياسات التدمير المُمنهج الساعي إلى تغيير المعالم الفلسطينية التاريخية ومحوها، سرقوا من الفلسطيني هواءه وكلامه وشعاراته الفكرية والنضالية والبيئية، سرقوا روحه، زرعوا في أطول عملية بالتاريخ الاستعماري بقايا التاريخ ولغة احتلال متصهين، يقول جيل دلوز: إن اللغة العبرية جرى صهينتها مع التهجير اليهودي الذاهب لاحتلال وطن آخر.

وإذا ذهبنا إلى «سوق الزاوية» وقد تم تدميره من بدايته، في غزة القديمة، السوق القديم بشوارعه، وبيوته وجدرانه، هو مركز تسوق معروف لأهل قطاع غزة من الشمال والوسط والجنوب، له طقوس ومناسبات، وفي داخله سوق الذهب، والعطارة، ودهاليز وممرات قديمة البناء شاهدة على نهضة تاريخ وجغرافية المدينة، هذه منهجية المحو والمسح، حتى لا يعود أهل القطاع إلى ما كانوا عليه في ذاكرتهم، وحركتهم المعتادة، إلى أماكن سجلوا فيها حضورهم وحياتهم وذاكرة أطفالهم.

تستمر حركة الناس داخل سوق الزاوية في مسافة قريبة، وصولاً إلى «مسجد العمري الكبير» بأبوابه الخمسة، وهو المكان الشاهد على التاريخ في غزة، تم تدميره من قبل في عهد الاحتلال البريطاني واليوم في ظلّ الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين.

مرّ منه صلاح الدين الأيوبي، والمماليك، والخليفة العباسي، وفيه ارتفع صوت الأذان في عهد الخليفة عمر بن الخطاب، ونسبة للخليفة عمر أطُلق عليه مسجد العمري، كان في بدايته معبداً في العهد البروماني، ثم أصبح كنيسة بيزنطية، تم تحول إلى مسجد. المسجد العمري الذي أسقطه جيش الاحتلال ودمره من كل أرجائه، كان يضم داخله مكتبة للكتب والوثائق والمخطوطات النادرة، وكان له أهمية تاريخية ودينية وحضرية، جعلت منه مكاناً له خصوصيته في وجدان الفلسطينيين، وفي الرواية الفلسطينية الحاضرة في مقامات التاريخ.أجراس الكنائس في غزة حزينة تدق «قلباً مفتوحاً» وتفتح جرح كنيسة «القديس برفيريوس» ثالث أقدم كنائس العالم، وهي الواقعة في حي الزيتون، بُنيت في مطلع القرن الخامس الميلادي، دمرتها آليات التخلف والاستعمار المريض بجنون التدمير، وقد صارت الكنيسة مقبرة بلا جرس بفعل أهوال الحرب. 

في خان يونس جنوب قطاع غزة،» قلعة برقوق» الأثرية، الشاهدة منذ ١٣٨٧ميلادي، حيث تم بناؤها في عهد مؤسس دولة المماليك البرجية، لاستقبال الناس والمسافرين، هذه القلعة تُعد نشيد التاريخ في الجنوب في مدينة خان يونس، كانت تُعرّف في العهد الفلسطيني إنها تربط بين فلسطين ومصر والشام. في سطر عربي شامل الهوية. تم تدمير القلعة من خلال مدفعيات وطائرات الاحتلال في الحرب الاستعمارية على غزة.

«بيت السقا»، يسميه الناس «قصر السقا» ويقع في حي الشجاعية، بنى في «نهاية الفترة العثمانية عمره 350 عاما» حولته عائلة السقا في غزة، وهو العائد لملكيتها إلى مركزٍ ثقافي تم قصفه ضمن القصف الاستعماري الوحشي. 

جامعة الأقصى، والجامعة الإسلامية، وجامعة الأزهر، وجامعة الإسراء، كلها دمرتها مدافع الاحتلال بالديناميت، لتطارد أحلام ومستقبل وذاكرة أبناء غزة، أبناء فلسطين وتحول أحلامهم إلى ركامٍ فوق الحجارة.

اليوم عندما نزور أماكن تم  إبادتها، نجد أنفسنا في مواجهة سؤال صعب: لماذا يتم اغتيال رواية غزة؟ وكيف نعيد كتابتها؟ ذلك أن الوحش التدميري لا يريد السماح باستمرار الحفظ والحكاية والتأمل.. نهج التدمير هدفه المسح الشامل والإبادة الكاملة.