«المتمردة ... ومبعوث إبليس» قصة قصيرة للكاتب ياسر عامر

الكاتب ياسر عامر
الكاتب ياسر عامر

أٌصيبت بلعنة الجمال...جلست في ليلة بدي القمر فيها يتوارى خلف السحب، لا تعلم إذا كان ذلك خجلا منها أو تعاطفا منه لما ألت إليه حالتها، جميلة ذلك الجمال الصارخ اللافت للنظر شقراء بيضاء البشرة زرقاء العين، دعي أقرانها ومثقفي القرية يلقبونها "سنو وايت " بياض الثلج" ، لحقتها لعنة الجمال كما تذكر دائما، لأنها لا تشبه أحدا من عائلتها علي مدار سنوات مضت، لا يتذكر والدها أو والدتها التي توفاها الله وهي في عمر الثامنة أعوام أن أحدا من العائلتين كان لها هذه البشرة أو لون الشعر أو العين، فلعبت الشكوك برأس والدها  طعنا في شرف والدتها.

 

تتذكر العديد من المشاحنات وبكاء والدتها بسبب لهجة والدها المتشككة، لم يكن في جمالها مثيل بقريتها التي تحول شبابها وشيبها الإعجاب بجمالها، مما باتت وأصبحت وأمست بمثابة فتنة بين شباب القرية تزداد يوما بعد يوم ببلوغها سن البلوغ الذي قد اقتحمت بابه قبل أوانها، ووصلت لاكتمال تدورها ونضج ثمرتها حين أنهت شهادة الدبلوم بمركزها التي تتبعه قريتها، بعد أن رفض والدها التحاقها بمدرسة ثانوية لأنها مشتركة، باتت غير مستسلمة لتعليمات والدها، وخاضت حروب بائت بالفشل وآخر حروبها عندما تفوقت وكرمها المحافظ وأرادت أن تلتحق بإحدى الكليات في عاصمة محافظتها، ولكن خوف والدها عليها علي حد تعبيره جعله يرفض الفكرة بتعصب شديد، كما رفض أيضا تدخل بعض عقلاء العائلة وكبار القرية بعد أن اشتكته لهم، كانت ثورة والدها وغصبه غير مبررة بالنسبة لها، شيدت في قلبها جدرانا وأبراجا عالية بمثابة حواجز حالت بين حبها لوالدها وتعاطفها معه، فتحولت مشاعرها لكره بغيض وتمرد عنيد، جعلها لا تتقبل أية تعليمات أو توجيهات من سلطات عليا، بدأت بوالدها، وارتفعت لتشمل تعاليم دينها أيضا، رفضت المشايخ ونصائحهم، واعترضت عن القدوة وكل من هو ذو خبرة.

 

 عقدت النية في تلك الليلة أن تعلن تمردها مدويا ودعت جميع قوى الشر المجهولة متحديتها إن كانت فعلا موجودة، طالبتها أن تقف معها في تمردها وإعلاء شأنها وانتقامها من كل من أدي بها إلى تلك الحالة اليائسة، واستعاذت من قوى الخير أو أي لمسة حنونة تمر كنسمة علي أوراق أشجارها وتثنيها عما بنيتها.

وقررت ألا تعود أدراجها، متناسية ان الغزال الشارد لا بد أن يتلقفها الذئاب، جعلت من صفحة مياه الترعة مرآتها وبدأت تناجيها متقمصة دور الساحرة الشريرة " دبريني يا مرايتي" مستعدة لخروج إحدى الجنيات تستمع بكائها وشكواها، وإذا بصوت من خلفها كأنه اصطدام ارتعدت فرائصها ونظرت ببطء خلفها لتجد جسد ملقي علي الأرض ينزف دما فلما تحققت لبرهة اكتشف أن راكب دراجة بخارية اصطدم بفروع الأشجار علي الطريق وكان الشجرة تحالفت معها لتجذب لها أحدهم يساعدها وتحقق دعوتها، وألهمها عقلها أن تتصل بسيارة الإسعاف من محمولها العتيق بيدها، ودفعها الفضول أن تذهب معه الي المشفى ليتم إنقاذه متمنية أن يكون هذا نوع من الهروب بلا عودة، وساعات ووجدت والدها وعدد من أفراد قريتها يحيطون بها وسط اللوم والعتاب لقلقه والدها عليها  اصطحبوها معهم كناقة ضلت عليقها وسط ظلمة الصحراء.

وشُدد الحصار حولها من والدها وأصدقائه وبعض أفراد العائلة، لكنها وجدت في الشاب المصاب سبباً للهروب أو حجة غياب باعتبارها مسئولة عنه وصورة بطاقتها في حسابات وأمن المستشفى، وفعلا طالبوها للحضور لإنهاء بعض الإجراءات. هبط الشاب المصاب بعد استعادة عافيته راكعا على ركبتيه أمامها كمتعبد الآلهة عشتار معربا لها عن جزيل شكره بإنقاذها حياته ومعبرا عن سعادته وانبهاره بجمالها، ووعد أنه لن يتركها فمن جمعه الرب لن يرضى عن تفريقهما للأبد.

تسللت الكلمات إلى قلب الفتاة كأنها سحر فرعوني عتيق، اعتبرته منقذها الوحيد ووسيلة لتحقيق أحلامها وأعجبها إظهاره خضوعه لها رغم أنها تيقنت أنها علي مشارف حرب مع والدها، وعقدت العزم أن هذه المرة لابد أن تخرج منتصرة بدون خسائر بالنسبة لها مهما كلفها الأمر.

 

كان رفض والدها المتوقع لأن الشاب مجهول ليس له عائلة ولأنه نسب، قال إنه وحيدا لا أهل له، كان يعيش معهم في بلاد بعيدة أصابها أحد الأوبئة وقضى على معظم قريته ثم أتى وحيد تعيساً بعد فقد كل عائلته، وكون نفسه لتفوقه في مجال البرمجيات والتي أصبحت أكل عيش له ومصدر رزقه الوحيد، بالإضافة لهواية تربية القطط والحيوانات الأليفة.

 

كانت خططتها البديلة أن تهرب من قريتها في إحدى الليالي وتتزوج هذا الشاب وتنقطع علاقتها بالماضي وتشارك الشاب وحدته بعد أن فقد أهله قصريا، وقررت ان تفقدهم هي اختياريا، علم والدها بالخطة الخبيثة بعد سماعه اتفاقها خلال التنصت علي مكالمتها ضمن خطته في إحكام الرقابة عليها.

لكنه تنازل مستجيباً لآراء الحكماء، ووافق مضطرا علي زواج ابنته بهذا الشاب الغريب بعد وضع شروط تعسفية في محاولة في عدم إتمام الزيجة فأسرف في المغالاة في طلبات المهر وإعداد منزل الزوجية، وكتابة بعض الكمبيالات علي هذا الشاب كضمان، بالإضافة لشرط زواجهما بالقرية وعدم العيش خارجها.

 

اشتري الشاب بيتاً قديماً في أحد النواحي البعيدة عن القرية وسط زراعات بجوار الترعة التي شهدت على لقائهما الأول.

بني في حديقة المنزل حظيرة صنعت بعناية بها أقفاص خاصة بالحيوانات الأليفة لممارسة هوايته في تربيتهم كما ادعي.

وما هي إلا أيام قلائل ولاحظت علي زوجها أعراض غريبة اصفرار الوجه وشرود الذهن وجحوظ العينين، بدي غريب الأطوار تماماً، أصبح خروجه ليلا وعودته مع ساعات الصباح الأولى يقلقها، لاحظت مصادفة أن عدد القطط في الأقفاص يقل شيئا فشيئا، كانت رائحة الموت تطل بظلالها علي المكان، رجته في تغيير السكن تحجج بشروط والدها، طالبت بتغير المنزل واتخاذ منزلا آخر داخل حدود القرية ولكنه رفض رفضا شديدا وثار كأنه شخص آخر.

بدأت تعد الخطط لمراقبته خلال تسلله ليلاً وخاصة بعد ازدياد حالات القتل وامتصاص دماء القتلى وخاصة الأطفال بقريتها، والفاعل مجهول، خلال إحدى الليالي رأته يتجه إلى مقابر القرية ويجتمع بالذئاب، كأنه يتحدث لغتهم، رأته في ليلة أخرى يقوم بخنق القطط يمتص دمائها، كانت أكبر صدمة في حياتها، ولكنه المنقذ من وجهة نظرها، بعد ساعات من الحوار مع النفس، قررت مواجهته، اعترف لها أنه يعاني من سحر يجعله في حاجة دائمة إلى شرب الدماء، وأقسم لها بربه أنه ليس له دخل بقتل أفراد القرية، وعلل ذهابه ليلاً للمقابر بحثا عن عظام طفل مات حديثا ليأخذ منه جزء يطحنه ليفك السحر وبكى تحت قدميها ورجوها أن تقف معه وتسانده.

أذال بكائه خوفها وقلقها وعدته بالوقوف معه والذهاب معه ليلاً للبحث عن ضالته ليتخلص من سحره اللعين، وعندما علمت عن طريق إحدى زميلات الدراسة أنها تزوجت شيخا أزهريا رجتها أن تسأله كيف حل هذا السحر وقصت لها ما حدث ووعدتها أنهم سيقومون بزيارة لها قريبا لمحاولة فك السحر، وعندما علم زوجها ثار كبركان ينفث حممه السامة الملتهبة" شيخ لا لا لا فاهمة" وعندئذ انتبهت أن زوجها لم تره يصلي قط حتى صلاة الجمعة كان يخرج في موعدها ولكنه لا يعرف للمسجد طريق، عندما لفتت نظره لذلك، أكمل ثورة بركانه وقال " أنا مثلك تماما أنتي أيضا لم أرك مرة تصلي".

بعد أن هدأت ثورته وحل الليل، ليلة غير مقمرة كان قد رتب أشيائه وأمرها بذلك متعللا أنه سيحقق لها رغبتها وينتقل إلى بيت آخر، أسرعت تلملم أشياءها متشككة من الوجهة.

وعندما خرجت من المنزل في اتجاه الطريق جذبها من ذراعها كأنه صاعق كهربائي يجذب بعوضة ليقتلها صعقاً، مشيرا بيده بوجهه نحو الترعة، ومركب صغير تم تجهيزه من قبل اندهشت لذلك وسألته عن وجهتها فأجاب مقتضبا سنغادر بالمركب للجانب الآخر من القرية .

بعد أن ارتفع صوت موتور المركب كنفير يعلن بدء تقدم الجيوش لأرض المعركة حدثها حريصاً أن يرتفع صوته فوق صوت موتور المركب .

وعند ذلك ظهر الوجه الشاحب القبيح، برزت أنيابه كذئب مفترس يستعد لاقتناص فريسته قائلاً " أنا جئت بناء على طلبك أنتي طلبتيني.. جئت لأنقذك أمرني ربي" أتؤمن برب؟

كيف وأنت لا تصلي؟

 انا أصلي ليلا بالمقابر، أنا مبعوث ربي الذي ناجيتيه لإنقاذك من عالمك لعالمنا ذهاب بلا عودة

 أجابت متشككة من ربك؟

أنا رسول أنا مبعوث إبليس، وأنتي فريستي، حاولت أن تهجم عليه وتطرده خارج المركب وتتجه في الاتجاه المعاكس لتعود أدراجها، تذكرت لأول مرة نصائح والدها وتشدده حنت لحضنه، اشتمت رائحة طين القرية، كم تأكدت أنها جميلة الآن، تتذكر كبار القرية شبابها أطفالها، اكتشفت أن قوتها ضعيفة أمام قوته ماذا تفعل غزالة أمام نمر مفترس؟

 انهال عليها التقم رقبتها يمتص دمائها لتزداد قوته ويتحول لشكل بشري، قذف جثتها خاوية من الدماء، أخذها التيار إلى مشارف القرية ليواري الثرى جسدها الخاوي من الحياة والدماء، مكتوب علي شاهد قبرها" ادعو لمن ترقد هنا بالرحمة فقد ماتت قبل أن تعيش".