فاطِمَـة ناعـُوت تكتب .. زيارة أول الشهر

فاطِمَـة ناعـُوت
فاطِمَـة ناعـُوت

لم ينتبه لموت أمّه فى الغرفة المجاورة. استيقظ مبكرًا كعادته وغسل أسنانَه وأخذ دوش الصباح. اندهش قليلا لأنه لم يسمع صوتَ أمّه آتيًا من بعيد بمجرد أن تشعرَ باستيقاظه فتُغنى له: «يا صباح الخير ياللى معانا، الكروان غنّا وصحانا، والشمس أهى طالعة فى سمانا، ياللا معاها يا عموري!» ومع الكلمة الأخيرة تحتضنه وتدغدغه فيضحك ويكركع وهو يغنى معها. لم تأتِ له بكوب حليب اللوز، ثم كأس أدوية الصباح مثلما تنصُّ طقوسُ الصباح الباكر! الطقوسُ الثابتة فى هذا البيت الصغير خطٌّ أحمر، كسرُها جريمةٌ لا تُغتفَر! فكيف كسرت أمّى طقوسَ الصباح؟! فكّر قليلا لكنه لم يعبأ، ولم يذهب إلى غرفة أمّه يتفقّدها.

ذهب إلى غرفة المكتبة وبدأ تمارين الصباح. ولم تظهر أمُّه لكى تشجعه كالمعتاد وتهتف: «عاش يا عمر يا بطل!»  جلس إلى البيانو وراح يعزف مقطوعة «أنشودة الفرح» لـ بيتهوفن، تلك التى يبدأ بها يومَه فيما تعدُّ أمُّه وجبةَ إفطاره:  [مــى مى فا صول | صول فا مى رى | دو دو رى مى | مــى رى رى | مـــى | مى فا صول | صول فا مى ري| دو دو رى مى |رـــى دو دو]. إن كسرت أمُّه طقوسَ اليوم وأطالت النومَ هكذا، فلن يكسرها هو. الروتين مقدس! راح يفكر هذه الأفكار وهو يتعمد أن يخبط النغمات الأخيرة من كل نوتة على نحو صاخب حتى تصحو أمّه من النوم وتأتى إليه! منذ متى وأمه نومها ثقيل هكذا؟ حتى لو غفلت مع الفجر فإنه تصحو مبكرًا جدًّا! سوف يعيد عزف الأنشودة بصوت أعلى [مــى مى فا صول صول فا مى ريييييى]! ولم تأت أمُّه على صوت عزفه كالمعتاد لتغمره من ظهره وتقول: “الله يا عموري! أحلى عزف فى الدنيا، ابنى فنان يا نااااس!” لا بأس! لا شيء يجبره على تغيير الطقوس المقدسة، وإن نامت أمُّه هكذا طويلا. شغّل التليفزيون على الصوت الصامت وجلس على مقعده فى غرفة المعيشة ينتظر. وحين مرت الساعات وتوهّجت شمسُ الظهيرة دون أن تنادى عليه لطعام الإفطار أو الغداء الذى تعدُّه بنفسها، اندهش أكثر! قرر الذهاب إلى غرفتها، فوجدها راقدة على سريرها مفتوحة العينين، ولم تلتفت نحوه تتهلَّل وتغنى له بكل أسماء التدليل المشتقة من اسمه كما تفعل عادةً، إن مرّ بغرفتها التى لا تغلقُ بابَها أبدًا! ظن أنها نائمة. وقف أمام سريرها برهةً، وراح ينظر فى عينيها وهو يبتسم، لعلّها تنظر نحوه. امتدت البرهةُ دقائقَ طوالا، اقتربت من كسور الساعة، وهو واقفٌ أمام سريرها صامتًا يتأملُ عينيها الشاخصتين نحو سقف الغرفة! ولمّا لم تتحرك أمّه، ضحك ضحكته الطفولية الجميلة، وخرج من غرفتها إلى الشرفة وجلس على الأرجوحة يغنّى. بعد نصف ساعة دخل غرفته ليجلب الألوان ودفتر الرسم وفى طريقة إلى غرفة المعيشة، مرّ على غرفة أمّه، واختلس نظرة إلى جسدها المُسجّى على سريرها دون حراك. أكمل طريقه إلى لوحة الرسم. لوحةُ الأمس لم تكتمل بعد. اختار ألوانه وراح يرسم. ولم تأت أمُّه لتتأمل اللوحة، وتهتف وهى تُقبّل رأسه ويده: “الله يا عمر.. تُحفة.” «كده فيه حاجة غلط!”، فكّر، وترك اللوحة، وذهب إلى غرفتها وهمس بصوت خفيض: “ماما... قوم إعمل فطار... عمر جعان!”  وانتظر برهة، وحين لم ترد أمُّه، ضحك، وذهب ليكملَ الرسم. 

انتصف النهار وقرصه الجوعُ فذهب إلى غرفتها من جديد، وراح يلمس كتفها برفق بطرف إصبعه، ويهمسُ بصوتٍ خفيض: “عمر جعان أوى جدًّا.... قوم يا ماما اعمل أكل!” ذهب إلى المطبخ وفتح الثلاجة فوجد تورتة عيد الميلاد. اليوم عيد ميلاده الثلاثين... ولكنه حين يُسأل عن عمره يقول: «١٢ سنة». ودائمًا تُصلّح له أمُّه: “٢٦- ٢٧- ٢٨- ٢٩” فيكرّرُ وراءها الإجابة الصحيحة. قطع شريحة من التورتة وراح يأكل سعيدًا لعدم وجود أمّه تمنعه برفق وتهمسُ مبتسمةً: “السكر مُضِر، الدقيق مُضِرّ، اللبن مُضر!” ثم تميل على مَن حولنا من الغرباء، وتهمس  بصوت خفيض، وهى تظن أننى لا أسمعُها: «معلش عمر مينفعش ياخد جلوتين ولا كازيين ولا سكر، عشان هو على «طيف التوحد». «عمر» لا يعرف مَن هما الجلوتين والكازيين اللذين تبغضهما أمى وتمنعهما من دخول البيت. ولا يعرف حتى ما «طيف التوحد» الذى يقترن اسمُه باسمِه منذ طفولته، ولكنه يعرف أنهم أعداء يكرهون عمر ويريدون قتله. 

كانت الأمُّ فى تلك الأثناء تراقبُ «عمر» يدورُ بين الغرف، ويذهب إلى جثمانها بين الحين والحين صارخًا: «عمر جعان بقا! قوم يا ماما!» كانت تبكى وتركض كالمجنونة بين الأبواب البيضاء، تطرقُ هذا البابَ، ويُصكُّ فى وجهها هذا البابُ.  وحين أخفقت جميعُ محاولاتها، تجاسرت وطرقت البابَ العلويَّ الذى لا يطرقه إلا العارفون. ولدهشتها فُتح البابُ ولم تنتظر أن يُسمح لها بالدخول، بل ركضت نحو العرش العظيم وسجدت تحت قدمى الجليل، ونظرت إلى بركة الماء التى صنعتها دموعُها، فخجلت وراحت تجفِّفُها بطرف ثوبها، حتى أتاها صوتُ الرحمن يحثّها على الكلام. همست: “أيها الجليلُ اسمح لى بزيارة واحدة لابنى كل شهر، دون أن يرانى ولا ألمسه، أخبزُ خبزَه وأعدُّ طعامه وأضىء شموعه؛ حتى يعتادَ غيابى، وتقضى فيه أمرًا! 

عند المساء، كان «عمر» يجلس فى غرفة المعيشة وحيدًا، وفجأةً، ابتسم حين أحسّ بطيف أمّه فى البيت، ثم بدأ يسمع أصواتًا آتية من المطبخ، فعرف أنها تعدُّ له العشاء.

 

إقرأ أيضاً : د. أمانى فؤاد تكتب : السرد الروائى وفن المعمار