د. أمانى فؤاد تكتب : السرد الروائى وفن المعمار

فن المعمار
فن المعمار

وهنا يفرض الواقع الروائى «الجديد والقديم معا» مجموعة من الأسئلة:
السؤال الأول كيف يتعامل النقد الأدبى بالدراسة والتحليل مع السرديات التى تتداخل فى بنيتها مجموعة من الفنون، أو فن واحد مع فن السرد؟

أليس على الناقد فى هذه الحالة أن يتسع جهازه الاصطلاحى النقدى ليشمل: هذا الفن ومصطلحاته، ومفرداته الخاصة؟ تاريخه، مذاهبه، فلسفة كل مذهب، وهكذا؟ أحسب أن على الناقد أن ينفتح وعيه العقلي، على دراسة الفنون الأخرى بعناية، كما عليه أن يحدّث ذائقته الفنية بطريقة مستمرة، فالذائقة تثقل بالمعرفة والثقافات والمذاهب المختلفة .

2ــ السؤال الثانى متى نستطيع أن نطمئنَّ لمقولة أن الرواية تكتب فناً من الفنون الأخرى وتظهره؟ أو أنها تُكتب بتقنيات الفنون الأخرى وتستعيرها وتصنع تداخلاً بينها وبين فن المعمار أو الرسم أو النحت أو الموسيقى؟ 

وهل لمجرد أن هناك محوراً فى النص الروائى يعالج هذا الفن بفقرات السرد، أو يسهب فى حكى تفاصيله: تاريخه وتطوراته وأنواعه، وكأنه مقال أو دراسة داخل النص، وقتها تصبح السردية قد وظفت هذا الفن؟ هل حين يتضمن القص مصطلحات هذا الفن ومفرداته يصبح قد اجتذبه لمنطقته؟ 

 لن نستطيع الاطمئنان لهذا الادعاء إلا عندما ينصهر هذا الفن فى سردية النص ببنيته، بفنيات منسوجة بعناية ووفق رؤية، بحبكته، وعوالم شخوصه، ولغته ومفرداتها واصطلاحاتها، حيث تصبح عوالم «فن المعمار وعلومه» ــ على سبيل المثال ــ السمة الغالبة للنص كما هو الحال مع رواية «الفتى المتيم والمعلم» لأليف شافاق، أو رواية «الجبل» لفتحى غانم، أو رواية «عمتى زهاوي» لـــــ(خضير فليح حسن)، فيتخلق من خلال بيئة السرد هذا الفن، ويعرض الروائى بلا افتعال خلاصة المعارف المرتبطة به فى الواقع.
فيكون التركيز فى السرد على تقنيات المعمار ومفرداته من السمات المهيمنة على العلاقات السيميائية والدلالية فى النص.

ويتضمن هذا العلامات بأنواعها التى شملها تصنيف «بيرس الثلاثى للعلامة»، الذى مازال هو التصنيف السائد حتى يومنا هذا (الأيقونة ــ المؤشر ــ الرمز)، فتتضح بيئة هذا الفن وحساسيته من خلال البنية السطحية للنص، التى تتبدى من خلال الوسائل النحوية، وعلاقة الجمل والعبارات ببعضها بناءً ودلالة ومضموناً، والبنية العميقة التى تعتمد على الربط الإدراكى بين الأحوال والقضايا والجمل المعبرة عنها، وهو ما يصنع الانسجام بين مكونات النّص وأجزائه.  وهو ما ندركه أيضاً من خلال المحاور السردية الأخرى، مثل: البناء النفسى للشخوص، والمنظور الفلسفى الذى يتلقون به الحياة، ويفسرونها، والبيئة الاجتماعية. أى عندما يتلاقح ويتناسل هذا الفن بجموع تقنياته مع النص الروائى وهندسته التشكيلية.

عندما تستطيع الرواية أن تحول تقنيات فن من الفنون وتتعامل معه فنياً وفكرياً وإجرائياً لتصبح هذه الآليات طيعة فى الانضمام لتشكيل النص الروائى وبنائه الفكرى والفنى نستطيع أن نقول إنّ الرواية تكتب الفنون وتوظف تقنياتها. 

هنا يتطلب من الدراسات النقدية رصد السمات الفنية للسرد، وكيف تلون بألوان الفنون بموادها الخام الخاصة، وعلاماتها السيميائية، ثم تحليل الجوانب البلاغية الجديدة للنصوص الأدبية، انطلاقاً من أسس حديثة، لم تكن معروفة بالبلاغة التقليدية المعيارية عربية كانت أم غربية.

لقد أصبحنا نلمس سعى السرديات الروائية المعاصرة للقفز فوق مجرد حكى الواقع وتصويره، أو تشكيل عوالم خيالية، دون إضافة فنية وفكرية تنغز وتخلخل وعى المتلقى بالوجود من حوله، وتضيف لأفقه المعرفى محاولاتٍ مستمرة؛ لتجديد دماء الرواية معرفياً، بنفس درجة سعيها ودأبها فى تطوير تقنياتها من خلال شبكة من العلاقات مع الفنون الأخرى بكل أنواعها.

قد يبدو التنظير وانطلاق التصورات المجردة واستخلاصها مرحلة أولية ويسيرة، لكن رصد هذه الظواهر من خلال النصوص، ذاتها وتحليل الشواهد التى توضح علاقة الرواية بالفنون الأخرى هو هدف هذه الدراسة النقدية التطبيقية التى تسلط الضوء على علاقة الرواية بفن المعمار من خلال اختيار النص الروائي، وفى هذا المقام سأعرض لرواية أليف شافاق بعنوان «الفتى المتيم والمعلم».  
بعد قراءة هذا النص وتفكيك بنياته وتحليلها وجدت استناده الواضح على فنون العمارة، وأن المعمار بتقنياته وفلسفته يشغل النص الروائى وينسج سرديته حيث يسهم إسهاماً حقيقياً فى بنائه ، كما تأخذه الرواية موضوعاً لها، شكّل المعمار البنية الموضوعية الكبرى بجانبه المادى (الحقيقي) والإنسانى (الفنى المجازي)، فضلاً عن هيمنته على البنى الصغرى (عبارات النص وتتابعاته الجملية) التى تنتظم مع بعضها من خلال علائقها الدالة، وتصوغ له دراما مكتملة تشمل محاور النص الروائى فكرياً ووجدانياً ولغوياً.

ــ  شكلت الروائية النص مثل أى معمار، فكل بناء بحاجة لمكان يشيد عليه ، وزمان محدد يتأثر الكيان المعمارى بفترته التاريخية ، ولذا تقسم المؤلفة النص لفصول تبدأ بمدخل صغير بعنوان إسطنبول 1074 م ، ثم ماقبل المعلم أى ما قبل بناء شخصية (جهان) ذاته «الشخصية الرئيسية بالنص»، وما بعد المعلم أى مراحل بناء شخصية (جهان) ، التشييد هنا يقع على «جهان» ذاته، وكأن تحولاته بعد المعلم هى الطوابق التى تم تشييدها بداخل نفسه. 

ــ تستعين الروائية فى «الفتى المتيم والمعلم» بفلسفة فن المعمار فى اختلاف النظر إلى الكون، وطرائق البشر فى عبادة الإله بحسب عقائدهم، ومن ثم اختلاف تجليات أشكال المعمار، اختلافاتها  وتوافقاتها.

وتتوسل فى تشييد نصها الروائى بتقنيات المعمار وفنونه التشكيلية ومواده الخام، وطبيعة نفوس البنائين التى تمثل كل واحدة منها إحدى المواد الخام التى تُستخدم فى البناء فتشبهها بها. 

حيث تصنع مزجاً بين المواد الطبيعية وطبائع البشر ونفسياتهم وهو ما يستدعى نوعاً من الإلمام العميق بعلم النفس، كما يستلزم من النقد الإلمام بكثير من المعارف التى تغذى الإبداع البشري.

لا تكتفى الروائية بتشييد شخصية جهان فقط بل هو وتلامذة المعلم الآخرين، الشخصيات الثانوية، كيف شيدهم (سنان) حين التقط المهمشين والضائعين والمنسيين، وشرع فى بنائهم من الجانب الفكرى الثقافى ، والعلمى التقنى المعرفي، والإنسانى. فكل الشخصيات الرئيسية بالعمل يشتغلون بالمعمار بأنواعه وفنونه.

ـــ كما تركز الروائية على الفلسفة المعمارية الكامنة خلف البناءات: المساجد ، القصور، شبكات المياه والرى ، المدارس والحمامات ، القناطر ، المراصد الفلكية ، بيوت البسطاء. وإذ يتضمن نصها هذا العمق لفلسفة البناءات ودورها فى التجمعات البشرية نلمس جانباً واعياً بالإبداع، تتقصد الروائية أن يتضمنه عملها، وهو الجانب المعرفى الذى يغذى السرد بمحمولاته الفلسفية، وجانبا آخر لا واعٍ وهو ما أظنه التقنيات التى تشكل العمل من خلالها، فيصبح الشكل حاملا جوهريا لفلسفة النص العميقة.

ـــ كما تعتنى الروائية بالجانب الزخرفى والجمالى داخل التكوين البنائى ودلالته الفكرية وانطلاقه من فلسفة كلية من خلال فكر المعلم واقتناعاته، فحين يتعجل السلطان مراد إنهاء المسجد يستهين بزخارف القبة ويستخف بتواجدها فى المسجد فيقول سنان الأستاذ المعمارى» القبة هى الله، فى كل بناء هناك مركز للكون ، البناءات أرواح ، كل بناء جنين، فنلمح من خلال السرد علاقة تصوف كامنة بين البنائين المعماريين وكل مبنى شيدوه».

كما لا يضحى المعلم سنان بالجانب الجمالي، فى أى مبنى ويرى أنه ليس مكملاً إضافياً بقدر وجوده الجوهرى الذى يكسب المعمار طبائعه وسماته الخاصة وظيفياً وذوقياً.

ـــ تؤكد الروائية أيضاً على علاقة كل مبنى بالبيئة الجغرافية الحاضنة له، والمهمة التى من أجلها قد شُيد، وشروط صلاحية كل مبنى مع ما بنى من أجله ، فهناك علاقات لا تنفصم فى كل ما يشيد معمارياً وإنسانياً، ما بين الجغرافيا وطبيعة اللحظة الزمنية ومعطياتها وما يبتغيه الإنسان من هذا البناء الذى يشيده. هذا الحشد من التفاصيل وتنسيقها ضمن شبكة من العلاقات هو ما يبرز دور المعمار فى العمل.

كما تتبدى بالنص فى صورة واضحة للغاية علاقة المعمار بالسلطات الحاكمة والتكوين المجتمعى وهو من أهم محاور النص وتتمثل فى : البذخ الباهر فى المعمار الذى يمثل الملوك ومعتقداتهم وأماكن معيشتهم، ويظهر هذا فى تناقضٍ واضح لمعمار الشرائح الأخرى من المجتمع كافة، وهو ما يعكس نماذج من أنواع الحكم الشمولى الفوقى وكيف كان - ولم يزل- المعمار مرآة لطبيعته ورغبته فى الخلود مهما كانت تلك الرغبات فادحة الثمن وجائرة فى حق الشعوب، يظل فقط ما يعنيهم السيادة وأن تبقى البناءات علاماتٍ تشير إلى فترات حكمهم. 

تبرز الكاتبة أيضا من خلال شبكة علاقات الشخوص، تفاوت الطبقات ومن ثم التفاوت الشاسع بين البناءات. ومن ثم تظهر تدريجياً علاقة عشوائية ثقافة المجتمع بعشوائية البناءات. 

كما تشير إلى علاقة السلطة الدينية المتمثلة فى رجال الدين بالمعمار، وتكفير الآخر ورفضه ، وموقفهم المناهض من التوجه الصوفى ومن العلوم واجتهاد العقل البشري.

وتبرز مبدأ التوازن فى البناء وكونه مرآة للتوازن فى التكوين الداخلى للشخوص.

فى كل مستويات الصراع والأحداث بالنص هناك وعى بجدلية الهدم والبناء، وكيفية استيعابها حيث إن الكون نفسه يُبنى ويُهدم ثم يُعاد بناؤه.

كما يظهر بوضوح بالنص أيضاً علاقة الموروثات الإسطورية بالمكان، وأثر ذلك على البشر. 

ويتبدى المكان وطبيعة معماره فى هذا النص الروائي، بفضاءاته وأنواع المعمار به، ومن يقومون بتصميمه وتشييده بطلاً رئيسياً، ومجلًى لكثير من العلاقات المتشابكة فى المجتمعات.

وتتجلى مهارة الكاتبة فى اختيارها وشغلها للغة هذا النص، حيث تعبر وتجسد الوحدات الصغرى، المفردات وتراكيب الجمل وأدوات الربط، مفردات فن المعمار، مع التقنيات العامة لفن السرد، كما تتشكل الصياغات التشبيهية والاستعارية، كتراكيب معمارية تستخدم مفردات ومصطلحات المعمار ومفرداته ومواده الخام، وبيئته العامة، كما تتجلى الفلسفة العميقة للنص من خلال إدراك المتلقى لهذه البيئة الحاضنة التى يتبناها النص.

كل هذه القضايا والحوارات تدور وتشغل أذهان الشخوص بمحاور النص، وتُترجم من خلال أحداث يتوالى وقوعها، وتتم مناقشة قضاياها ومدلولاتها العميقة بالنص، وتخلّق لها الروائية صراعات ثانوية متعددة بداخل السرد. 

وتبقى العلاقة بين الرواية والفن الذى يوظفه السرد فى ثناياه، بداية من الرؤية الشاملة للعمل، والتقنيات كافة، تتحرك وفق منظومة شجرية، شبكة من علاقات التداخل والانصهار، التجاور أحيانا، التناقض، وهى قضايا ستظل شاغل النقد الحديث، نظريا وتطبيقيا.