د. نجوى محمود صابر: الفرق بين الإنسان والوحش

أحمد عبد المعطى حجازى مع محمود درويش
أحمد عبد المعطى حجازى مع محمود درويش

ملأ الشاعر الكبير أحمد عبد المعطى حجازى الدنيا وشغل الناس، فهو المفكر الذى لا يشق له غبار وقد عالج قضايا الأدب والمجتمع والفن باقتدار وتمكن. الأستاذ أحمد عبد المعطى حجازى مسيرة عطاء وعمر من الحب والتنوير.

  لقد ظفر عطاء أحمد عبد المعطى حجازى الشعرى بعناية النقاد واهتمامهم، وكتب له القبول عند محبى الشعر ومتذوقيه، وأقبل على مقالاته فى جريدة الأهرام عامة المثقفين وخاصتهم.. وقد اخترت أن أسلط الضوء على بعض عطائه فى معالجة قضايا الشعر واللغة والثقافة، وقد دق نواقيس الخطر خوفا وأملا.. خوفا على الهوية وعلى الشخصية المصرية العربية، وأملا فى السعى الحثيث للتصدى للخطر الذى يحدق بأمة بأسرها كى لا تضيع ملامحها، وتتوه وتتفرق بين الأمم.

>اقرأ أيضاً | ذروة النضج فى بناء المشهد الشعرى فى «مذبحة القلعة» و«حرب الباسوس»

حدثنا الأستاذ حجازى عن «علاقة اللغة بالحضارة» فرآها إياها! وأشار إلى أن اللغة ورقيها لهى الفرق النوعى بين الإنسان والوحش. فإذا فقد الإنسان علاقته باللغة عاد وحشا كما كان، أو فقد إنسانيته دون أن يكون قادرا على استعادة مكانه فى الغاب. فالنتيجة إذن هى الانقراض، ولا ضمان للاستمرار بدون اللغة الحية التى تعنى أمة حية، والعكس صحيح.. وإن علينا أن نقيس حظنا فى الحياة بحظ لغتنا.

وهذا سؤال يلقيه شاعرنا الكبير: «لماذا تدهورت لغة الشعر ولغة الأغانى؟» والإجابة عنده هى أن الناس قد فقدوا صلتهم بالحياة الحقة، بوصفها مغامرة رائعة مسئولة وانسحبوا إلى خارج الحياة بعيدا عن تساؤلات العقل ورقابة الضمير.. تدهورت لأننا لم نعد نعرف النشوة الأنيقة ونحياها، ولا الطلاقة الآسرة، ولا ذلك التعلق الحميم بالمثل الأعلى.

إذا كيف يمكن أن تصبح علاقة الناس باللغة إذا كانت علاقتهم بالحياة نفسها مريضة؟

ويحدثنا شاعرنا الكبير عن الشعراء، وكيف هم يخطئون الآن فى النحو والوزن والتراكيب ونطق الأصوات! وإذا سئلوا ردوا بمقتضيات الحداثة، وضرورة تدمير اللغة القديمة.. وكأن الخطأ الذى كنا نخجل منه فى الماضى وننبه له القراء ونعتذر عن وقوعه لم يعد عيبا فى هذه الأيام! الشعر السخيف هو الذى ينشر الآن ويصفق له. لقد أصبح النموذج السائد فى الشعر نقيضا للاحتياج الإنسانى الحقيقي، وأكثر ما يخشى منه مفكرنا أن يكون هذا النموذج السائد تعبيرا عن الذوق العصري. وتلك هى الطامة الكبرى!

إن علاقة الإنسان باللغة أيها السادة هى مقياس علاقته بالعالم، فإذا امتلكها فهى الدليل الساطع على إقباله على الحياة وفرحه بها وبنفسه واتصاله بسواه.. فماذا عنَا؟ ماذا عن علاقتنا بلغتنا؟ صارت واهية مثل خيوط عنكبوت! إذن فحظ لغتنا من الحياة ضئيل.

ولكن شاعرنا بالرغم من كل هذه المثبطات لا يركن أبدا إلى شعور باليأس التام لأن الشعر عنده هو المادة الأولى التى تتشكل منها الحياة فى صورها المختلفة.

وقد لحظ الأستاذ أيضا أن بعض النقاد يعتقدون خطأ أن الشعر هو فن الحياة الساذجة البسيطة كما يكون فى القرى والبوادى والحواضر القديمة، وأن الرواية النثرية هى صوت العصر الحديث. هؤلاء قد أرادوا أن يجعلوا ازدهار النثر نتيجة سعيدة لموت الشعر. ويرفض مفكرنا هذا التوجه ونرفضه نحن معه ولا نرى أن تراجع الشعر يمكن أن يقابله أى ازدهار لأى ثقافة حقيقية، أو أى فن رفيع، بل إن تراجع الشعر يكون مصحوبا دائما بتراجع اللغة عامة، وبرواج تلك الثقافة التجارية المتمثلة فى الأشعار السخيقة الهابطة، والأغانى التى صرنا نسمعها قسرا!

وسؤالى الآن: كيف يعود الشعر ليزدهر من جديد؟ وهو كما يراه شاعرنا ممثلا للمكان الأعلى فى اللغة العربية لأنه مفتاح بابها،وخازن أسرارها.. ويشير الأستاذ إلى مكمن الداء القابع فى مدارسنا وسبل تعليمنا اللغة العربية والشعر للنشء الغض الذى يزداد مع الأيام بعدا عن لغته ونفورا من فنونها، وعلى رأسها الشعر بالطبع! والنتيجة مرعبة لنا جميعا أيها السادة.. ضياع أجيال من أبنائنا لا يعرفون شيئا عن لغتهم القومية، وما يدرسونه فى مقرراتهم من نماذج تستدعى شعورا بالهم والغم والكدر. ولننظر لأبنائنا لنرى كيف يقرأون وكيف يكتبون وكيف يتحدثون! إنه وضع كارثى بمعنى الكلمة.

كذلك يتساءل الشاعر المفكر فى موضع آخر عن هذا التحول الحاصل عن الفصحى إلى العامية الضحلة، وإلى الإنجليزية فى كل مكان بدءا من الشوارع التى تتزاحم فيها الإعلانات المكتوبة بعامية سوقية أو بالانجليزية حتى شعر أبناؤنا الصغار والكبار الذين يواجهون هذا السيل بأن ما يواجهونه أينما توجهوا إنما هو لغتهم القومية! وإلا فكيف سمحت به الجهات المسئولة، وكيف منحته هذا الفضاء القومى العريض ليعبث يه العابثون؟

وسؤال الأستاذ هو: لماذا لا تستخدم اللغة العربية الفصيحة؟ والجواب: لأن الفصحى تستدعى الشعور بما لا يحتاج إليه الإعلان وهو الإحساس بالوقار والصدق والجدية والانتماء لهذا الوطن! وإنها لقيم يضحى بها المعلن ليستحضر فى المستهلك شعوره بأن ما يأتى من الغرب، أو ما يعلن عنه بالانجليزية أجدر بثقته. إنهم يخاطبون فى المستهلك «شعوره بالنقص» مع الأسف.

وإذا كان هذا هو حال اللغة، فمفكرنا يرى ونحن معه أن الخسارة لن تكون فى الشعر وحده، بل فى الشعر والنثر، فى التعليم والإعلام فى الماضى والمستقبل، لأننا لن نعرف ماضينا إلا باللغة التى تربطنا به، ولن نبنى مستقبلنا إلا باللغة القادرة على أن تستوعب ما وصلت إليه الحضارة والإنسانية، وما يمكن أن تصل إليه.

ولا يفوت كاتبنا أن يحترز ممن قد يدعى علينا أننا ننكر العامية أو نجحدها ونسعى لإقصائها ونفيها، وهذا مالم يقله، وما فكر فيه. فللعامية احترامها ومكانتها ومجالاتها، ولكن دون أن يكون لدورها هذا تاثير سلبى على الفصحى «اللغة القومية» الهوية التى يجب علينا جميعا أن نسعى ليكون لكل منا حظه الوافر من إتقانها.. وإلا فقد خسر الكثير.

وأخيرا يؤكد مفكرنا الشاعر الكبير أن الإبداع الأدبى حياة متجددة للغة وأن الشعر هو عامود هذا الإبداع.

إن هذه المعالجة العميقة التى قدمها أديبنا لعلاقة اللغة بالحضارة والإبداع الشعرى لحقيقة بأن تجد صداها على المستويين الرسمى والشعبي. ولعلى أقول إن المشروع القومى الذى تتبناه جامعة الإسكندرية ليعيد للغة العربية بهاءها ورونقها، ويؤكد قدرتها على الإبداع والإمتاع لهو استجابة عملية لما دعا إليه الشاعر والمفكر الأستاذ أحمد عبد المعطى حجازى انطلاقا من الإحساس بمسئوليتنا نحو لغتنا العربية، فهى ليست ألفاظا وتراكيب من زمن مضى، ولكنها هويتنا وحياتنا وحضارتنا وتاريخنا وأخلاقنا وإبداعاتنا عبر العصور.