د. زينب فرغلي: ‎حجازي.. الشاعر والمثقف

أحمد عبد المعطى حجازى
أحمد عبد المعطى حجازى

‎عِنْدَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكْتُبَ عَنْ شَاعِرٍ عَظِيمٍ كَحِجَازِى تَقِفُ حَائِرًا لَا تَعْرِفُ مِنْ أَيْنَ تَبْدَأُ؟ وَإِلَى أَيْنَ تَنْتَهِي؟ سِيرَةٌ عَطِرَةٌ جَدِيرَةٌ بِالْإِعْجَابِ وَالتَّأَمُّلِ، لقد وصل إلى مستوى رفيع ومتفرد من الانجاز الشعرى النقدي، فَهُوَ اَلرَّائِدُ لِأَجْيَالٍ مُتَعَاقِبَةٍ، يعد مِنْ أَبْرَزِ شُعَرَاءِ اَلْحَدَاثَةِ مُنْذُ أربعينيات اَلْقَرْنِ اَلْعِشْرِينَ وَحَتَّى اَلْآنَ، فَمَا زَالَ حَاضِرًا فِى اَلْمَشْهَدِ اَلثَّقَافِيِّ اَلْمِصْرِيِّ وَالْعَرَبِيِّ دِفَاعًا عَنْ قَنَاعَاتِهِ اَلْمُتَعَلِّقَةِ بِالْأَدَبِ وَالشِّعْرِ مِنْ جِهَةِ وَبِقَضَايَا اَلْحُرِّيَّةِ وَالتَّنْوِيرِ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى، فَحِجَازِى لَيْسَ شَاعِرًا شديد التفرد أو ناقدا ذكيا فَقَطْ وَلَكِنَّهُ مُثَقَّفُ حَمْلَ رَايَةَالفكر واَلتَّنْوِيرِ، وَقَدْ اِنْعَكَسَ هَذَا اَلدَّوْرِ عَلَى قَصِيدَتِهِ بَلْ عَلَى مَوْقِفِهِ مِنْ اَلشَّكْلِ اَلشِّعْرِيِّ مُنْذُ اَلْبِدَايَةِ وَلَعَلَّ مَعْرَكَتَهُ مَعَ العقاد كَانَتْ ذُرْوَةُ هَذَا اَلْمَوْقِفِ وبدايته فى آن واحد، فهو شاعر غير مهادن صارم فى طرحه. يكتب فيه قصيدةً عصماء متمردا على السابق والمسكوت عنه ورافضا للثبات والجمود، يقول: (من أى بحرٍ عصى الريحِ تطلبُهُ/إن كنت تبكى عليه ، نحن نكتُبهُ) فشعره محمل دائما بمواقفه ومبادئه التى تشغله وتؤرقه، فهو من أبرز الشعراء المدافعين عن الحرية والتنوير، فقد كانت حياته رحلة بحث عن التحرر من مصر إلى باريس. 

‎شغل بالكلمة والرأى الحر فى مجمل شعره، بل ويتخذ من الكلمة عنوانا لقصائده مثل قَصِيدَة المجد للكلمة، وقصيدة دِفَاع عَنْ اَلْكَلِمَةِ التى يَقُولُ فيها:

‎(أَنَا أَصْغَر فُرْسَانِ اَلْكَلِمَةِ/لَكِنِّى سَوْفَ أُزَاحِمُ مِنْ عَلَّمَنِى لَعِبُ اَلسَّيْفِ / مِنْ عَلَّمَنِى تَلْوِينُ اَلْحِرَفِ / سَأَمُرُّ عَلَيْهِ مُمْتَطِيًا صَهْوَةَ فَرَسِي/ لَنْ أَتَرَجَّلَ / لَنْ يَأْخُذَنِيَ اَلْخَوْفُ ).

اقرأ أيضاً| حجازى: طريق الشاعر إلى الإنسانية!

‎وقَدْ مَرَّ مَشْرُوعُ حجازى اَلْفِكْرِيُّ بِمَرَاحِلِ بدايةً من دوره فى مسيرة الشعر الحر وأهم القضايا التى تناولها. فلا أحد يغفل دوره الريادى فى تلك المرحلة، التى تجدد فيها شكل القصيدة على مستويات عدة: مستوى الإيقاع، والصورة، والرؤية الفكرة، فكل قصيدة من قصائده تحمل زخما فكريا. وعلى مستوى الموضوعات، تنوعت بين القضايا الاجتماعية والسياسية والفكرية، فقد انطلق مِنْ اَلْقَرْيَةِ إِلَى اَلْمَدِينَةِ، وَمِنْ اَلْمَدِينَةِ إِلَى اَلْمَدَنِيَّةِ، تُجَسِّدَ قَصِيدَةً (تَعْلِيقٌ عَلَى مَنْظَرٍ طَبِيعِيٍّ) رُؤْيَةَ اَلشَّاعِرِ بَيْنَ اَلْمَاضِى وَالْحَاضِرِ، يقول: (فِى اَلْمَاضِى كَانَ اَللَّهُ / يُظْهِرُ لِى حِينَ تَغَيَّبَ اَلشَّمْسُ/ فِى هَيْئَةِ بُسْتَانِيٍّ/ يَتَجَوَّلُ فِى اَلْأُفُقِ اَلْوَرْدِيِّ/ وَيَرُشُّ اَلْمَاءَ عَلَى اَلدُّنْيَا اَلْخَضْرَاءِ/ اَلصُّورَةٌ مَاثِلَةٌ/ لَكِنَّ اَلطِّفْلَ اَلرَّسَّامَ /طَحَنَتْهُ اَلْأَيَّامُ).

‎يقف الشاعر بين بساطة الماضى ورومانسيته وبين تعقيدات الحاضر وتحولاته الشائكة، فَدَاخِلَ اَلْمَدِينَةِ شُغَلَ بِمَشْرُوعِهِ اَلْقَوْمِيِّ وهُمُومِ اَلْوَطَنِ - وَنُطْلِقُ عَلَيْهَا (اَلْمَرْحَلَةُ اَلثَّوْرِيَّةُ)- يُظْهِرُ ذَلِكَ فِى مَوْقِفِهِ مِنْ مَوْتِ عَبْدِ اَلنَّاصِرْ، فِقد فجر موت عبد الناصر التقنيات العالية للقصيدة الحجازية وفجر طَاقَاتِهِ اَلْإِبْدَاعِيَّةَ مِنْ تَوْظِيفٍ لِلتُّرَاثِ بِأَنْوَاعِهِ: اَلدِّينِيَّ وَالتَّارِيخِيِّ وَالْأُسْطُورِيِّ وَالشَّعْبِيِّ، وَتَوْظِيف لِلَّوْنِ وَالْمُوسِيقَى، بل وبالغ فى حزنه حتى إنه َاسْتَخْدَمَ فِى رِثَائِهِ تِيمَة اَلْعَدِيدَ أو المراثى الشعبية. فِى قَصِيدَةِ اَلرِّحْلَةِ اِبْتَدَأَتْ، يقول: (كونى ندَى يَا شَمْس أَوْ غَيْبِيٍّ/ فَالْيَوْمَ يَرْحَلُ فِيكَ مَحْبُوبِي/ كَوْنِيٌّ نَدَى يَا شَمْس هَذَا اَلْيَوْمِ/عَيَّنُ اَلْحَبِيبِ اِسْتَسْلَمَتْ لِلنَّوْمِ)

‎ويقول أيضا:

‎يَا أَيُّهَا اَلْحُزْنُ مَهْلاً * وَاهْبِطْ قَلِيلاً قِليلاً

‎اِسْتَوْطَنَ اَلْقَلْبُ وَاصْبِرْ* ع اَلْعَيْنَ صَبْرًا جَمِيلاً

‎أَيَّامَنَا قَادِمَاتٍ  * وَسَوْفَ نَبْكِى طَوِيلاً

‎«استطاع الشاعر أن يغلف أبياته بموسيقى تزحف نغماتها على وهن وتراخ وكأنها شيخ قعيد لتحمل مع المعنى عبء الدلالة الشعورية» (رجاء عيد / الشعر والنغم) فبين معنى الشعر وموسيقاه ارتباطاً حيوياً، فيحاول الشاعر من خلال موسيقاه أن يحمل من المعانى والدلالات مالم تستطع حملها اللغة . وقد حدد أليوت وظيفة الموسيقى فى الشعر «بأنها هى التى تمكن ألفاظ الشعر من تعدى عالم الوعى والوصل إلى العالم الذى يجاوزه حدود الوعى التى تقف دونها الألفاظ المنثورة» (قضية الشعر الجديد)

‎وتيمة المراثى جلية فى شعره، وهو ما جعل شعره أكثر إنسانية وهيمنة، ولعلها تتناسب مع الفجوة النفسية بين الواقع الراهن وتطلعات الشاعر وهواجسه، فمرحلة الناصرية وما بعدها كانت مخيبة لآماله وتطلعاته، فقد كتب قصيدة أغنية للاتحاد الاشتركي، ثم غَير هذا العنوان بعد فشل التجربة الاشتراكية. وله العديد من المراثى لبعض الشخصيات التى أثرت فى الساحة الثقافية، كرثاء المالكى مرثية لفرج فوده ولكارل ماركس لم يرث الأشخاص فقط بل رثا العمر الجميل بأكمله. ولن ننسى مرثية لاعب سيرك ، مرثية لانطاكية وغيرها.

دوره الثقافى فى الساحة المصرية والعربية

‎فقد رافقته صورة توازى المتضادات منذ بداية رحلته من القرية إلى المدينة، ومن المدينة إلى المدنية، فكما ساهمت القرية فى صقل ونضج الشاعر والمثقف وهيمنة المشاعر الإنسانية ورسوخها فى ذهنه ، كان للمدينة فعل مواز ،فُقْمَةُ اَلْمَدَنِيَّةِ عَاشَهَا فِى فَرَنْسَا وَكَتَبَ دِيوَانٌه « أَشْجَارُ اَلْأَسْمَنْت» مليء بالمسائل الفلسفية والوجودية. نعم وفرت له تلك الفترة احتكاكا بالآخر وَتَوْسِيعَ دَائِرَةِ اِطِّلَاعِهِ عَلَى اَلثَّقَافَاتِ وَالْمَدَارِسِ اَلْأَدَبِيَّةِ وَالْفِكْرِيَّةِ اَلْمُتَبَايِنَةِ، فقد قدم سلسلة محاضرات عن الشعر العربى فى القرن العشرين  فى كوليج دى فرانس، ترجم إلى العربية مجموعة أشعار مترجمة إلى الفرنسية ، ونقلها إلى العربية فى كتاب «مدن الآخرين»، ولكن ظلت الفجوة بين الحلم والواقع الراهن تتصاعد فى دواوينه،ففى «كَائِنَاتِ مَمْلَكَةِ اَللَّيْلِ» يقول: (آهٍ / كَيْفَ صَارَ كُلُّ ذَلِكَ اَلْحَسَنْ مَهْجُورًا \ وَمُلْقَى فِى اَلطَّرِيقِ اَلْعَامِّ \ يَسْتَبِيحُهُ اَلشُّرْطِيُّ وَالزَّانِى \ كَأَنَّنِى صِرْتَ عِنِّينًا فَلِمَ أُجِبْ نِدَاءَهَا اَلْحَمِيمَ اَلْمُسْتَجِيرَ \ تِلْكَ هِيَ اَلرِّيحُ اَلْعَقُورْ \ أَحَسَّهَا تَقُومُ سَدًّا بَيْنَ كُلِّ ذَكَرٍ وَأُنْثَى \ إِنَّهَا اَلسُّمُّ اَلَّذِى يَسْقُطُ بَيْنَ اَلْأَرْضِ وَالْغَيْمِ \ وَبَيْنَ اَلدَّمِ وَالْوَرْدَةِ / بَيْنَ اَلشِّعْرِ وَالسَّيْفِ / وَبَيْنَ اَللَّهِ وَالْأُمَّةِ / بَيْنَ شَهْوَةِ اَلْمَوْتِ وَشَهْوَةِ اَلْحُضُورِ ) .

‎وَلَمْ تَخْتَلِفْ اَلْمَأْسَاةُ فِى «أَشْجَارِ اَلْإِسْمَنْتِ» عَنْهَا فِى اَلْمَجْمُوعَاتِ اَلسَّابِقَةِ، بَلْ تَصَاعَدَتْ إِلَى ذُرُوتِهَّا حَيْثُ اَلتَّهْمِيشُ وَالنُّضُوبُ وَالتَّصَحُّرُ، وَتَبَرُّم مَرِيرٍ بِمَسَارَاتِ اَلْحَضَارَةِ اَلْإِنْسَانِيَّةِ وَمَآلَاتِهَا، فَقَدْ بَاتَتْ اَلْمُدُنُ أَكْثَرَ قَسْوَةً وَلَا مُبَالَاةَ فَالْجَدْبَ يُسَلِّمُنَا إِلَى جَدْبٍ أَكْبَرَ وَالْعَطَشِ لَا يُسَلِّمُ إِلَّا لِعَطَشِ أَكْبَرَ، فِيرِى اَلشَّاعِرٌ اَلْمُدُنَ فِى زَمَنِ اَلْجَدَبِ وَالتَّصَحُّرِ اَلْفِكْرِيِّ أَشْجَارً مِنْ اَلْأَسْمَنْتِ، يَقُولَ: (وَهَذَا شَجَر اَلْإِسْمَنْتِ يَنْمُو كَنَبَاتِ اَلْفِطْرِ \ يَكْسُو قِشْرَةَ اَلْأَرْضِ \ فَلَا مَوْضِع لِلْعُشْبِ \ وَلَا مَعْنًى لِهَذَا اَلْمَطَرِ اَلدَّافِقِ فَوْقَ اَلْحَجْرِ اَلْمُصْمَتِ \ لَا يَنْبُتُ إِلَّا صَدَأ \ أَوْ طُحْلُبًا دُونَ جُذُورٍ)

‎وبعد عودته إلى أرض الوطن لعب دورا ثقافيا بارزا،فهو رائد للحركة الثقافية العربية، وهومؤسسة لا مثيل لها فى تبنى وإنجاز مشروعات مهمة ورائدة، ومواقفه الحياتية تشهد بذلك، لقد قدم للثقافة العربية عملا أسهم فى نشأة جيل آخر من الرواد، وهو تأسيس مجلة «إبداع» والتى خرج من عباءتها جماعة إضاءة وهم حسن طلب، رفعت سلام، حلمى سالم.

‎كما اسهم فى إغناء المكتبة العربية بأرفع الترجمات لمجموعة من القصائد المترجمة إلى الفرنسية وقام بترجمتها إلى العربية.

‎وَلِأَنَّ حِجَازِي شَاعِرِ مُثَقَّفِ مُفَكِّرٍ مُسْتَقِلٍّ يَعْتَزُّ 

بِشَخْصيَّتِهِ حَمْلَ اَلرِّسَالَةِ وأَدَّى أَمَانَتَهَا فَأَحْدَثَ زَخَمًا ثَقَافِيًّاأَضَاء بِهِ اَلْأَوْسَاطُ اَلثَّقَافِيَّةُ فِي تِلْكَ المرحلة تجربتٌهُ الشعريةٌ والفكريةٌ مازالت مستمرةً تثمرُ وستثمرٌ ما دام يؤدى دورُهٌ  التنويرى كشاعر مثقفٍ ويدركُ قيمةَ هذا الدورِ.