محمد عبد النبى يكتب : نكات الوحشة وجسور الكلام

نكات الوحشة وجسور الكلام
نكات الوحشة وجسور الكلام

كوميديا التعاسة، هذه هى المفارَقة المركزية، كما بدَت لي، فى رواية مينا ناجى (مدينة الشمس) (2020)؛ كوميديا تنبثق من العنف والبؤس والعجز، مثل ضحكات عصبية محاصَرة بالانفجارات والأشلاء والموت المفْرَغ من المعنى. وفى مجموعته القصصية (ترددات) الصادرة حديثًا عن دار العين، تتخذ تلك المفارقة شكلًا أقرب للنُكتة، وإن اختلفت عن مدينة الشمس بالابتعاد عن الفانتازيا المفرِطة والاقتراب مِن محاكاة الواقع بمعضلاته النفسية والاجتماعية، وإن لم تخلُ مِن لَمسات غَرابة. 

يَرد على لسان الرواي/الطِفل فى قصة  (سِيرٌ ذاتية): «شرحَ لى الدكتور كريم إنه طبيب فى ‘الحياة الداخليَّة’ للناس التى لا يستطيع أحدٌ أن يراها. وأنها تنقسم إلى ثلاثة أقسام؛ لحظة أتذكَّر: ماضٍ ويُسمى الذاكرة، حاضر ويُسمى التفكير، ومستقبل ويُسمى التوقُّعات. سألتُه كيف يعمل فى شيءٍ لا يراه. ضحك وقال: إنه يوجد الكثير لا نراه ولكننا نتعامل معه. مثل الله مثلًا. فقلتُ له: إن الله أرسلَ لنا كلمته لكى نتعرَّف عليه. فردَّ قائلًا: إنَّ الإنسان أيضًا يبعث بكلامه لكى نرى حياته الداخلية...»

الكلام آلية مركزية فى قصص المجموعة، قد يتخذ شكل حوار بين شخصين فى صيغة تفاوض أو صراع أو يتخذ صيغة خطاب مونودرامى موجّه لآخَر يُنصِت وكفى، أو صيغة مناجاة داخلية لا نعرف إن كان ثمّة مَن ينصت إليها أو يقرأها أم لا. لكنها آلية مُعرضة لأن تتعطّل، فقد يكون الكلام كذبًا أو هراءً، وقد تُحرّف رسالته عمدًا أو عفوًا، وقد تعجز الكلمة عن التوصيل أو تمتنع تمامًا فيحل الخرس ومعه تتضاعف الهواجس وإساءات الظن. وقد يتحوّل أيضًا إلى مجرد نكتة مشحونة بالمفارقة ومنتهية بالعبارة الختامية اللاذعة. 
يصدّر مينا كتابه بعبارة القدّيس أوغسطينوس: «لأنَّ الخفيف وزنًا يُخيفكَ إن أحصيتَه.»، مومئًا إلى الخفّة الظاهرة فى أفكار وموضوعات بعض قصص الكتاب، وربما أيضًا فى نبرتها وطريقة تناولها، كما لا يستبعد ذلك الثِقل الذى قد يعتريك إذا ما أمعنت النظر فى هذه الخفّة؛  أحمال الخوف والوحدة والارتباك وفقدان التواصل الفعَّال. 

فى قصة (مُصالحة خاسِر جيد)، نقرأ (نسمع؟) حديثَ شابٍ إلى فتاة فى لقاء يبدو كأنه محاولة اعتذار ومصالَحة. الكلام يخفى النُكتة، وبينهما ركام من الارتباكات فى العلاقة وإساءات الفَهم والتحامُل المتبادَل. النكتة هنا تبدأ من مفارقة العنوان، فلا هذه مصالحة ولا هو خاسر جيد، وتنتهى بالسطر الأخير حين نكتشف من خلال كلامه إصابته بأحد تحوّرات الكورونا وحرصه على عدم وضع كمامة طوال هذا الوقت. 

النكتة نصف ظاهرة ونصف خفية وراء ثرثرته واستعادة ما كان منه وما كان منها، وإعادة سرد المواقف التى ساد فيها سوء الفَهم، لا لإزالة اللبس بل ربما لتأطيره ومَنْحه شكلًا ولغةً وقِيمة. لم ينتظم الكلام هنا ليشيّد جسرًا بقدر ما أتى يقوض الجسرَ الأخير، يغلّف رغبةً مضمرة فى الانتقام من علاقة مُسيئة، مجرد محاولة لتقديم حصان طروادة يليق بحجم الارتباك والتلاعب بينهما. 

فى قصة، الأسطى والصبي، تقابلنا نكتة محددة من السطر الأوَّل هى جزء من مادة القصة. تتذكّرها امرأةٌ ما فتضحك من حِين لآخر، ثم تتبَّع نسخها على الإنترنت وتتأمَّل تفسيراتها. ولعلَّ هذا ما دفعها لأن تتشجَّع وتطلب من زوجها أن يجرّبا شيئًا جديدًا فى علاقتهما الحميمة، شيئًا يتسم بالعنف ولعب الأدوار المُتخيّلة، لكنه يرفض تمامًا رغم انفتاحه العقلى وإيمانه بالقيم النسوية. 

الحوار بينهما لُعبة تفاوض حول حدود التجريب فى المتعة المتبادَلة بين زوجين ناضجين، لكنه أيضًا يعكسُ صراعَ سُلطة مِن نوع ما، صراعًا كامنًا تحت غطاء مفاهيمى مُزيَّن بأحدث اتهامات الصوابية السياسية، صراع انطفأ سريعًا كما اشتعل سريعًا، تمامًا كما تُروى النُكتة جيدة التوقيت، من غير إلحاح أو صدام، خصوصًا بعد انسحاب الزوج حين تهدده الزوجة بعَزمها أن تجرب ما تبتغى مع أى شخصٍ آخَر ما دام ليس مستعدًا. ثم ترجع الزوجة بأفكارها إلى النكتة فَتنتبه إلى أنَّ موضوعها هو الموت، موت الأسطى كيمو أو خبر موته الكاذب الذى فُجعَ له صبيه. هذا هو الوجه السِرى للنُكتة فى بعض قصص هذه المجموعة، الوجه المُظلم، ما يُذكّر بالخفيف الذى يخيفنا إن وزنَّاه، بحسب أوغسطينوس. 

تتخذ النكتة أو المفارَقة أبعادًا أوسع فى قصص أخرى، مثل (ليست فتاة صغيرة)، التى تبدأ بفقرتين لهما صِبغة شِعرية، موهوبتين لمديح إيروس، الإله الصغير اللعوب للحب والغرام والشهوة. فى قصة مينا هذه لا نعرف إذا كان إيروس رمى الشخصيات بسهمٍ ذهبيّ يدفع للمحبة أم بسهمٍ رصاصيّ يدفع للكراهية. صحيح أنَّ ثمة اشتهاء ورغبة فى الارتباط والاستقرار، وثمة خوف ونفور من جانب كرستين الفتاة/طفلية المظهر تجاه الكاتب المسيحى الشاب الباحث عن الاستقرار والأمان العاطفي، فى لعبة قط وفأر تبدو ضاحكة أحيانًا لكنها تحمل داخلها نغمات ذات طبقات صوثية متباينة، بعضها يكتم حزنًا ووجعًا ناجمًا عن الكبت الجنسى بالأساس. 

فى هذه القصة، ينقطع السرد فى وقفات متواترة محسوبة بين حينٍ وآخَر، ليتحدث  الكاتب صراحةً حول مسألة ما، مستفيدًا من خبراته فى الكتابة الإبداعية غير القصصية، حول مسائل من قبيل العدالة فى مقابل المحبة فى الكنيسة المصرية، والكبت الجنسى وتأخر سن الزواج ودورهما فى انتشار الاكتئاب والإحباط، كما يستدعى فى فقرات جيدة الكتابة نشيد الإنشاد متأملًا إيّاه بنبرة رزينة لا تخلو من لمسة طرافة وشهوانية، وهو الجزء الذى جاء أكثر اشتباكًا مع نسيج القصة. 

يلعب مينا ناجى مع القارئ لعبة أخرى أقرب إلى الغميضة: (أهذا أنا؟ ليس أنا؟ بل أنا!) عبر رسم سمات لشخصيات تتطابق معه هو نفسه، اجتماعيًا وبدنيًا ونفسيًا، بقدر ما تكشف عنه كتاباته غير التخيليية على الأقل. ملامح الشاب المسيحي، ابن الطبقة الوسطى التاريخية فى حى مصر الجديدة، الباحث عن الأمان والاستقرار العاطفى. فكأنه يستمد من حياته وتجاربه الشخصية وقودًا دائمًا يغذى نصوصه. مع ذلك من الصعب أن نصفها بأنها كتابة ذاتية خالصة، أو كتابة تأليف خالصة لا صلة لها بذات الكاتب، بل تسير على الحد الفاصل بين هذه وتلك، تمامًا كما يجد الشجاعة أحيانًا للتخفف من عباءة السرد وارتداء ثوب المقال أو الكتابة العامة غير التخييلية، حين يضع على السطور تأملاته وأفكاره صراحة، أو على ألسنة شخصيات تشبهه. هذه هى ترددات مينا ناجي، أو بعضها، ليس ترددات بمعنى الافتقار للحسم بقدر ما هى ذبذبة وحركة بندولية متوترة بين ثنائيات مثل الخفيف والثقيل والصمت والكلام و أيضًا المذكّر والمؤنّث، إذ يمكن بسهولة قراءة هذه المجموعة من زاوية العلاقة بين الرجل والمرأة. 

يخلق مينا ناجى معادلًا أنثويًا لتلك السمات الشخصية المتكررة فى بعض شخصياته الذكور، فى (موعِد ليليّ)؛ آخِر قصص المجموعة وأطولها، وأفضلها من وجهة نظرى فقد أنقذت الكتاب من تهديدات الخفّة والاختطاف السريع للنُكتة والانحياز للمفارقة اللاذعة فى السطور الأخيرة. 

على عكس جميع قصص الكتاب السابقة،  يهدأ إيقاع السرد تمامًا فى هذه القصة الأخيرة، ويتنفس بعمق ويتريث ليتيح التأمّل والاستبطان الحَدسي، عبر مناجاة ذاتية لشخصين مجهولين، يشارُ إليهما فقط بضميرى الغائب، هو وهى. شاب وشابة، كأنهما وجهان لعُملة واحدة، لكنهما مختلفان فى كل شيء، فهو لا يكاد يخرج من حدود مصر الجديدة بينما هى تنطلق على دراجة نارية بطول القاهرة وعرضها، وهو يميل للتأمّل والمشاعر بينما لا تثق هى إلَّا بالفعل والحركة وتعتبر الحب ضعفًا وخيبة. 

قد يشعر القارئ فى بعض اللحظات أنَّ الفتاة مجرد خيال من اختلاق الشاب، صنعها لتجسّد كل ما لا يملك وكا ما لا يستطيع، ثم لتقتله فى نهاية الأمر، فكأنّه اصطنع لنفسه ملاكَ الموت الذى يشتهيه فى صورة قاتلة محترفة، وكأنَّ آهات اللذة تقترن بحشرجات الاحتضار فى سبيكة واحدة. 

نراهما يسيران ويتحركان وسط شوارع الليل فى مدينة كأنها تتحلل، على خلفية مشاهد متكررة لكلاب منتفخة وميتة. تتقاطع طرقهما حتى تولد بينهما علاقة، ونتابع حديثَ كلٍ منهما لنفسه فى ليالٍ متعاقِبة، تتكرر فيه بعض الجمل نصًا وإن فى سياقين مختلفين، وبرؤيتين مختلفتين للعالم، المشترك الأساسى بينهما هو إحساسهما الحاد بالوحدة والعُزلة، وعبورهما الحاضِر بشعور بالغرابة كأنه ذكرى لماضى أو حدس لمستقبل غير مؤكّد. 

اقرأ ايضاً| أزمة داخل إسرائيل.. انقسام بين نتنياهو والجيش بسبب الحرب على غزة

الحكاية ليست أولوية فى قصص مينا ناجي، بل هى مجرد هيكل عظمى خفى. الأهم لديه كيف يُعرَض العالم، وتحديدًا كيف تنفتح شخصياته لتصل عبر جسور الكلام بين حياتها الداخلية والعالم المحيط بها، وهذا ما حققه بهدوء وأناقة فى هذه القصة، وأهم ما فيها عندى قدرتها على بث نَفَس شِعري، من ناحية الصياغة والرؤية على السواء، فى كل فقرة من فقراتها. لقد بدأ مينا ناجى بالشِعر، وسرعان ما هجره إلى القصة والرواية ثم الكتابة الإبداعية عن تجارب ذاتية، لكنَّ ثمة شاعر لم يزل حيًا فى داخله، لكنه لحُسن الحظ ليس شاعرًا غنائيًا يعتمد بالكامل على الصور البلاغية المزوقة والمنمقة، بل هو شاعر يفكّر بالصورة ويشعر عبر اللغة ويمنح ذلك شَكلًا متسقًا فى نثره وقصصه.