هل نسى الأدب المصري النصر المجيد؟

نجيب محفوظ -توفيق الحكيم - يوسف إدريس
نجيب محفوظ -توفيق الحكيم - يوسف إدريس

د. عمرو منير

بالرغم من ثقل هزيمة عام ١٩٦٧ والتى تحولت إلى نكسة إلا أن الشعب المصرى استفاق منها بسرعة لتبدأ بعد أيام منها الدولة المصرية فى كتابة أول حروف حرب الاستنزاف الباسلة والتى كبدت العدو الصهيونى خسائر فادحة امتدت لسنوات تم خلالها الإعداد المتأنِّى والمثابر لعبور القناة وخط «بارليف» الذى حال بيننا وبين تراب سيناء المقدس حتى جاءت اللحظة الحاسمة من خلال جنود من أبناء المصريين الذين صنعوا بروح الثأر نصر أكتوبر الذى طال انتظاره..

بينما كان نصر أكتوبر لحظة فارقة فى تاريخ المصريين والعرب بشكل أشمل إلا أن ما عبَّر عن تلك اللحظة الحرجة من الأدب المصرى لم يكن متناسقًا مع حجم التضحيات البشرية المبذولة والتكاتف الشعبى ومما لا يشرح الحالة الدقيقة لقسوة العيش فى وطن اُغتصب جزءٌ من أرضه عنوة وتاه أبناؤه من المحاربين فى صحراء غاضبة من هذه النكسة النكراء!

 يتوافق هذا الطرح مع رأى بعض النقاد مثل مقال الناقد عطا درغام المنشور فى «الحوار المتمدن» بتاريخ 2 مارس عام 2022 والذى أكد فيه أن أدب أكتوبر قد تخلف عن مواكبة الحدث فجاء الإبداع المتعلق بها فى بداياته فى شكل مقالات قصيرة، والقليل من القصائد والقصص التى اتسمت بالطابعَـين الانفعالى والحماسى مفسرا ذلك بأن الإبداع الأدبى المركب يحتاج إلى ما هو أكبر من الاندفاع الشعورى والانفعال المتحمس.

تجنب كبار الكتاب فى الوقت المباشر التالى للحرب تناول أجواء حرب أكتوبر فى عمل أدبى واكتفوا بالمقالات التى عبرت عن انبهارهم بهذا النصر من هؤلاء الأدباء والمفكرين الكبار نجيب محفوظ، وعبدالرحمن الشرقاوي، وتوفيق الحكيم ويوسف إدريس، حيث أدركوا أن تناول هذا الحدث الضخم لن يتم على عجل خصوصا وما يحيط به من أبعاد سياسية  واجتماعية واقتصادية متشابكة ومعقدة.

رواية «الرصاصة لا تزال فى جيبي» للكاتب الراحل إحسان عبد القدوس كانت من النماذج الأدبية الأولية التى كُتبت على مرحلتين المرحلة الأولى تناولت أسباب الفساد السياسى والاجتماعى الذى أدى إلى النكسة ونشرها الكاتب تحت عنوان «رصاصة واحدة فى جيبي» ثم عقب حرب ٧٣ جاءت المرحلة الثانية والتى تناولت العبور المجيد لتتحول الرواية إلى فيلم سينمائى تحت نفس الاسم. 
بعد سنوات من حرب أكتوبر وبعد أن بدأ المثقفون العرب فى استيعاب ما حدث فى أيام العبور.. تدريجيا ظهر إلى سطح الساحة الأدبية العربية مجموعة من الصنوف الإبداعية من شعر وقصة قصيرة ورواية ومسرح والتى صدرت تباعا عقب الانتصار وإن كان بعضها جاء فى صورة توثيقية كما فى المجموعة القصصية للكاتب الراحل جمال الغيطانى والمعنونة باسم «حكايات الغريب» والتى صاغها الكاتب من وحى عمله كمراسل حربى أثناء المعركة مما أعطاه القدرة على رسم الشخصيات والتى كان معظمها من البسطاء، وجاء الغريب ليكون رمزا لأى مصرى من أهل هذا البلد يتحول فى وقت الحرب إلى مقاتل شرس يدافع عن وطنه وقت الحرب ليتحول إلى أيقونة محلية لفدائى يتناقل سيرة بطولاته أهل السويس البواسل. 

وبالإضافة إلى حكايات الغريب جاءت رواية الغيطانى «الرفاعي» التوثيقية لتتناول سيرة العميد الرفاعى والذى استشهد اثناء أحدى العمليات الفدائية خلف خطوط العدو بعد أن كبد العدو خسائر فادحة!
وبعيدا عن الروح التوثيقية للسرد فقد توالى بعد الحرب عدد من الأعمال الأدبية من قصة ورواية ومسرح والتى قاربت الحرب من أبعادها الأعمق حيث تحليل أسباب الهزيمة فى مختلف صورها من أسباب اجتماعية وسياسية واقتصادية وصولا الى مراحل الاستعداد للحرب من استدعاء روح المقاومة والتعبئة الجماهيرية الحقيقية البعيدة عن البروباجندا» الإعلامية من أمثلة هذه الأعمال الأدبية العميقة الطرح لتلك الأبعاد السابق ذكرها رواية الأديب الكبير يوسف القعيد «الحرب فى بر مصر» والذى حلل من خلالها القرية المصرية بشكل يوضح الخلل الهيكلى فيها من عمدة فاسد من عائلة عريقة يقرر إرسال شاب ينتمى إلى فقراء الفلاحين بدلا من ابنه إلى الحرب بعد أن استخدم كافة أدواته «البيروقراطية» للتلاعب فى الأوراق الرسمية ومن خلال الأحداث يتبين للقارئ أن سبب الهزيمة الحقيقى ليس صدفة أو مؤامرة ولكنه متوقع فى ظل طغيان مناخ ملوث قوامه القهر والفقر والتهميش!

من الروايات التى عاش صاحبها أجواء حرب أكتوبر كمقاتل رواية «دوى الصمت» للكاتب الضابط المتقاعد علاء مصطفى والرواية صدرت فى وقت متأخر بعد عقود من نصر أكتوبر عام 1995. بالرغم من معايشة الكاتب لأحداثها ولكن العمل لم يحمل الروح التوثيقية فحسب بل امتد لتقييم الحرب نفسها بشكل إنسانيٍّ بعيدٍ عن الانتماءات وأنها تحمل الكثير من الأهوال و المآسى وهنا يتضح نضج الكاتب وابتعاده عن الخطاب الإنشائى الفخور بالنصر.

وبالعودة إلى التناول الوثائقى للعبور فقد جاءت قصة «الخروج من حفر الدفاع السلبي»، لتكون سيرة مباشرة صاغها الجندى السابق حسن عطية أحد المقاتلين الذين عملوا على إدارة بطاريات صواريخ «سام7» وساهموا فى تأمين عملية العبور لقواتنا الباسلة، عن طريق صيد طائرات العدو.


من الروايات الحديثة نسبيا وتناولت الحرب ولكن هذه المرة حاول كاتبها التعرض لأبعاد جديدة فى معركة أكتوبر رواية «زهر الخريف»  للكاتب عمار على حسن والذى صاغ روايته فى إطار من الوحدة الوطنية حيث يحارب صديقان جنبا إلى جنب فى صحراء سيناء أحدهما مسيحى والآخر مسلم وتنتهى الرواية باستشهاد كلٍ منهما فى ظروف مختلفة ويتحقق النصر ولكن دون أن يعودا به إلى موطنهما فقد ضحَّيَا بحياتيهما من أجل هذا الهدف السامي!

مع تقادم الزمن فإن حدث أكتوبر الضخم يكشف عن نفسه وعن العديد من الأحداث الخافية عن الجمهور والتى أكدت تلك الروح القتالية العالية للجندى المصرى مثال على ذلك رواية «موسم العنف الجميل»  لفؤاد قنديل الصادرة عام ٢٠١٢ والتى صاغها الكاتب بناءا على استماعه لشريط مسجل استمع خلاله لجندى إسرائيلى يرسل رسالة صوتية إلى أسرته، ويستغيث فيها بقادته بعدما داهمته النيران داخل حصن منيع لا تؤثر فيه الصواريخ ومن خلال الأحداث يتبين للقارئ مدى الرعب الذى عاشه جنود العدو أثناء المعركة!

من خلال هذا العرض المكثَّف السريع يتضح للقارئ النسق الذى سارت عليه العملية الأدبية المواكبة لحرب أكتوبر فقد أثارت صدمة الحرب الخاطفة خيال الأدباء المصريين ليكتبوا أعمالا بعضها توثيق والبعض الآخر يوضح أسباب الخلل الهيكلى المؤدى للهزيمة لتنحسر تلك الدفقة الإبداعية وتنزوى شيئا فشيئا مع مرور الزمن، ومع توالى الأحداث السياسية والاقتصادية وما واكبها من تغيرات اجتماعية جعلت أدب حرب أكتوبر منسيا بشكل كبير فى المشروع الأدبى المصري، وما تم إنتاجه من أعمال أدبية من رواية وقصة ومسرح لم يجارِ قوةَ الحدث الضخم وما أحدثه من زلزال سياسى أحدث تغييرات حادة فى عالمنا العربى أعادت مصر مرة أخرى لخريطة القوى العسكرية الإقليمية ليحسب لها منذ عبور أكتوبر المجيد ألف حساب.

اقرأ أيضا: ما قبل النصر| ملحمة تدريبات وإعداد معنوي وعودة الثقة