رسائل المثقفين العرب إلى غزة

عماد أبو صالح .. شاعر مصرى يكتب :أصدقاء الحياة

عماد أبو صالح
عماد أبو صالح

تتجلَّى عبقريِّة الفلسطينيين عبر نضالهم الطويل البطيء، في قدرتهم على تحويل مفهوم الوطن من حدود جغرافية إلى فكرة معنويِّة، من تراب إلى حلم، ومن رقعة مكانيِّة إلى هويِّة كونيِّة.

أدرك الفلسطينيون باكراً أنهم لا يستطيعون الانتصار بالآلة العسكريِّة، فراهنوا على القوة الروحيِّة. بهذا المعنى يمكن لقوات الاحتلال مصادرة التراب، لكن يستحيل عليها مصادرة الروح. هكذا صارت فلسطين في ملابس الفلسطينيين وحقائبهم وأغانيهم وزيتونهم وقهوتهم وأشعارهم وجنازاتهم وأعراسهم وسجونهم ومخيَّماتهم وشتاتهم ومنافيهم، وفي كوابيس جلَّاديهم. صارت فلسطين في احتلالها، أكثر حضوراً من امتلاكها. بثَّ الفلسطينيون روحهم في مفاصل وتفاصيل الحياة، ولا يمكن اقتلاعهم من الحياة.

لقد خسر اليهود بإقامة الدولة العبريِّة، أعزَّ ما فيهم. خسروا شرفهم التاريخي في «الشتات» بكل لوعته وروعته. كان انتشارهم في كافة بقاع الدنيا هو الوطن الحقيقي لهم وملتقى تعايشهم ومفجِّر إبداعهم. خسروا أرض الله الفسيحة، وحبسوا أنفسهم في مساحة جريحة. صاروا قتلة ومجرمين، بعد أن كانوا شعراء وفنانين (هل كان كافكا سيكون كافكا هناك؟). صارت «أرض الميعاد» كابوساً ثقيلاً، بدلاً من أن تبقى حلماً جميلاً. كلما سرقوا شبراً من فلسطين، اتسعت فلسطين خارج فلسطين. صارت فلسطين زنزانتهم، ووطن كل أحرار العالم. هي خيمة لا مخيَّماً. عضَّة دائمة في الضمير، وجرح مفتوح في الروح. أحيانا يتهيَّأ لي أن الله اصطفاها دون غيرها لهذه المحنة المؤلمة، لتكون مالكة العدل وملكة الحقيقة.

لسطين نبيَّة لا ضحيَّة. فخر لا قبر. أنا واثق أن مغتصبيها سيرحلون ذات يوم. ثقتي حقيقيَّة، لا هي حماسة ثوريَّة ولا أمنيات رومانتيكيَّة. سيحزمون حقائبهم، ويسلِّمون مفاتيح البيوت لأصحابها، ويرحلون. سيشكرونهم على هذه الاستضافة المؤقتة. سيعتذرون لهم بعد أن تعلَّموا منهم، أن الوطن معنى لا مبنى، أن حلم الحريَّة يهزم حديد البندقيَّة، وأن «حق العودة» أقوى من «إفك الوعد».