قالت إنه يتمتع بتسامح وضمير إنسانى كبيرين: ستيفكا: لو أن الطواويس تطير يا بهاء!

ستيفكا
ستيفكا

«أحببتها حبًا صامتًا، كحب الشمس للشروق، لكنى كنتُ بائسًا فى هذه الفترة، وكان شىء يغلُّ لسانى، وكانت جميلة، كجمال بريق ضوء القمر. لم يطرأ على بالى أن أنزلق، كنتُ أعتبر أن اقتحام قلب امرأة فى هذا التوقيت بالتحديد لا يعدو أكثر من انزلاق برىء، رغم براءته لم أمِل منه».. هكذا وصف بهاء طاهر علاقته بحبيبته وزوجته السويسرية ستيفكا أنا ستاسوفا، التى وجد فيها عزاءً كبيرًا عن كل شىء، سواء أثناء وجوده فى جنيف، أو بعد عودته لمصر، لهذا لم يكن غريبًا أن تصير ملهمته الأصيلة فى معظم كتاباته، هى التى أخبرته منذ البداية: «أنا مؤمنة بقضيتى معكَ، وسأفوز بها يا بهاء».

تعرفت ستيفكا على بهاء طاهر فى أواخر الثمانينيات، فقد كان يعملان سويًا فى «الأمم المتحدة»، هى فى القسم الروسى، وهو فى القسم العربى، وكانت تقابله كل صباح، فتقول له: «بونجور»، فيرد: «بونجور»، وصباح تلو آخر، توطدت علاقتهما التى كان فيها من التحفظ أكثر من الاقتراب. تحكى ستيفكا التى التقينا بها فى أحد الأماكن المفضلة لبهاء وهو مكتبة «ديوان» أنها لم تعرف قبله شخصًا لديه هذا القدر الكبير من التسامح، والضمير الإنسانى، والأفق الواسع، والانفتاح الثقافى. لقد تعجبت مثلًا أنه كان يحب الأدب الروسى، فقد كان يقرأه إما بالعربية أو بلغة وسيطة، كالفرنسية أو الانجليزية، فهو لم يكن يقرأ أو يتحدث الروسية. وقد جعلها هذا تشعر أن بينهما أشياء مشتركة.

تقول: «مع الوقت عرفتُ أن ظروفنا الاجتماعية واحدة، فقد كان مثلى مُطلقًا، وله أبناء، وامتدت بيننا اللقاءات والمحادثات، كنا نتقابل ونشرب القهوة كل صباح، نتحدث كثيرًا فى الحياة وفى الفن والسينما والأدب، غالبًا لم نترك شيئًا إلا وتطرقنا للحديث فيه».

سألنها: «هل هذا كل شىء؟»، ضحكت ستيفكا وقالت بعربية مكسرة: «بالطبع لا، كان هناك الحُب».
لم يمر وقتٌ حتى تزوجا، وفى قسم «العربى» بـ«الأمم المتحدة» كانت دهشتهم بالغة، فقد حكى بهاء طاهر فى كتابه «السيرة فى المنفى» أنهم كانوا يعرفون أنه يميل للعزلة وعدم التحرك كثيرًا، انطوائى معظم الوقت، عكس ستيفكا «كانت متوقدة، تخرج إلى الجبل، وتصعد إلى قمته، تمشى معظم الوقت، تمارس الرياضة بأنواعها، فقد كانت حياتها مليئة بالمغامرة، والبذل البدنى والعاطفى، وقد اعترفت بعد ذلك أن علاقتنا هادئة، تخلو من المغامرة، من هذه العلاقات التى تنضج على مهل وفى بطء».

تخبرنا ستيفكا أنه كان صريحًا معها لأبعد حد، فقد أبلغها قبل الزواج أنه بمجرد أن يصل للمعاش، سيعود إلى بلده، وأنه ليس لديه مانع فى أن تواصل هى عملها فى «الأمم المتحدة»، وبالفعل عاد بهاء طاهر عام 1995 إلى مصر، وظلت هى تعمل بأقصى جهدها فى أيام الإجازات الأسبوعية، حتى تستطيع أن تأخذ كل عام إجازة طويلة وتسافر له، وكان هو أيضًا يسافر لها من حين لآخر. تقول بأسى: «لقد عانينا كثيرًا، ما دفعنى لأقترح عليه أن أترك عملى وأستقر معه فى مصر، فرفض بشدة، لأنه كان يعرف أننى مرتبطة كثيرًا بعملى، إلى أن وصلت للمعاش، وقررت الاستقرار معه فى مصر».

لم يكن بهاء طاهر كاتبًا مشهورًا حين تزوج ستيفكا، وكان قد قضى فترة طويلة لم ينشر فيها شيئًا، أو يكتب عنه أحدٌ، وتعد رواية «خالتى صفية والدير» أول عمل ينشره بعد علاقتهما، لهذا تعتبر ستيفكا هذه الرواية أقرب الأعمال لقلبها، إلى جانب مجموعته القصصية «بالأمس حلمت بك»، وقد كانت ستيفكا تحرص طيلة الوقت على أن تقرأ له، خاصة الأعمال التى يتم ترجمتها، فهى تتقن -إلى جانب الروسية- البلغارية والصربية، وقد تُرجمت بعض من أعماله إلى هذه اللغات الثلاث.

وعن طقوسه فى الكتابة، تقول ستيفكا إن بهاء كان يميل إلى الهدوء والعزلة، وكان لا يُلزِم نفسه بساعات عمل إلا فى حال اشتغاله على رواية أو مجموعة قصصية أو مقالة، وكان فى الغالب يكتب فى الليل، فهو يحب السهر، وكان لا ينام إلا فى الرابعة صباحًا. أما فى الأيام العادية فكان يقضى معظم وقته فى القراءة وفى الاستماع إلى الموسيقى الكلاسيكية ومتابعة الأحداث السياسية، وأحيانًا كان يخرج ليلتقى بأصدقائه. وعندما سألنها عن أصدقائه المقربين، ذكرت ستيفكا كلًا من محمد البساطى وجميل عطية إبراهيم والسفير محمد توفيق.

-لكن ماذا عن الإلهام، هل ترى ستيفكا أنها كانت ملهمته مثلما كان يرى هو؟
ضحكت بخجلٍ ثم قالت: «لا أستطيع الجزم بذلك، فبهاء لم يكن يتناقش حول أفكاره مع أحد، خاصة أثناء الكتابة، كما لا أستطيع القول إننى كنت نافذة ثقافية له، لأنه كان مُنفتحًا على الثقافات كافة».

-وماذا عن جينيف، كيف توطدت علاقته بها كمدينة؟
قالت ستيفكا إن علاقته بجينيف كانت شائكة ومرتبكة فى السنوات الأولى كغيرها من العلاقات، لكنه مع الوقت استطاع أن يكوِّن صداقات ويخلق فيها ذكريات، وصارت بشكل ما بلدًا ثانيًا له.

فى «السيرة فى المنفى» يروى بهاء طاهر أن ستيفكا كانت تحاول دومًا إقناعه بأن ما زرعه فى الغربة كان مثمرًا دومًا، فكان يقول لها: «لم أزرع شيئًا هناك يا ستيفكا، صدقينى، أنتِ الشىء الوحيد الذى يمكن أن أزعم بصدقٍ أن الغربة منحتنى إياه».

اعتادت ستيفكا أن تمزح معه كلما اختلفا فى النقاشات ووجهات النظر قائلة: «لو أن الطواويس تطير يا بهاء»، فييرد عليها قائلًا: «ولكن الناس جميعهم يحبوننى».

تؤكد: «لقد كانت بالفعل محبوبًا ويتمتع بحضور طاغٍ وكاريزما هائلة، فلم يكن يغلق بابه فى وجه أحد، خاصة الشباب، كما كان شديد التعاطف، والحساسية، ولو كان عائشًا وشاهد الأحداث التى تمر بها فلسطين هذه الأيام، لبكى بحرقة، مثلما فعل عندما شاهد أحداث صبرا وشتيلا».
لم نكن نريد أن ننهى الحديث مع «ستيفكا أنا ستاسوفا» لكنها اعتذرت بلطفٍ وقالت إنها تشعر بالإرهاق، فكان سؤالنا الأخير لها: «لو أن بهاء معنا الآن، ماذا تقولين له؟»، قالت بصوت ممتزج بالبكاء: «تمنيت أن تظل معى للأبد، وألا تموت أبدًا».